لا تنطبق نظرية أن "العدو المشترك يوحِّد" كثيراً على الوضع العراقي، فالتهديد الذي مثّله صعود تنظيم داعش وسيطرته على عدة مدن عراقية، بل ومحاولته تهديد عاصمة البلد، بغداد، وعاصمة إقليم كردستان، أربيل، في اوج اندفاعه العام الماضي، لم يؤد إلى تحول بالمعنى الاستراتيجي لكيفية إدارة شؤون البلاد، وإلى قدر كافٍ من التضامن خلف رؤية موحدة وعلى أساس القاعدة التقليدية القديمة التي تفترض ان "الوحدة هي مصدر قوة".
فبالرغم من حجم الصدمة التي خلّفها صعود داعش، إلّا أن هذا التنظيم لم يعد يمثل تهديداً جدّياً خارج حدود المناطق التي سيطر عليها فعلاً. فاستراتيجية الاحتواء التي مورست ضده أسهمت في إفقاده الزخم الذي أمّن انتصاراته السابقة، كما أن طبيعة تركيبته وإيديولوجيته تجعله بالضرورة أسير نطاق جغرافي محدود يمثله "الفضاء السني" في العراق. بهذا المعنى، صار داعش وعلى نحو كبير "مشكلة سنية"، بسبب العجز العميق عن إظهاره كمشكلة عراقية وصياغة سردية وطنية عراقية مقبولة تؤطّر المواجهة معه.
صراعات جديدة
مثّل داعش ذروة عملية تقويض العراق ككيان وكفكرة، وكان بإمكان الهجوم المقابل ضده أن يعمل على استعادة العراق ككيان وكفكرة باعتباره ضرورة من ضرورات المواجهة. لكن ذلك لم يحصل خارج دائرة الخطاب السياسي الاستعراضي، مرة بسبب عجز النخب السياسية عن التعالي فوق المصالح الحزبية والأهداف قصيرة الأمد، وتارة بسبب تنافس اللاعبين الخارجيين الذين وجدوا في الفراغ العراقي - كما السوري - فضاءً مناسباً لتفريغ فوائض قوتهم بحثاً عن مزيد من النفوذ. لم تظهر استراتيجية عراقية أو دولية تقوم على استعادة وحدة المجتمع السياسي العراقي كسبيل ــ ربما هو الأقل كلفة ــ للخروج من مأزق تفكك الدولة ما بعد الكولونيالية في هذا الجزء من عالمنا، تفكك مشكلته الأساسية انه لا يجد وريثاً قابلاً للحياة ومؤهلاً لحل الإشكاليات الناتجة عن تراكمات الحكم السيئ وتراث الإقصاء لعقود طويلة. لا يبقى عندها سوى الفراغ الذي سمح بالأصل لشيء مثل داعش بالتمدد ويسمح لكل أنواع التشرذمات المحلية بابتداع أنماطها الاجتماعية التنظيمية التي عبّرت عنها مؤخراً صدامات العشائر بل وقيام عشيرة جنوبية باستعراض عسكري!
ولأنّ الصراع مع داعش لم ينتج استجابة موحدة، بل تنافساً آخر حول من تعرض لظلم أكبر وقاتل بحرص أكثر الخ..، فإنّ الطبيعة التي تدار فيها السياسة ومهام الحكم لم تخضع لتغيير كبير. الأهم من ذلك، أنّ تراجع العوائد النفطية المصحوب بتزايد الشكاوى السكانية وتنامي السخط لدى قطاعات شبابية تزداد اتّساعاً بسبب غياب أفق لمستقبل أفضل، يدفع إلى مزيد من "تفتت المفتت"، حيث تتصاعد الصراعات على مستويين، الأول بين مراكز القوى المهيمنة التي تتنافس حول الموارد وهي تصبح أكثر ندرة، والثاني بينها وبين قطاعات اجتماعية تتعبأ وراء الفعل الاحتجاجي - السلمي أو العنيف - في التعبير عن مطالبها.
رأينا ذلك يحدث في الاحتجاجات التي انطلقت منذ تموز/يوليو الماضي في المناطق الشيعية، وفي تلك التي بدأت هذا الشهر في كردستان، وتحديداً في مدينة السليمانيّة. فالصراع مع داعش والأزمة الاقتصادية خلخلا بعض التوازنات القديمة وبدآ يصنعان فراغات تبحث عمن يملأها.
التنافس الشيعي - الشيعي
فتح الصراع مع داعش الباب أمام محاولة إعادة بناء التوازنات الشيعية التي كانت تتحدد سابقاً بثلاثة عوامل رئيسية: القوة على الأرض، والوزن الانتخابي، وحجم شبكة الأتباع في أجهزة الدولة. ظهور قوات الحشد الشعبي خلق عاملاً رابعاً هو مدى الانخراط في الصراع مع داعش والقدرة على توظيف ذلك في كسب شرعية اجتماعية وسياسية أكبر. لذلك تسابقت جميع القوى الرئيسية على إحياء تشكيلاتها المسلحة والدخول في مزاج التعبئة العسكرية سعياً منها للفوز في هذا التنافس الشديد. لكن في النهاية، فإن القوى التي لديها استعداد عسكري أفضل وخطوط دعم وإمداد أكثر تطوّراً، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، برزت بوصفها القوى القائدة في الحشد الشعبي، واستثمرت هذا البروز لمحاولة تعزيز رأسمالها السياسي وتعديل التوازنات القائمة لصالحها. أدّى ذلك إلى ظهور استقطاب بين هذه القوى من جهة، وتلك التي تشعر أنّها ضمنت مصالحها أكثر في صفقة تشكيل الحكومة الرّاهنة، وتشعر بالتهديد من أن يكون تحوّل التوازنات في غير صالحها. وهو تحديداً موقف التيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى وجناح العبادي في حزب الدعوة.
هذا الاستقطاب سرعان ما اكتسب بعداً جديداً بعد اندلاع حركة الاحتجاج المطالِبة بإصلاحات، فبينما حاولت قوى الحشد إظهار الاحتجاج على أنّه تأكيد على رغبة شعبية بتعديل الخريطة السياسية، إلى حد المطالبة بنظام رئاسي والإعلان عن "حشد مدني"، فإنّ القوى الأخرى حاولت توظيف الاحتجاج لتقوية الحكومة الحالية وتوجيه الإصلاحات نحو نزع مخالب رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، المتحالف مع بدر والعصائب والكتائب، باعتباره يؤسس لدولة داخل الدولة ويعرقل المضي قدماً. من هنا بدأت خطة الإصلاح بإعلان العبادي عن تنحية المالكي وبقية نواب رئيس الجمهورية، وافراج اللجنة التحقيقية، التي يقودها نائب صدري في البرلمان،عن تقريرها المتعلّق بالتحقيق في سقوط الموصل والذي يدين المالكي ويحمله جزءاً كبيراً من المسؤولية.
بدأ الاستقطاب يأخذ بعداً إضافياً مع تنامي التنافس الإيراني - الأميركي في الساحة العراقية، وتبني الإيرانيين لمنظور يُدرج الساحة العراقية في إطار الصراع الإقليمي الأوسع الذي يشمل أيضا الساحة السورية، بينما سعى الأميركيون إلى تبني صيغة العراق أولاً، وإنضاج حل عراقي للصراع مع داعش يقوم أساساً على تأسيس قوة سنية شبه مستقلة ومرتبطة بهم لتملأ الفراغ بعد انسحاب داعش، ولتكون – ضمناً – حاجزاً أمام امتداد النفوذ الإيراني إلى العمق السني. وجد العبادي نفسه بين ضغطين متعارضين، أحدهما إيراني أداته الرئيسية الميليشيات النافذة في الحشد الشعبي، ويشكك بعمق بالدور الأميركي، وضغط أميركي أداته الأساسية المساعدات والعمليات العسكرية والغطاء الجوي الأميركي، فضلاً عن النفوذ الدولي المهيمن للولايات المتحدة. حاول العبادي، كما فعل سلفه المالكي من قبل، المناورة والموازنة بين الطرفين، لكن قدرته على مسك العصا من الوسط قد تتراجع إنْ تصاعد هذا الاستقطاب، أو إنْ قرر كل طرف أن يتصرف بمفرده وبمعزل عما تريده أو لا تريده حكومة العبادي.
لا يُحتمل أن يختفي قريباً الاستقطاب المحلي، المرتبط والمرهون لاستقطاب خارجي، لكنه قد يقود الى مزيد من التفكيك لمؤسسات الدولة ونمو نفوذ التشكيلات الموازية والنمط الإقطاعي للإدارة، بينما يجد العبادي نفسه غير قادر على بلورة سياسة واضحة ومتجانسة، ولا على تنفيذ ما وعد به من إصلاحات. وحينها سيكون هو ضحية تنامي الصراع الشيعي - الشيعي الذي بدأ، كما في صراعات تاريخية سابقة، يأخذ أيضاً شكل تنافس بين مرجعيتين، واحدة حركية يقودها المرشد الأعلى في إيران، والراغبة بموضعة الفعل الديني في إطار إيديولوجيا سياسية واسعة، والثانية محافِظة، وتمثلها مرجعية السيستاني، الراغبة بحفظ الفضاء الخاص للمجال الديني وعدم أدلجته أكثر.
التنافس الكردي - الكردي
لمدة خمسة أشهر، لم يتسلم الكثير من موظفي إقليم كردستان رواتبهم، حيث أدّى إخفاق حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية بالتوصل الى اتفاق حول الإدارة المشتركة لعوائد النفط وما يدين به كل طرف للطرف الآخر، إلى الحد من الموارد التي يحصل عليها الإقليم. وأمام ضغط الالتزامات المتنامية للاقليم تجاه الشركات الأجنبية، ووجود ما يقرب من المليون نازح عراقي و240 ألف لاجئ سوري فيه، ومع ما تستقطعه شبكات الفساد الحزبية والعائلية من الموارد، يجد الإقليم نفسه، وبسرعة تفوق سرعة الحكومة الاتحادية، أمام أزمة اقتصادية خطيرة.
غير أنّ للأزمة باطنها السياسي أيضاً. فالحرب مع داعش سمحت لإقليم كردستان بتوسيع جغرافيته وبات يسيطر على معظم الأجزاء الكردية من الموصل فضلاً عن محافظة كركوك، ويعني ذلك أيضاً تغيير التوازنات الحزبية داخل الجغرافيا الكردية، لأن كركوك الغنية بالنفط هي من مناطق نفوذ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وليس حزب رئيس الإقليم، الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتركز نفوذه في أربيل ودهوك، مع وجود منافس ثالث أصغر هو حركة غوران (التغيير) الصاعدة التي باتت السليمانية معقلها الرئيسي.
تفاقمت هذه الأزمة مع نهاية الولاية الدستورية للبارزاني والفشل في الوصول إلى صفقة بديلة واضحة تشبع رغبة الأطراف الصّاعدة بتحسين وضعها في ميزان القوى، وهو ما قاد تدريجياً إلى أزمة دستورية وإلى تفكّك سريع للتسوية السياسية الفوقية القائمة على شراكة السلطة في أربيل. وبينما زادت الأوضاع الاقتصادية من السخط الشعبي وأدّت إلى اندلاع موجة الاحتجاجات، خصوصاً في السليمانية، ووصلت أحيانا إلى مستوى مهاجمة وحرق مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني، فإنّ القوى الرئيسية تجد نفسها أمام خيارين: إما التوصل إلى صفقة سياسية بديلة يجري بها إعادة توزيع السلطة، أو إلى تقسيم فعلي لمناطق النفوذ بين تلك القوى بحيث يتحوّل حلم كردستان الموحدة المستقلة الذي تعكز عليه الحزب الحاكم في خطابه السياسي، إلى تفتت جديد في داخل الإقليم.
بالطبع، وكما في الحالة الشيعية، فإنّ الاستقطاب الخارجي يلعب دوراً في تعميق الانقسام الداخلي، فبينما راهن الحزب الديمقراطي الكردستاني على علاقات قوية مع الغرب إلى حد تصدير النفط إلى إسرائيل، والاعتماد كثيراً على أنقرة كراعٍ إقليمي، ظل الاتحاد الوطني الكردستاني صديقاً مقرباً لإيران، وبدا أن حركة غوران اقتربت أيضا من إيران، مما يجعل من صراع الأجندات الخارجي عاملاً مؤثراً في الصراع الداخلي.
في النهاية، فإنّ التفتت المتواصل للمُفتت، يؤكد أن مشكلة العراق المركزية ليست وجود هويات غير قابلة للتعايش مع بعضها، كما يحاول أنصار نظرية "الأحقاد القديمة" أن يروجوا له، بل وجود أنماط فاسدة وغير فاعلة للإدارة والحكم، وفجوة كبيرة بين سلوك النخب وحاجات المجتمع، وغياب القنوات المناسبة لإدارة وردم هذه الفجوة التي غالباً ما يتم ملؤها بالخطاب الغرائزي والبحث عن أكباش فداء كوسيلة سهلة للتملص من المسؤولية.