هنالك اتفاق ان نجاح تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) بالسيطرة على الموصل كان مفاجأة كبيرة، بل إن سهولة تحقق هذه السيطرة كانت مفاجأة للتنظيم نفسه. وأن خليطاً من التخطيط والصدفة هو ما يّسر تلك العملية. وجود الصدفة يجب ان لا يغيب حقيقة ان التنظيمات الجهادية تركن الى مستوى من التخطيط الإستراتيجي، والإعداد التكتيكي الذي يمكن في ضوئه فهم ما حصل في العراق وسوريا في الشهور الأخيرة. لقد أخضعت هذه التنظيمات نفسها لعمليات مراجعة طويلة، وشهدت جدلاً وانشقاقات وصراعات في اطار الاختلاف بين تياراتها الفكرية المتعددة، وأيضا بسبب اختلاف على الأولويات، لكنها في النهاية استقرت الى بعض المفاهيم والتصورات التي أخذت تعبر عن «نظريتها السياسية».
الجهاد الانتقالي
مفهوم «ادارة التوحش» كان احدى ثمرات هذا الجدل، ويعكس حالة انتقالية من القاعدة الى داعش، ويعبّر عن نظرية للحكم «الجهادي» في مرحلة الانتقال من سيطرة الأنظمة «الكافرة» إلى عهد دولة الإسلام. في العام 2004، نشر جهادي يكنّى بـ «ابي بكر الناجي» كتاباً يحمل هذا العنوان (وهناك اعتقاد بأن النص هو في الحقيقة عمل جماعي)، ويتحدث فيه عن مرحلة التوحش بوصفها المرحلة القادمة، بعد سقوط الإمبرطوريات الكبرى، ويستعرض عبر التاريخ ظاهرة التوحش تلك التي تصاحب هذا الاختلال، ويتكلم عن الفوارق فيها بين المركز (الإمبراطوري) والاطراف (نحن!). ويرى الكتاب ان هذه المرحلة تبدأ بغياب حكم الدولة في بعض المناطق فتتحول تلك المناطق «بالفطرة البشرية (...) للخضوع الى ما يسمى بـ «إدارات التوحش»، ويعرِّفها بأنها «إدارة حاجيات الناس من توفير الطعام والعلاج، وحفظ الأمن والقضاء بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش وتأمين الحدود...». تسبق هذه المرحلة، ما يسميها الفكر الجهادي بمرحلة «الشوكة والنكاية»، وهي المرحلة التي يتم فيها انهاك جيش العدو وتشتيته واضعاف معنوياته ودفعه للانسحاب من بعض المناطق. وعلى الرغم من ان محور الكتاب المذكور كان يتعلق بتحدي قدرة الولايات المتحدة على ممارسة الهيمنة في المنطقة، وانهاك جيوشها، ودفعها بالنهاية لتركها والتخلي عن دعم النظم القائمة، الا انه تحدث بتفصيل عن كيفية ادارة المناطق التي خرجت عن سيطرة حكومات المنطقة.
يتبنى الفكر السلفي الجهادي موقفاً مزدوجاً تجاه «الشعوب الاسلامية». فهو من جهة يسعى الى «تحريرها» باعادتها الى «فطرتها السليمة» التي يمثلها نوع من الاسلام النقي الذي لم تؤثر فيه شوائب الحداثة والاحتكاك بالحضارات الأخرى، ومن جهة ثانية يتخذ موقفاً متشككاً من الغالبية من أبناء تلك الشعوب ويقر بأنهم قد تلوثوا بفعل سياسات الأنظمة التي حكمتهم، ومن الصعب التعويل عليهم. لكن هذا الفكر يعتبر ان عملية اصلاح تلك الشعوب وتهذيبها واخراجها من «الجاهلية» ستكون مكملة للتحول الذي تطلقه ادارة التوحش وتتوجها عملية تثبيت أركان «الدولة الاسلامية».
لذلك، فان «ادارة التوحش» هي ادارة لفوضى الانتقال، يحاول فيها هذا النوع من التنظيمات تثبيت قواعد له لمواصلة معركته التي تجري في جغرافيا مترامية الاطراف، كما يحاول من خلالها صياغة «المثال» الذي يجذب المجتمعات الاسلامية اليه. فتنظيم داعش يسعى من جهة الى ادارة الحكم في المناطق التي يسيطر عليها بنجاح يجسد جاذبية «النموذج الاسلامي» للعدالة، ومن جهة اخرى الى تجنب ان تتحول سيطرته على تلك المناطق إلى عبء كبير يصعب معه الاستمرار بمشروعه «الجهادي».
مشكلة الشرعية
لم ينشأ «التوحش» بسبب معركة خاسرة او جيش منسحب، انه نتاج لتراكم طويل عمّق الفجوة بين المؤسسات الحكومية وبين المجتمعات المحلية. وهذه الفجوة اندرجت في سياق أوسع تمثل بتآكل الهوية «الوطنية» وشرعية الدولة ما بعد ـ الكولونيالية في المنطقة. لذلك، فمن الخطأ تصوّر أن هذا النوع من التنظيمات يتحرك بمعزل عن أزمة الشرعية تلك، أو بمعزل عن الموارد الثقافية التي تعوض من خلالها تلك المجتمعات عن غياب ادارة سياسية شرعية، والدين يمثل أحد اهم هذه الموارد. ان فكرة «الابتعاد عن الاسلام كسبب لتخلفنا» هي فكرة رائجة في الخطاب الشعبي، والشعور بوجود التصاق بين «العدالة» وبين «الدين» لطالما جرى التعبير عنه في هذا الخطاب. صحيح ان ذلك لا يترجم مباشرة الى قبول بتفسير داعش للدين، لكنه يصنع الأرضية الثقافية لعلاقة جدلية بين التنظيم وبين المجتمعات التي يسيطر عليها، لعملية من الاصطدام والتفاوض بين محاولة التنظيم إعادة تلك المجتمعات لـ»فطرتها السليمة»، ومحاولة تلك المجتمعات إرغامه على تقديم نموذج حكم عادل ومقبول.
تقوم الشرعية هنا على مقومين: الهوية الثقافية والإدارة الناجحة. فالهوية لوحدها لا تضمن حكما ناجحاً، وقد يتآكل مفعولها بغياب أطر حكم فعالة. ومن هنا يأتي الرهان الأساسي في المعركة ضد داعش، أي رهان فشلها في ادارة المناطق التي تسيطر عليها وتحويلها الى «نموذج». يمثل هذا الرهان عصباً اساسياً في الإستراتيجية العسكرية الدولية المتّبعة والتي استهدفت استنزاف قدرات التنظيم، والحد من موارده. فمثلاً، تشير بعض التقارير أن بامكان آبار النفط التي سيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق ان تنتج حوالي 280 الف برميل يومياً، ولكن مع الشك في إمكانية أن يتمكن التنظيم من الوصول إلى الطاقة الإنتاجية القصوى، تقدر بعض التقارير انه ربما يستحصل من بيع النفط على حوالي ثلاثة ملايين دولار يومياً. بالاضافة الى مصادر التمويل الاخرى، كالمبالغ التي حصل عليها من الاستيلاء على البنوك الحكومية (وهو ما أدخل اليه حوالي 250 مليون دولار في الموصل وحدها)، والجباية وبيع الاثار المسروقة والتهريب والفديات والتبرعات الخارجية والجزية.. يمكن القول إن التنظيم يتوفر على موارد دخل مهمة.
وهكذا، «تحول التنظيم من كونه أغنى منظمة إرهابية في العالم، إلى كونه أفقر دولة في العالم» بحسب صيغة يقترحها مراقب غربي تعليقا على سيطرته على تلك المناطق وإعلانه الخلافة. وإذا تعرضت قدراته الاقتصادية الى مزيد من التآكل، فلن يكون سهلاً إدارة مناطق سيطرته وفق نموذج ناجح وعادل للحكم، ومواصلة حربه وجهده العسكري ودفع رواتب أعضائه. ستصبح «ادارة التوحش» أكثر صعوبة بالتاكيد. ولعلمه بذلك، يسمح التنظيم للراغبين من السكان بمغادرة أراضيه للتخفف من عبئهم وربما لمصادرة ممتلكاتهم، بل ويلجأ الى براغماتية سياسية كتخويل الحكم في بعض المناطق للقبائل المتحالفة معه.
الخروج من التوحش
بالنتيجة، فإننا اليوم أمام صراع مستمر حول الشرعية، فهي المفتاح الذي سيقرر مدى قدرة هذا التنظيم على ترسيخ وجوده في المناطق التي سيطر عليها. ولهذا الصراع بعد ثقافي وبعد عملي. فالثقافة تمثل ميداناً مهماً لكسب الأتباع، ليس فقط من بين السكان المحليين، بل وأيضا من «المهاجرين» الأجانب. فالتنظيم يعيد تعريف الهوية ويؤسس لمجتمع عصبيته الاساسية هي نموذجه الديني لا الخلفية الاثنية أو القومية. لكنه في الوقت نفسه يواجه مصدراً عملياً يتعلق بحاجة السكان المحليين الى توفير احتياجاتهم وضمان أمنهم.
وربما تبدو الأخبار القادمة عن تنامي التذمر من التنظيم في الموصل وبعض المناطق اخباراً جيدة، لكنها إن كانت تأتي أساسا بسبب القصف الجوي وتآكل موارد التنظيم، فمعنى ذلك أن أي هزيمة نهائية ومحتملة له وللفكر الذي يقوم عليه تظل صعبة المنال بدون دعم خارجي وضغط عسكري.
لكن هذا الدعم هو تحديداً ما يظل يُسهم في إضعاف شرعية أي سلطة بديلة عبر تقديمها كسلطة «مستندة على الخارج»، كوجود «أجنبي» بأقنعة محلية. والمفارقة هنا هي أن ذلك الضعف في الشرعية هو ما قاد تلك المجتمعات إلى مرحلة «التوحش». تنظيم داعش قد يكون حالة «طارئة» كما يرغب الكثيرون بالمجادلة، لكن الظروف التي صنعت هذه الحالة ما زالت قائمة وستظل كذلك بدون التأسيس لفهم جديد للشرعية، يلبي حاجات المجتمعات المحلية، يتصالح مع مفاهيمها وهواجسها، ويملأ الفراغ الذي خلَّفه فشل نموذج الدولة ما بعد ـــ الكولونيالية. ربما ولسنوات أو عقود قادمة، سيكون هذا هو الاختبار الأساسي لتجنب مزيد من التوحش!