ليس من السهل الكتابة عن العراق الآن، فالوضع السياسي العام منذ إجراء الانتخابات الأخيرة في بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر2021 يزداد تداخلاً وتعقيداً. تحليل الأحداث المتسارعة سيأخذنا في كل الأحوال إلى حقيقة أن عراق ما بعد "حراك تشرين 2019" يبدو مختلفاً عما قبله. يؤكد ذلك ما حدث في الانتخابات الأخيرة هذا العام وتبعاتها. فقد جرت الانتخابات بعد شد وجذب معتادين بين القوى السياسية المختلفة، وفي ظل مقاطعة شعبية واسعة، بعضها كان من قِبل قوى حراك تشرين والمتعاطفين معها، والبعض الآخر من مواطنين لا علاقة لهم بالحراك، لكنهم فقدوا الثقة في العملية السياسية والديمقراطية في البلاد، ووقعت المقاطعة على الرغم من كل حملات الترهيب التي مارستها بعض القوى السياسية والأحزاب الدينية لدفع الناس للمشاركة في الانتخابات.
أثارت نتائج الانتخابات الكثير من الجدل بين القوى المتحكمة بالعملية السياسية في العراق، من كتل وأحزاب وفصائل مسلحة لم تتوقع خسارتها الكبيرة للمقاعد. أتى ذلك بالتزامن مع فوز "حركة امتداد" الجديدة بـ 9 مقاعد، وهي حركة محسوبةٌ سياسياً على حراك تشرين على الرغم من انقسام الحراك ذاته حول مشاركتها في الانتخابات، بين مؤيد ورافض. وخسرت "كتلة الفتح" وبعض فصائل الحشد الشعبي الكثير من مقاعدهم.
أفرز ذلك الجدل صراعات جديدة بين هذه القوى السياسية القديمة أدت إلى احتجاجات حزبية منظمة وصلت إلى حدود المنطقة الخضراء، وأنتجت صداماً مع القوات الأمنية هناك، بالإضافة إلى الاتهامات والتهديدات وردات الفعل العنيفة، التي كان آخرها محاولة الاغتيال الفاشلة التي نفذتها طائرات مسيرة عن بعد على مقر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. كان هناك استنكارٌ دولي رسمي لمحاولة الاغتيال، بينما بدأت تلميحات الكاظمي تشير إلى تورط الفصائل المسلحة المدعومة من إيران.
لماذا فشلت الانتخابات؟
21-10-2021
الطائفية في العراق: هكذا تقاد الدعاية الانتخابية!
20-09-2021
وفي الوقت الذي استنكرت فيه وزارة الخارجية الإيرانية تلك المحاولة، كانت وسائل الإعلام الإيرانية تلمّح إلى أن الحدث من اختراع الكاظمي نفسه - بتورط أمريكا وإسرائيل معه – لكسب تعاطف الشارع العراقي، وشيطنة الفصائل المسلحة، خصوصاً بعد أن أسفرت صدامات محتجيها مع قوات أمن المنطقة الخضراء عن مقتل 3 من المحتجين. تبنى المتحدثون باسم الفصائل هذا الخطاب في الإعلام العراقي أيضاً، واتهموا الكاظمي بترتيب العملية ليبدو وكأنه مستهدفٌ من قبلهم، على الرغم من أنهم هددوه علناً أكثر من مرة. تخبّط خطاب هذه القوى بين الاستخفاف بالكاظمي كشخصية ليست ذات أهمية تارةً، وبين الإقرار تارةً أخرى بأن الاعتداء عليه هو بمثابة الاعتداء على "هيبة الدولة"، دون أن يكونوا مسؤولين عن ذلك. وظهر التخبط مع قدوم إسماعيل قآني، قائد فيلق القدس الإيراني إلى بغداد، وهو أيضاً المسؤول عن بعض تلك الفصائل، للاجتماع معها من جهة، ومن ثم الاجتماع مع الكاظمي من جهة أخرى، وهو ما أنكره ممثلو الفصائل في بادئ الأمر، ثم عادوا وأقروا به لاحقاً.
والمعروف أن هناك اجتماعات متوالية بين "الإطار التنسيقي" (وقد شُكل هذا الإطار بعد ظهور نتائج الانتخابات من مجموعة الكتل والأحزاب السياسية والفصائل الخاسرة في الانتخابات) وبين رئيس الوزراء وبعض قادة الفصائل الشيعية، بينما اعتذر مقتدى الصدر (الفائز في الانتخابات، وصاحب الكتلة الأكبر) عن حضور الاجتماع.
في الوقت الذي استنكرت فيه وزارة الخارجية الإيرانية محاولة اغتيال رئيس الوزراء، كانت وسائل الإعلام الإيرانية تلمّح إلى أن الحدث من اختراع الكاظمي نفسه - بتورط أمريكا وإسرائيل معه – لكسب تعاطف الشارع العراقي، وشيطنة الفصائل المسلحة، خصوصاً بعد أن أسفرت صدامات محتجيها مع قوات أمن المنطقة الخضراء عن مقتل 3 من المحتجين.
وتنتظر الأحزاب والفصائل السنية والكردية، الرابحة منها والخاسرة، لترى من المنتصر وتتحالف معه. يبدو الوضع أشبه بحلبة مصارعة، يحاول كل طرف أن يثبت فيها أنه الأقوى. ويأتي ذلك بالتلويح المستمر بالصراع المسلح، والاستعداد لإعادة جر البلاد إلى "حرب أهلية".
لكن هناك أمراً واضحاً جداً لكل من يراقب الأوضاع في العراق، وهو تغير لهجة الخطاب السياسي ومنهجه. فقد كان الخطاب العام منذ 2003 يعتمد كلياً على اختلاف الانتماءات، خاصة الطائفية منها، وما ترتب عليها من ربط هذه الانتماءات بدول الجوار. فيتعامل الخطاب السياسي على أن العراقي الشيعي ينتمي إلى إيران، وأن العراقي السني ينتمي تارةً إلى السعودية ودول الخليج، وتارةً إلى تركيا.
وتتشتت الأقليات الدينية الأخرى بين مزاجات وتقسيمات تلك القوى، فتارةً يصبحون "أخواناً"، وتارةً أخرى "مكوناً" الخ من التسميات. بينما تشبثت الأحزاب الكردية بالقومية الكردية وبانفصالها عن باقي العراق. وهذا الخطاب استُخدم سابقاً بكل صراحة في وسائل الإعلام، ومن قبل السياسيين المتحدثين باسم القوى حتى في تصنيفهم لأنفسهم. فلم يكن العراق قبل 2019 حاضراً بمعنى الانتماء، بقدر حضور الطائفة والإقليم والاتجاه السياسي. ففي الوقت الذي كان الناس في الشارع يحاولون جاهدين التعايش فيما بينهم، خاصةً بعد تجاوز البلاد حرب الفصائل الطائفية (2006-2008) التي حصدت الكثير من الأرواح، وهجّرت الكثير من العراقيين من مناطقهم، كان الخطاب السياسي يبني كل ركائزه على تلك الطائفية، ويعوّل عليها كمخرج من كل الأزمات السياسية.
تنتظر الأحزاب والفصائل السنية والكردية، الرابحة منها والخاسرة، لترى من المنتصر وتتحالف معه. يبدو الوضع أشبه بحلبة مصارعة، يحاول كل طرف أن يثبت فيها أنه الأقوى. ويأتي ذلك بالتلويح المستمر بالصراع المسلح، والاستعداد لإعادة جر البلاد إلى "حرب أهلية".
أهم مثال على ذلك هو ما حدث في أزمة سقوط مدينة الموصل وقراها في يد تنظيم داعش الإرهابي، وما نتج عن ذلك من مجازرَ بحق كل الطوائف والأديان في العراق. ضجّت حينها القنوات التلفزيونية، ووسائل الإعلام بمراشقات طائفية من سياسيين يحاولون رمي كرة النار على بعضهم البعض بعد أن أثبت جميعهم فشله في حماية البلاد.
إلا أن "حراك تشرين 2019" وما بعده، فرض على السياسيين تغيير ذلك الخطاب. الطائفة ما زلت حاضرةً، بسبب استمرار نظام المحاصصة الطائفية السياسي، والذي تشكل على يد الإدارة الأمريكية إبّان احتلالها للعراق. إلا أن أسلوب الخطاب أصبح يلتف حولها ويُبرز "عراقيته" أولاً. فأصبحنا الآن نسمع كثيراً من السياسيين كلاماً عن "مصلحة العراق" و"هيبة العراق" و"سيادة العراق".. على الرغم من أن هذه المفاهيم ليست بالضرورة ما تؤمن به القوى السياسية المعروفة بفسادها وولاءاتها لغير العراق.
لكن يبدو أن هذه القوى أدركت بعد "حراك تشرين"، الذي استمر فعلياً لمدة سنة كاملة حتى توقفه بسبب الجائحة، وما تلى ذلك من أزمات وانشقاقات سياسية، إن على صورتها أن تتغير أمام الناس التي فقدت الثقة تماماً بالعملية السياسية. وقد ظهر ذلك جلياً في صناديق الاقتراع على الرغم من قلة المشاركين في التصويت، وهي أفرزت واقعاً جديداً ملولاً مما آلت إليه الأمور منذ 2003 وحتى الآن.
مع موسم المهرجانات الثقافية في العراق، يبدو أن الشارع أيضاً يتنفس الصعداء ولو مؤقتاً، مستغلاً انشغال الفصائل والسياسيين فيما بينهم، ليمارس فعل المقاومة الثقافية التي برزت خصوصاً خلال حراك تشرين وما بعده. فشهدنا مثلاً عودة مهرجان بابل بعد انقطاع دام 18 عاماً، حيث اجتمع العراقيون من مختلف المحافظات والخلفيات الاقتصادية والثقافية
الشارع العراقي اليوم يبدو مراقِباً لما سيحدث. البعض لا يرى أملاً في أن تتغير موازين القوى، ويرى أن الحكومة ستعود لتتشكل بالتوافق بين الأطراف المعروفة ذاتها، وأن الانتخابات كانت صوريةً فقط. والبعض الآخر يأمل في بعض التغيير، ويأمل بأن تكون الأزمة الحالية بدايةً لتغيير قد يؤدي في المستقبل (وإن كان ليس قريباً جداً) إلى واقع سياسي أفضل في العراق.
ومع موسم المهرجانات الثقافية في العراق، يبدو أن الشارع أيضاً يتنفس الصعداء ولو مؤقتاً، مستغلاً انشغال الفصائل والسياسيين فيما بينهم، ليمارس فعل المقاومة الثقافية التي برزت خصوصاً خلال حراك تشرين وما بعده. فشهدنا مثلاً عودة مهرجان بابل بعد انقطاع دام 18 عاماً، حيث اجتمع العراقيون من مختلف المحافظات والخلفيات الاقتصادية والثقافية ليغنّوا مع نجومهم المفضلين، ويشاهدوا عروضاً موسيقية وفنية من دول مختلفة، تتغنى أصواتهم بالعراق الذي يتمنون. "بالروح بالدم نفديك يا عراق" و"تشرين تبقى بالقلب" كانت تصدح من مدرجات مسرح بابل الأثري كل ليلة، بعفوية شعبية مطلقة لا طائفة لها. فعل مقاومة ضد كل الخراب الذي تسبب به فساد وطائفية القوى المتحكمة في العراق... التي تحبس نفسها في غرفة في إحدى البيوت في المنطقة الخضراء، تستعرض العضلات والقوة، وتهدد بعضها بعضاً للحصول على المزيد من المكاسب والامتيازات التي تعودت عليها منذ عام 2003. ويبقى العراق معلقاً بين شعب يقاوم الأزمات ويرغب في العيش، وبين أمراء حروب وقوًى حاكمة تصرُّ على أن تحكم بمنطق اللادولة، وتتبنى كل مرة ما يفيدها لتنفيذ ذلك...