بين العامين 2011-2014 شهدت جماعة الحوثيين («أنصار الله») في اليمن تحولات كبيرة، من جماعة مسلحة محظورة لا يجرؤ أعضاؤها على الاعتراف بانتمائهم إليها، ويكاد تأثيرها ينحصر في مديريات محافظة صعدة شمال البلاد، بعدما خاضت ست حروب مع السلطة بين عامي 2004 - 2010، إلى جماعة مشاركة في المشهد السياسي اليمني كطرف في مؤتمر الحوار الوطني. وأصبحت في الوقت نفسه قوة عسكرية توسعت على الأرض، لتتحول إلى قيادة ما تسميه «ثورة شعبية»، محاصرة العاصمة صنعاء من جميع منافذها. طالب الحوثيون بإطاحة حكومة الوفاق الوطني وإعادة الدعم للمشتقات النفطية الذي ألغته الحكومة أواخر تموز/ يوليو الماضي، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. حاصر الحوثيون العاصمة، ونفذوا عدة تظاهرات أسبوعية ضد الحكومة. ولم يتراجعوا عن خطواتهم التصعيدية.
ما هي العوامل التي ساعدت الجماعة على هذا التحول الكبير في وضعها وقدراتها وسياساتها خلال سنوات قليلة، وما الذي يمكن أن تؤدي إليه هذه التحولات في مستقبل اليمن المنظور؟
الحوثيون في ثورة شباط/ فبراير
انضم الحوثيون إلى الجموع المشاركة في انتفاضة شباط/ فبراير2011، وشاركوا مع خصومهم التقليديين (الإخوان المسلمين) بإسقاط نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
لكن هذه المشاركة لم تكن تحالفاً بأي شكل، فقد كان لكل منهما أهدافه وخطته لما بعد صالح. وبدأت الأمور تتضح حين رفض الحوثيون التوقيع على «المبادرة الخليجية» (تشرين الثاني/نوفمبر 2011) كمخرج لما بات يسمى بالـ«أزمة» بدلاً عن «الثورة». سلك الحوثيون درباً خاصاً بهم، استطاعوا فيه استقطاب بعض الشباب المستقلين والقيادات اليسارية التي رفضت «المبادرة الخليجية» واعتبرتها التفافاً على الثورة. وأصبح الإخوان وحلفاؤهم في نظرهم «خونة للثورة» وعادوا إلى سابق عهدهم كخصوم للجماعة الحوثية التي رفضت رفع خيمها وسحب مؤيديها كما فعل الموقعون على المبادرة، فبدوا وكأنهم القوة الثورية الوحيدة المستمرة، حتى في حال عدم قيامهم بأي نشاط باستثناء بقائهم في ساحة التغيير منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 حتى اللحظة.
كسب الحوثيون شرعية جديدة لهم كطرف رئيسي من أطراف المشهد اليمني بعد 2011. وبينما رفضوا التوقيع على المبادرة الخليجية، قبلوا المشاركة في الحوار الوطني، وهي مفارقة غير مفهومة، حيث إن الحوار هو أبرز البنود التنفيذية للمبادرة تلك. وقد فرضوا أنفسهم في الحوار كرافع لقضية صعدة، أحد محاور الحوار الــ9 ، وكشريك سياسي معترف به رسميا. لكنهم لم ينشغلوا بالقضايا الاخرى، ولم يوقفوا عملهم المسلح على الأرض أثناء انعقاد مؤتمر الحوار وبعد انتهائه، فخاضوا خلال عام واحد أكثر من 9 معارك متفرقة، أبرزها معركة صعدة وعمران، وكان طرفها الآخر حزب «الإصلاح الإسلامي» (الإخوان المسلمون) وحلفاءه القبليين والعسكريين، ولو لم يعلن «الإصلاح» ذلك رسميا.
اللعب على التناقضات
ركز الحوثيون على خريطة تحالفات القوى المعادية لهم ومكامن قوتها وضعفها، وأجادوا الانقضاض على كل منها في الوقت المناسب، وبشكل منهجي، لتصفية الجغرافيا بين صعدة وصنعاء من خصومهم (خرجت محافظة صعدة من قبضة الدولة إلى قبضتهم بعد مغادرة محافظها المعين من الدولة وتنصيب محافظ جديد حليف لهم في 2011). بهذه الطريقة تمكن الحوثيون في مطلع 2014 من تهجير آلاف السلفيين من مركز دماج، بعد معركة شرسة معهم استمرت عدة أشهر، في ظل انشغال السلطة بترميم الشروخ المستمرة في جدار الحوار الوطني وعدم قدرتها على إضافة أي شرخ آخر.
بنقلة سريعة، توجهت بوصلة الحوثيين نحو المحطة القادمة الأهم من دماج، والتي استهدفت مركز أبرز الأسر القبلية نفوذاً وقوة في اليمن (آل الأحمر)، والتي ساندت السلفيين في حربهم مع الحوثيين قبلها بشهر واحد. تمكن الحوثيون إذاً من السيطرة على معقل القبيلة وكسر شوكة زعامتها رمزياً بتفجير منزل الشيخ الأحمر. وقد استفادوا من نقطة ضعف خصومهم حينها، وهي خلافهم (كقيادات إخوانية في اليمن) مع السعودية، ما لا يمنع ان ترى الرياض في الحوثيين خطراً عليها باعتبارهم حلفاء لإيران. كانت السعودية لعقود من الزمن تتعامل مع آل الأحمر والإخوان في اليمن كحلفاء تقليديين لها، لعدم وجود حليف بديل لها في البلاد. تذمر بعض شيوخ القبيلة من هيمنة آل الأحمر، وأيضا نظر الكثير من اليمنيين لآل الأحمر باعتبارهم أبرز معرقلي تحول الدولة اليمنية إلى دولة مدنية ومؤسساتية. ومن جهة أخرى، تعاطف بعض أنصار الرئيس السابق مع الحوثيين ضد آل الأحمر بسبب الدور الذي لعبوه في إسقاط صالح، لتصبح قاعدة «عدو عدوي صديقي» ماثلة بأبرز تجلياتها.
الدعم الخارجي
لم يواجه الحوثيون صعوبات في الحصول على السلاح، لأن لديهم مخزونا ضخما من حروبهم الست مع السلطة، ولأن السواحل اليمنية تكاد تكون مفتوحة لتهريبه إلى داخل البلاد، ولدعم إيران لهم. وهكذا أصبح الطريق بين صعدة شمالا وصنعاء العاصمة مفتوحاً أمامهم باستثناء عقبة واحدة قوية تمثلت في اللواء (310) الموالي لخصوم الحوثيين والمتمركز في مدينة عمران (50 كم شمال العاصمة). وبعد أقل من شهرين على سقوط حاشد في أيديهم، كان الحوثيون ينقلون معركتهم إلى مدينة عمران ذاتها، بعد رفض السلطة مطالبهم بتغيير المحافظ وإخراج اللواء «310»، الذي اتهموه بالولاء للإخوان. لم تستجب السلطة لمطالب الحوثيين، واندلعت المعركة التي انتهت بسقوط اللواء والمدينة في أيديهم في 11 تموز/ يوليو الماضي. وقد حرصت السلطة على البقاء على الحياد بين المتصارعين، واكتفت في كل مرة بتشكيل لجان وساطة بين الحوثيين وخصومهم، دون أن تصل أي لجنة لحل نهائي. وبإسقاط الحوثيين للواء «310» ومدينة عمران، كسروا أقوى ذراع عسكرية للواء محسن الأحمر (حليف الإخوان وآل الأحمر)، وسيطروا على ترسانة أسلحة ثقيلة ضخمة من ضمنها أكثر من 45 دبابة.
الميليشيا الأقوى: ماذا بعد ذلك؟
أصبح الحوثيون الآن القوة المسلحة الأبرز، مع عدم استبعاد قوة الإخوان وحلفائهم بالطبع الذين ما زالت معاركهم في الجوف (شمال شرق صنعاء) دائرة منذ أشهر. لكن نقطة الضعف الأقوى التي استند اليها الحوثيون هي عدم وجود معارضة فعلية تعبر عن رأي الشارع ومطالبه، في ظل وجود حكومة وفاق ائتلافية من كل الأحزاب الفاعلة. تشجع الحوثيون على التصعيد الخطير الذي يقومون به الآن. يعرفون أيضا أن الجيش والدولة لا يستطيعان إيقافهم إلا في حال قيامهما بشن حرب ستدمر البلاد برمتها وتؤدي إلى تمزيقها إلى دويلات، لا يستطيع أي طرف تحمل تبعاتها. وبالمجمل، هناك فراغ كبير تركته السلطة الضعيفة الحضور وتملؤه الجماعات المسلحة. تبقى الدولة مجرد شاهد على ما يجري، وفي حال خوضها حربا فإن جنودها يكونون عرضة للإهمال والسقوط كضحايا لخصومهم. ومع عدم جديتها في قرارات الحسم، تضعف معنويات الجنود، وغالبا ما يؤمرون بالانسحاب من مواقعهم ليستولي عليها خصومهم. كما أن تشتت جهود الجيش بين مشاكل «القاعدة» جنوباً، وقتال الجماعات المسلحة شمال وشرق ووسط البلاد، حد من قدراته. أما المشكلة الأكثر حضورا، فهي تعدد ولاءات الجيش لجماعات وشخصيات خارج الإطار الرسمي للدولة. يتوسع الحوثيون، ويلتحق بهم المؤيدون في المرحلة الحالية بحكم إثارتهم لمطالب ذات طابع اقتصادي واجتماعي. وهم يمتلكون مزية جوهرية تتمثل بعدم اختراقهم بعد. وتنظيم الجماعة دقيق، وإن بدا في الوقت نفسه هلاميا وغير متبلور، بحيث لا تتمكن الهيئات الرسمية، كلجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن، من التعامل معه كطرف معرقل للتسوية، بما أن الجماعة ليست رسمية ولا تمتلك حسابات بنكية، أو علاقات دولية رسمية يمكن وضعها تحت طائلة العقوبات، (ما شجعها على الرد الجاف على كل بيانات مجلس الأمن والدول العشر).
لكن المخاوف التي تثيرها أنشطة الحوثيين لدى المواطن العادي على أمنه واستقرار بلاده، ستنعكس سلبا على الجماعة. وقد يمثل عدم استغلالها للانتصارات السياسية التي حققتها حتى الآن في تسوية واضحة، والإصرار على المضي قدما في المواجهة، خطأها الاستراتيجي.