الأفكار السياسية بوصفها وعوداً وأكاذيب

لطالما سرّني، كأستاذ، أن ألتقي فلسطين المعاصرة في صفّي من حين لآخر. وما أعنيه بفلسطين المعاصرة هو الجيل الحالي والجيل الأصغر اللذين ينتمي إليهما طلابي. وثمّة نزوع، يفرضه شعورنا الوطني القوي، إلى طمس الفوارق بين الأجيال، كما لو أننا جميعاً من جيل واحد. لكني أعلم، من أحاديث سابقة مع أجدادي، أنَّ ذلك ليس صحيحاً. فحين يتحدثون عن فلسطين، أتساءل إن كان خرف الشيوخ قد لازمهم طوال الوقت. ما هذا المكان
2014-12-03

نديم خوري

أستاذ وباحث من فلسطين


شارك
"أنا اسمي فلسطين" - غرافيتي elseed

لطالما سرّني، كأستاذ، أن ألتقي فلسطين المعاصرة في صفّي من حين لآخر. وما أعنيه بفلسطين المعاصرة هو الجيل الحالي والجيل الأصغر اللذين ينتمي إليهما طلابي. وثمّة نزوع، يفرضه شعورنا الوطني القوي، إلى طمس الفوارق بين الأجيال، كما لو أننا جميعاً من جيل واحد. لكني أعلم، من أحاديث سابقة مع أجدادي، أنَّ ذلك ليس صحيحاً. فحين يتحدثون عن فلسطين، أتساءل إن كان خرف الشيوخ قد لازمهم طوال الوقت. ما هذا المكان الذي لا ينفكون يثرثرون عنه؟ ما الذي يعنيه أن الشوارع لطالما كانت نظيفة والأبواب مشرَّعة؟ حين نعود إلى هذه الأحاديث ونفكّر في هذه الفجوات بين الأجيال، قد ندرك أن الفارق بين الأجيال يمكن أن يكون صارخاً في بعض الأحيان مثل الفروق بين الدول. نعم، كان ليزلي بولز هارتلي على حقّ: الماضي بلد غريب. وأودّ أن أضيف أنَّ جيلي الشباب والمستقبل يمكن أن يكونا على القدر ذاته من الغربة. ومن حسن حظّنا أنّه لا يزال سهلاً أن نزور هذه "البلدان". فما من حاجة إلى وثيقة سفر أو تأشيرة، لكن على المرء أن يكون يقظاً ومحتفياً. فلا يمكن لعقولنا أن تكون مثل المدن المسورة وتبقى الرحلة ممكنةً. ونظراً إلى رحلاتي المنتظمة إلى أرض الجيل الذي ينتمي إليه طلابي، فقد جمعتُ كثيراً من حكايات السفر والملاحظات. وها انا أشارككم بواحدة منها، وأخبركم لماذا شعرت بغرابتها البالغة.
بدأ كل شيء في فصل الربيع من العام 2012. وبما أنّ الشتاء كان يحلّ، قررتُ تحمية الأمور قليلاً بتدريس مادة عن الديموقراطية. قبل عام من ذلك، كان المحتجون في تونس ومصر والبحرين وسوريا والمغرب، ودول عربية أخرى، قد ملأوا الشوارع مطالبين بحقوقهم الأساسية. وكانت طاقتهم الفائرة مذهلة، إلى درجة توقّع معها المحللون السياسيون والمواطنون العاديون أن يفسح الربيع العربي المجال أمام صيف عربي ساخن، بدل أن يمضي مباشرةً صوب الخريف (ولتعذروا استعارتي المملة هذه من الفصول). ثمة كلمة معينة ظلّت طاقتها شغّالة هي تلك الكلمة القديمة التي سكّها الإغريق قبل ثلاثة آلاف عام: "الديمقراطية"، حكم (cratos) الشعب (demos). فهل كان ثمة علاقة بين المتظاهرين في ميدان التحرير والمواطنين الذين كانوا يحتشدون في الأغورا الأثينية؟ كنت متحمساً لاستكشاف هذه الأمر مع طلابي.
في اليوم الأول من المقرر، دخلت غرفة ممتلئة بالوجوه المتحمسة. شعرتُ بسعادة غامرة. صدقوني، الأساتذة يقتاتون على فضول طلابهم، فهو منّهم وسلواهم، وقهوتهم الصباحية، ووقود مقرراتهم. لم أكن أتوقع هذا العدد الكبير من الطلاب، ذلك أن برنامج الدراسات السياسية في الكلية الشرفية في جامعة القدس كان لا يزال في مراحله الأولى (لكني أودّ أن أؤكد لكم إنه ينمو ويكبر). كنتُ على قناعة بأن هذه الأعداد تنمّ على شعور التضامن بين الشباب العرب، ذكوراً وإناثاً، عبر الحدود. لم يكن صوت وحدتهم يُسمع من صوت العرب، بل من منتديات التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة. ولعل طلابي التحقوا بهذا المقرر كي يفهموا هذه الرفاقيّة المفاجئة ويسجلوا في النهاية سرّ هذه الكلمة اليونانية القديمة التي كانت الآن تزركش الملصقات في شوارع تونس والقاهرة والمنامة. هل كانت صرخة احتشاد جديدة؟ ففي حين احتشد الجيل السابق حول أركان "الوطنية"، و"الاستقلال"، و"العروبة"، راح هذا الجيل فجأةً يضع "الديموقراطية" في أساس هذه الأركان. هل باتت هذه الكلمة كلمتنا؟ هل نزلت الديموقراطية أخيراً في شواطئنا؟ هل بلادنا هي المحطة التالية في رحلة طويلة ومرهقة بدأت في أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد وكانت أوروبا الشرقية في نهاية القرن العشرين آخر محطاتها؟ هل يشهد القرن الحادي والعشرين صعود ديموقراطية عربية، من شأنها الوفاء بوعد المساواة الاجتماعية، والحقوق السياسية المتساوية، والمساواة بين الجنسين، والاحترام المتبادل بين الجماعات الدينية؟.. هكذا جمح خيالي.
بسببٍ من حرصي على تأكيد انطباعي، بدأت المقرر بمناقشة عامة حول حكم الشعب. ولدهشتي، لم يكن الطلاب بحاجة إلى أي مدخل أو تمهيد. كانت عقولهم مهيّئة أصلاً. وبعد فترة وجيزة من الصمت، تحدثت منتهى نيابة عنهم: "نحن نكره الديموقراطية، أستاذ، نقطة وانتهى". أومأتْ نور موافقةً، وكذلك عُلا، ورمقتني لانا بتلك النظرة التي يخشاها الأساتذة. وبدا عبد ووليد في حيرة، لكنهما كانا قد دخلا الصفّ للتو، ولذلك شككتُ في أنهما يدركان ما كان يحدث.
"ماذا؟" سألتُ، في شيء من حيرة من أُخِذَ على حين غرّة. ولم يمض وقت طويل حتى أكّد لي الطلاب ما حسبت أنه هلوسة سمعية. لماذا ينفر طلابي من كلمة الديمقراطية؟ هل كنتُ إزاء شباب يتوقون أن يُصبحوا نابليون، أو ستالين، أو مبارك؟ كنت أعلم حقّ العلم أن هؤلاء الطلاب يمقتون الاستبداد (كنت قد تحققت من ذلك، أصلاً). ثم إننا في فلسطين، حيث كلمة الحرية في أذهان الجميع. فكيف يمكن لكلمة ألا تعني لهم سوى أقل القليل، في الوقت الذي تعني الكثير للمتظاهرين في ميدان التحرير؟ هل فاتني أيّ شيء؟ هل كان هذا الجيل المقبل من الغرابة إلى درجة أن يبتدع قواعده السياسية؟ هل كنت بحاجة إلى مترجم؟
يجب أن نلاحظ أنَّ الديموقراطية لم تكن قط من الكلمات الرئيسة لدى الجيل السابق. لكنهم لم يستخدموها قط كسُبّة. ولم تكن شيئاً يكرهونه. كان للكلمة مكانها بين كوكبة كبيرة من الأفكار التي حملت مفتاح المستقبل: الاستقلال، العدالة، الحرية، الديموقراطية.. وفي البلد الغريب الذي هو الماضي، كانت الديمقراطية مبهمة، لأنها لم تكن موجودة. لم تكن مصطلحاً تقنياً يشير إلى الفصل بين السلطات وإلى نوع من النظام الانتخابي. بل كانت وعداً: وعداً بالحرية، وعداً بالخلاص من التسلّط، وعداً بمعاملة النساء والرجال على حد سواء، وعداً بتحرير الفقراء وحمايتهم من الأغنياء. وفي شكلها المحافظ، كانت مقترنة بقيام دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967. ورأى آخرون، في شكلها الأكثر تقدمية، مفتاح حل الدولة الواحدة، تلك الدولة التي يمكن أن يعيش فيها اليهود والعرب في كنف نظام عادل. غير أن هذه الديموقراطية كانت، في جميع هذه الحالات، "ديموقراطيةً قيد المجيء"، بحسب تعبير جاك دريدا، ومخلّصاً علمانياً سيحلّ بيننا عمّا قريب.
أفضى طلابي إليّ بشيء آخر. فقد وصل المخلّص أرضهم الغريبة، التي يفصلها الزمان لا المكان، لكنه كان مخلّصاً دجالاً. ذلك أنَّ الديموقراطية كانت تعني، بالنسبة إليهم، المقاطعة العالمية التي أعقبت انتخاب حماس في عام 2006، والكلمة التي بررت قتل مئات آلاف العراقيين، والاحتلال العسكري لبلدهم، وأغنية كان عليهم أن يغنوها للمانحين الأميركيين والأوروبيين لتمويل منظماتهم غير الحكومية في المستقبل. لم تعد الديموقراطية نجماً وسط كوكبة أكبر، بل باتت نيزكاً معزولاً انفصل عن التحرر الوطني وحق العودة. وكانت كلمة عنصرية تستخدمها إسرائيل لاظهار مدى تحضّرها ولتغطية جرائمها (من تطهير عرقي). كما كانت كلمة "أعجمية" تتعارض مع الثقافة العربية. وكانت نظاماً أعطى المساواة السياسية للجميع لكنه فاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. كل هذا كان قد أشبع عقول طلابي وقلوبهم. ولم يمض وقت طويل حتى أدركتُ ذلك. لقد بات وعد الجيل السابق الآن مجرد كذبة.
ما مغزى هذه القصة؟ ما الحكمة التي وجدتها في هذه الأرض البعيدة حيث الكلمات تعني أشياء مختلفة؟ لست متأكداً. لقد عدت مؤخراً من هذه الرحلة وعليّ أن أتخلص من وعثائها الفكرية. لكن هذا ما خرجتُ به إلى الآن. حين يستخدم الجيل الأكبر الكلمات كوعود يختبرها الجيل الشاب على أنها أكاذيب، نكون أمام مشكلة، ونخسر الكلمات، ويصبح التواصل مريعاً. ولذلك علينا أن نكثر من السفر إلى أرض الجيل المقبل، ونأمل ألا تصورنا كتب التاريخ لديهم ككذبة، بل كأناس قادرين على الوفاء بوعودهم.

 

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

للكاتب نفسه

ما العَلَم؟

نديم خوري 2015-09-19

لديَّ ذكريات قوية عن العلم الفلسطيني تعود إلى عهد الطفولة. خلال الانتفاضة الأولى، كانت أمّي تدفعنا لأن نرسم المثلث الأحمر والخطوط المتوازية، الأسود والأبيض والأخضر، على ورق المسوَّدة. وما إن...