لعلَّ قدر الشّعوب المضطهَدة أن تخشى على ماضيها. لعلّها الغريزة الوقائية في داخلنا، أو لعلّ الأمر متعلّقٌ بي بكلّ ببساطة، لا أعلم. لكني كلما لوّن السياسيون آفاقاً جديدة لشعبي، خشيتُ على الماضي أكثر من خشيتي على المستقبل. وفي مناسبات تذكارية مثل يوم الأرض، يتضخم هذا الخوف، فأسأل نفسي، إذا ما حلّ السلام يوماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما الذي سيحدث لماضينا؟ ما الذي سيعنيه الاحتفال بالأرض في هذا المستقبل الافتراضي؟ قد يكون السؤال غريباً، إزاء ما أدّت إليه "عملية السلام" بين إسرائيل والفلسطينيين من حروب وقمع واستيطان يفوق ما أحدثته من سلام. لكن السؤال يبقى جديراً بالتأمل. فكلُّ محاولة لصوغ مستقبلنا هي محاولة لصوغ ماضينا، ما يجعل المرء محتاجاً إلى التفكير في كليهما معاً.
هذا بالضبط ما وطّدتُ عزمي على فعله. دسستُ ذكريات شعبي في صندوق وألقيتُ بنفسي في مستقبل افتراضي كما تخيّله أولئك الذين يسعون لأن يجلبوا لنا "السلام". اخترتُ، بدايةً، "وادي السلام"، مشروع السلام العملاق الذي يسعى بتكلفة تبلغ 30 مليار دولار إلى جَعْلِ وادي عربة جنّة رأسمالية. وكان قد حظي بتأييد واسع من اللجنة الرّباعيّة والولايات المتحدة وتركيا وألمانيا واليابان ومجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين والعرب. وينبغي للمرء ألّا يرى في هذا مشروعاً فردياً، بل وجهاً من وجوه إستراتيجية بناء السلام الليبرالية التي هيمنت على الشؤون الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. والفكرة الأساسية هي أنّ الرأسمالية تحلُّ النزاعات. وكانت المفاوضات المتعددة الأطراف في مؤتمر مدريد قد وقعت إلى حدٍّ بعيدٍ تحت سطوة هذه الفكرة، حيث "ستجلب الحدود المفتوحة والشراكة الاقتصادية الرخاء الذي سينتج، بدوره، سلاماً لا يكون مجرد وَقْفٍ للحرب" (1) . وهي اليوم فكرة موجودة في الدعوات إلى "السلام الاقتصادي" والإصلاحات النيوليبرالية في المنطقة. وبتعزيز التعاون الاقتصادي والاعتماد المتبادل بين إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية، فإن وادي السلام سوف يسهم في حلّ هذا الصراع المستعصي مرّةً وإلى الأبد.
ليس هذا سوى تجريد بتجريد. وكي أُلقي نظرةً عن كثب إلى ما يمكن أن يكون عليه حال هذا المستقبل، عدتُ إلى فيديو ترويجي على الإنترنت لوادي السلام وما هو عليه من سحر. موقع المشروع هو وادي عرابة على الحدود بين إسرائيل والأردن، لكن ما من حدود، لا أسلاك شائكة ولا حواجز ولا أبراج مراقبة. بدلاً من ذلك، ثمّة مبانٍ زجاجية شاهقة على ضفتي قناة تصل البحر الميت بالبحر الأحمر. وثمّة قطارات صامتة وسيارات ذات تقنية رفيعة تسير في خطوط متعرجة عبر فضاءات مدينية خضراء فسيحة حيث يمكن أن نرى مراكز التسوق والشقق الفاخرة وحدائق الألعاب المائية، بل وأكبر حديقة نباتية في العالم! "سوف يأتي وادي السلام بتغيير لا لبس فيه إلى المنطقة بأسرها"، يؤكّد لنا السارد في هذا الفيديو، "ستزدهر الصحراء الجرداء، وتزهو الأرض القاحلة بالخضرة على جانبي الحدود" (2) . وفي نهاية الفيديو، نرى الأعلام الإسرائيلية والفلسطينية واللبنانية والأردنية والمصرية تخفق في انسجام تام. وهذه البيارق التي سبق أن جيّشت الجيوش بعضها في وجه بعض، ها هي الآن رمزُ وحدةٍ متناغمةٍ أحدثتها الثروة والربح والتجارة الحرة.
أعلم أنَّ هذا التمدد في الخيال يؤلم قرّاء هذا المقال. ولكن دعوني أمدده مزيداً من التمدد وأسأل: ما الذي يعنيه أن نتذكر يوم الأرض في مثل هذا المكان؟ ما الذي يمكن للأرض أن تعنيه في مكان تغدو فيه سلعةً تُشرى وتباع؟ وإذا ما خرجت مجموعة من المتظاهرين في هذه الشوارع لتحتفل بيوم الأرض، فهل يكون لرسالتهم أيّ صدى في أيّ شكل وأيّ حال؟ أُخمّنُ، أَنْ لا. والأسوأ، في هذه اليوطوبيا الرأسمالية، هو أنَّ تمسكنا بالأرض سوف يظهر على أنّه تطلّع إلى الوراء لا إلى الأمام. وسيبدو الحديث عن تحرير الأرض فارغاً في موضعٍ يعني فيه السلامُ لَبْرَلَتَها. ومن جديدٍ، سَيُسْكَتُ ماضينا، لا باسم الحرب هذه المرة، بل باسم سلام مزعوم. ولذلك أواصلُ خشيتي حين تُرسَم لي مثل هذه السيناريوهات. وكي أخفف منها، أواصل التذكّر، لا من حنين إلى ماضٍ أسطوري، بل لغرس الأمل بمستقبلٍ بديل.
(1) Israeli Ministry of Foreign Affairs “The Middle East Process. The Multilateral negotiations”
(2) “The Valley of Peace Initiative” [n.d] , video clip, accessed November 10, 2013, Youtube.