الاستعمار الاستيطاني: تفتيت الجغرافيا والتاريخ

الاستعمار الاستيطاني، شأنه شأن غيره من أشكال الهيمنة، يفرّق كي يسود. كلما مضى أبعد في اختراق الأرض التي استولى عليها، وتعمّق في إدارة السكّان الذين أخضعهم، ازداد تقسيمه إيّاهما، وتفتيته لهما، وتمزيقهما إرباً. ويتضح هذا التفتيت في إسرائيل/ فلسطين أشدّ الوضوح في مشهد ما يسمى بالدولة الفلسطينية المستقبلية، حيث تخنق طرق المستوطنين وجدران الفصل العنصري الجيوب المستقلة الآخذة
2014-09-24

نديم خوري

أستاذ وباحث من فلسطين


شارك
| en

الاستعمار الاستيطاني، شأنه شأن غيره من أشكال الهيمنة، يفرّق كي يسود. كلما مضى أبعد في اختراق الأرض التي استولى عليها، وتعمّق في إدارة السكّان الذين أخضعهم، ازداد تقسيمه إيّاهما، وتفتيته لهما، وتمزيقهما إرباً. ويتضح هذا التفتيت في إسرائيل/ فلسطين أشدّ الوضوح في مشهد ما يسمى بالدولة الفلسطينية المستقبلية، حيث تخنق طرق المستوطنين وجدران الفصل العنصري الجيوب المستقلة الآخذة بالتراجع هي ذاتها. وثمّة مئات من الحواجز التي تقسم الضفة الغربية الآن محوّلةً المسافات القصيرة إلى مسافات طويلة، ومعيدةً صوغ العلاقة بين الزمان والمكان بالنسبة إلى شعبٍ برمّته.

التقسيم القانوني للفلسطينيين لا يقلّ خبثاً عن تفتيتهم الجغرافي. وقد أقرّ الكنيست الإسرائيلي مؤخراً قانوناً يميّز المسيحيين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل كأقلية منفصلة، أقلية لم تعد تُعتبَر عربية. وكان، في يوم واحد، أن عملت الحدود الجغرافية والترتيبات الإدارية على خلق هوّة بين العائلات الفلسطينية المسيحية المنتشرة في أنحاء الضفة الغربية والجليل. فلم يقتصر الأمر على امتلاكهم هويات قانونية مختلفة، فلسطينيو الضفة الغربية وفلسطينيو إسرائيل، بل باتوا ينتمون إلى شعبين مختلفين، العرب وغير العرب. كما باتوا يُصَنَّفون في فئة جديدة واعتباطية، فئة واحدة من بين فئات عديدة أوجدتها إسرائيل للفلسطينيين: عرب إسرائيل، فلسطينيو الضفة الغربية، فلسطينيو غزة، سكان القدس الشرقية، النازحون داخلياً، اللاجئون... وبقيام الجدران المادية والقانونية، فإنَّ شعباً يفرض حكمه على شعبٍ آخر ويخلق لديه رهاب الأماكن المغلقة. وفي هذا السياق، فإنَّ كثيرين يغفلون اللوحة الأكبر التي تغيب عن أبصارهم.

مع الحرب الأخيرة على غزة، لم يقف الأمر عند انحسار الجغرافيا الفلسطينية، بل تعدّاه إلى انحسار الزمن الفلسطيني. وبات ثمّة تاريخ كامل من السلب انقسم إلى سرديات قصيرة ومنفصلة. أصغوا إلى المبررات الإسرائيلية للحرب على غزة وانتبهوا إلى حبكتها. يقولون إنها حرب على غزة، حرب على حماس. لكنهم سبب المشكلة: نقطة البداية المنطقية والزمنية للحرب. على سبيل المثال، سُئل الفيلسوف والصهيوني الفرنسي المتحمس، برنار هنري ليفي، في برنامج حواري ليلي مؤخّراً، لماذا لم يُدِن هجوم نتنياهو على غزة وقتله الآلاف، فأجاب إنه مستعد لندب المدنيين الفلسطينيين الذين ماتوا، لكنه أصر على أن حماس هي المسؤولة عن موتهم. ولعلّ هذا أيضاً هو السبب وراء اعتقاده أن من الممكن الرثاء لهم. ومثل هذه الاستجابة هي عرَض من أعراض زمن منحسر ومتضائل. في عام 2006 انتخب الفلسطينيون حماس ويجب بالتالي أن يدفعوا الثمن. في عام 2014 انتهكت حماس وقف إطلاق النار، ولذلك يجب أن تتحمل العواقب. ومع كل حجّة، مع كلّ مؤتمر صحافي، يغدو التاريخ أضيق، وهو كما يتقلص، كذلك يفعل إطار النقاش. وينخرط الخبراء والمعلّقون في أحاديث تفصيلية عن الذين انتهكوا وما الذي انتهكوه ومتى. وتتركز الأحاديث على انتخاب «جماعة إرهابية» وحالات محددة من وقف إطلاق النار. وبينما نغرق في التفاصيل، نغفل عن التاريخ الأكبر لتشريد الفلسطينيين، وللسياسة الاستعمارية التي تقف عند جذر هذا التشريد.

«تضاؤل التاريخ» هذا ليس بالجديد. مع بدء عملية السلام في تسعينيات القرن العشرين، تقلص التاريخ فجأة عائداً إلى حرب عام 1967. وقد اعترف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بهذا حين أشار إلى أن اليسار الإسرائيلي، الذي وقّع اتفاقات أوسلو، «يتقبل انتقاد إسرائيل ما بعد عام 1967»، أمّا «فترة 1882-1967» فهي خارج الحدود. وباتخاذ قرار بدء النقاش بحرب 1967، يغدو تشخيصٌ بعينه للمأزق الفلسطيني متاحاً بيسر: المشكلة، كما يبدو، هي مشكلة دولة - أمّة تحتل احتلالا غير قانوني أرض أمّة بلا دولة. وفي هذا الإطار، تدور المناقشات حول عام 1948، عام قيام دولة إسرائيل، فيما تبقى محنة 750 ألف لاجئ «خارجاً». لاحظوا كيف يعكس تفتيت التاريخ هذا تفريق شعب. ابدأ بعام 1967، وسوف تفْصل فلسطينيي الأراضي المحتلة عن أولئك الواقعين الآن تحت السيادة الإسرائيلية. ابدأ بانتخابات حماس الديموقراطية في عام 2006، وسوف تفصل غزة عن الضفة الغربية.

وبذلك تنفصل قضايا غزة والضفة الغربية وفلسطينيي 1948 ذلك الانفصال المثير لأشد القلق، وتتفرع، داخل الدوائر الديبلوماسية، إلى عمليات تفاوض مختلفة، لكل منها ظروفها الخاصة وشروطها. وبينما نضيع في التفاصيل وتدبّر الجزئيات، يتنامى التوسع الصهيوني أكثر فأكثر. ولعل هذا هو المقصود بـ«الحقائق على الأرض»: وقائع جديدة تمحو القديمة، وحالات وسطى تغدو البدايات، وأصول تُنسى بالتدريج. ولا نعود نحدّد السردية الكبرى، بل نصبح، بدلاً من ذلك، عبيد حبكتها. ونفقد حقنا في أن نسرد، فنقاتل لنغدو شخصيات في مسرحية.
غير أنّ هذه التواريخ «المنفصلة» هي واحدة بالنسبة إلى الفلسطينيين. فالحرب على غزة هي حرب على شعبها، ازدراء لمطالبته بالحقوق والكرامة. حربٌ يقع منطقها في القلب من الصهيونية، خصوصاً في نسختها المنقّحة، وليست مجرد عارض من عوارضها. حربٌ هي تكرار لمجازر غزة في عام 1956، وترتبط ارتباطاً مباشراً بمذبحة دير ياسين في عام 1948. وما يعنيه التضامن مع تقرير الفلسطينيين لمصيرهم هو استعادة هذا التاريخ. وبهذه العودة إلى الوراء، فإننا نتعمّق أيضاً جذور المشكلة ونخرج بأطر جديدة للتفسير: الاستعمار الاستيطاني، والتطهير العرقي، والإمبريالية. وإذ نتسلّح بهذه الأدوات التفسيرية، فإننا نعيد الوصل بين النقاط. ولا يعود التمييز ضد «عرب إسرائيل» منفصلاً عن الترحيل الصامت من القدس الشرقية، ولا مختلفاً عن استيطان الضفة الغربية، أو محنة لاجئي 1948، أو تدمير غزة. فكلّ ذلك هو الشيء الواحد ذاته. وفصله هو المشكله، أمّا وصله فهو الحلّ.

* النـــص منشـــور بالانجليــزية فـــي مجـلــة society and space

 

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

للكاتب نفسه

ما العَلَم؟

نديم خوري 2015-09-19

لديَّ ذكريات قوية عن العلم الفلسطيني تعود إلى عهد الطفولة. خلال الانتفاضة الأولى، كانت أمّي تدفعنا لأن نرسم المثلث الأحمر والخطوط المتوازية، الأسود والأبيض والأخضر، على ورق المسوَّدة. وما إن...