"أسكت لأغزّك" (فلتصمت وإلا طعنتك )، قالها الصبي الفقير لشاب من ابناء الطبقة المتوسطة، كان ينحدر من جماعة الاخوان المسلمين قبل ان ينصرف عنها، أو هكذا نصا نقل الصديق ضاحكا الحوار القصير جدا مع الصبي الذي اختار ان يهدده ردا على رجاء منه ألا يُقْدم على حرق سيارة بجوار المتحف المصري مساء يوم الاربعاء الثاني من شباط /فبراير (وكان قارصاً) من العام 2011.
كان الصبي ورفاقه قد اختاروا حرق السيارات في محاولة لبناء حائط من النار يحمي ميدان التحرير وأرواح الثوار المعتصمين فيه من هجوم مأجورين مؤيدين لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. لكن الصديق المهذب حاول ان يقنعه بالحسنى بأنه اختار طريقا مذموما دينيا واخلاقيا، من منطلق حرمة الملكية الخاصة. تراجع الصديق عن نصيحته فورا خشية الطعنة النجلاء، خاصة وانه لمح بعينه المطواة تلمع في جنح الليل، لكنه اعترف صبيحة اليوم التالي في الميدان نفسه بينما كان الجمع يحتفل بالانتصار بأن الصبي كان على حق، وان غريزته كابن بار للطبقة الوسطى من ناحية وللتنظيم المحافظ من ناحية أخرى، انحرفت كالعادة حتى في الظرف الحالك، لتحمي "حرمة" الممتلكات ولو كان الثمن هو البشر.
الدولة تتباكى
ثلاث سنوات من عمر الثورة انقضت بعدها، لم ينقطع خلالها صياح الدولة ونحيبها على ممتلكاتها الغابرة المحترقة في "جمعة الغضب" في 28 كانون الثاني/ يناير من العام 2011. وأعادت الطبقة الوسطى رجع الصدى من خلف الدولة الجريحة. ولعلها من سخرية الأقدار، استرجاع خطاب التباكي على المجمع العلمي بعد حادث احتراقه (ضمن ما عُرف إعلاميا بـ"أحداث مجلس الوزراء" في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2012) من قبل أعضاء المجلس الاعلى للقوات المسلحة – الحاكم وقتها – في الوقت الذي كانوا يخطئون فيه نطق اسمه أصلا. بدأت الأحداث باعتداء قوات من الشرطة على صبي كان يعتصم مع رفاقه في محيط مبنى مجلس الوزراء احتجاجا على تعيين كمال الجنزوري رئيسا للحكومة وقتها، ثم دهس مدرعة تابعة للشرطة لمعتصم آخر، ثم رشق المئات من المعتصمين لقوات الشرطة والجيش، وانضمام الآلاف لهم لاحقا. ودامت المواجهات عدة ايام ، سقط خلالها عدد من الضحايا وشهدت واقعة سحل وتعرية متظاهرة بعد ان فقدت وعيها إثر اعتداء قوات الجيش عليها. شهدت تلك الايام السوداء احتراق مبنى أثري هو المجمع العلمي الذي اسسه بونابرت خلال الحملة الفرنسية على مصر. لم يُقدَّم اي من المسئولين عن مقتل المتظاهرين الى المحاكمة، ولم يتعرض اي منهم لأي مساءلة، لكن احمد دومة الناشط السياسي حوكم بتهمة حرق المجمع العلمي.
الرئيس المغرم بالممتلكات
رئيس الجمهورية هو احد ممثلي هذا الغرام بالممتلكات العامة. فبعد يومين من احداث العنف في سيناء التي قتل فيها نحو ثلاثين مجندا، لم يصدر السيسي تعليمات ولا قرارات جديدة حيال تشديد تأمين الجنود، ولو بتجهيزات مشابهة لتلك التي يتمتع بها زملاؤهم الذين يشاركون في حماية "سيتي ستارز" أشهر مقاصد التسوق الفاخر في مصر، وهو بناء عملاق يتمتع بتأمين محكم مدهش. عمد الرئيس، كرد فعل على الحادث المأساوي، إلى إصدار قرار بقانون لتأمين و"حماية المنشآت العامة والحيوية" يجيز للقوات المسلحة مشاركة جهاز الشرطة في حماية وتأمين تلك المنشآت، على أن يسري هذا القرار لمدة سنتين. وبموجب القانون الجديد تشدد الحماية على المنشآت العامة والحيوية "بما في ذلك محطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقوق البترول وخطوط السكك الحديدية وشبكات الطرق والكباري وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة وما يدخل في حكمها، وتعد هذه المنشآت في حكم المنشآت العسكرية". وبموجب القانون الجديد، تحال الجرائم التي ترتكب ضد هذه المنشآت إلى النيابة العسكرية لعرضها على القضاء العسكري للبت فيها. صدر القانون الجديد، مثله مثل قائمة طويلة من القوانين، عبر مرسوم رئاسي في غيبة برلمان منتخب. لكن المثال الابرز على الولع بالممتلكات هو المادة رقم 90 من قانون العقوبات التي تعاقب بالسجن "مدة لا تزيد على خمس سنوات كل من خرب عمدا مباني أو أملاكا عامة أو مخصصة لمصالح حكومية أو للمرافق العامة أو للمؤسسات العامة أو الجمعيات المعتبرة قانونا ذات نفع عام... وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة إذا وقعت الجريمة في زمن هياج أو فتنة أو بقصد إحداث الرعب بين الناس أو إشاعة الفوضى، ويضاعَف الحد الأقصى للعقوبة المقررة في الفقرة الأولى من المادة 90 إذا ارتُكبت الجريمة تنفيذا لغرض إرهابي". وبموجب هذه المادة، يمكن بسهولة محاصرة شهداء ثورة كانون ثاني / يناير بتهم تصل عقوبتها الى الاشغال الشاقة المؤبدة، على خلفية وقائع حرق اقسام الشرطة اثناء الثورة، وبالذات يوم "جمعة الغضب" باعتبار الثورة لا بد وأن تعتبر ضمن "زمن الهياج او الفتنة " من وجهة نظر القضاء، الذي منح ضباط الشرطة المتهمين بقتل الشهداء البراءة في عدد لا يحصى من القضايا، لا بناء على وقائع تنفي عنهم اطلاق الرصاص، بل باعتبارهم كانوا في حالة دفاع "شرعي" عن تلك الممتلكات العامة!
هذا الافتراض ليس نظريا. فصحيح أن الشهداء (لحسن حظهم!) قد قضوا وافلتوا من تهمة الإضرار بتلك الممتلكات المقدسة، إلا أن غيرهم لا زالوا أحياء ويواجهون على نحو أو آخر التهم نفسها تقريبا، وبالذات في الجامعات، التي يواجه طلابها بشكل شبه يومي قوات الشرطة و شركة "فالكون" الخاصة التي استعانت بها الحكومة لـ"حماية" الممتلكات في الجامعات من أصحابها الأصلاء. وخلال مواجهات مفتعلة تبادر فيها الشرطة لوأد اي احتجاج باستخدام درجة من العنف المنفلت، تلقي القبض على اعداد غفيرة من الطلاب وتقدم بعدها – هي نفسها - مذكرة تحريات أمام النيابة العامة تتضمن "شهادتها" عن مشاركة الطلاب المعتقلين في محاولة تخريب المنشآت، والتي يفترض أن الشرطة انقذتها من ايدي المخربين الصغار، وهلم جرا...
مقارنة مع زمن ستالين
وفي هذا السياق ، لا يمكن تجاوز التشابه مع روسيا الستالينية حسبما رصدها توني كليف في مؤلفه الأشهر"رأسمالية الدولة في روسيا". استعرض الباحث باسهاب تحت عنوان "خضوع الإنسان للأملاك" عددا من النصوص القانونية تتضمن عقوبات قاسية جدا على اي اخلال بحرمة هذه الممتلكات في مقابل تساهل نسبي مع جرائم القتل والاختطاف، ساخرا من هذا التوجه بقوله "من الغريب أنه رغم أن الشعب، من خلال الدولة، يمتلك ثروة البلاد، إلا إن الدولة الروسية عليها أن تتخذ إجراءات فوق العادة لكي تحمي هذه الثروة منه". وتستند دراسته إلى قانون صادر في 7 آب/ أغسطس 1932 "حول حماية ملكية مشاريع الدولة والمزارع الجماعية والتعاونيات ومؤسسات الملكية الاشتراكية، فإن سرقة أملاك الدولة والكولخوزات والتعاونيات والسرقة على خطوط السكك الحديدية والمجاري المائية يعاقب عليها بالإعدام رميا بالرصاص مع مصادرة كل الممتلكات. وإذا وجدت ظروف مخففة، فإن العقوبة المستحقة تكون السجن لما لا يقل عن عشر سنوات ومصادرة كل الممتلكات". كما استند الى قانون صادر في 4 حزيران / يونيو1947. اصدر بمرسوم حول "اختلاس ملكية الدولة والملكية العامة"، تضمن المواد التالية: "عقوبة السرقة أو الاستيلاء على، أو اختلاس، أو سائر أنواع التلاعب بملكية الدولة هي الاعتقال في معسكر عمل إصلاحي لمدة تتراوح بين سبع وعشر سنوات، مع أو بدون مصادرة الأملاك. عقوبة اختلاس ملكية الدولة للمرة الثانية – بالإضافة إلى الاختلاس بواسطة مجموعة منظمة أو على نطاق واسع – هي الاعتقال في معسكر عمل إصلاحي لمدة تتراوح بين عشر سنوات وخمس وعشرين سنة، مع مصادرة الأملاك".
كل ذلك في مقابل "التسامح" مع جرائم القتل والاختطاف، من قبيل ما تنص عليه المادة 138 من القانون الجنائي السوفييتي "لقتل العمد المرتكب تحت الدافع المفاجئ لهياج عاطفي قوي ناتج عن العنف أو السباب القاذع من جانب المقتول، يؤدي إلى الحرمان من الحرية لفترة قد تصل إلى خمس سنوات، أو العمل الجبري لمدة قد تصل إلى عام واحد"، وما تنص عليه المادة 147 من أن "حرمان أي شخص من الحرية بشكل غير قانوني باستخدام القوة، يؤدي إلى الحرمان من الحرية أو العمل الجبري لمدة قد تصل إلى عام. حرمان أي شخص من الحرية بأي طريق تشكل خطرا على حياته أو صحته أو تسبب له ألما بدنيا، يؤدي إلى الحرمان من الحرية لمدة قد تصل إلى عامين".
بالطبع لا يمكن التغافل عن الاختلاف بين النصوص المصرية والسوفياتية سالفة الذكر فيما يتعلق باهتمام الاولى في الاساس بـ"تخريب" الممتلكات في المقام الاول في مقابل اهتمام الثانية بجرائم الاختلاس والسطو في الأساس. لكن الجوهر يبقى واحدا، وهو إضفاء القداسة على الممتلكات من قبل طرف يستهين بحياة البشر.