أياً كان الهدف من صدور قانون الضرائب العقارية في هذا التوقيت، فهو لن يكبح جماح الفوضى في سوق العقارات المصري، أو يخفف من أعباء السكن على الشرائح المتوسطة والفقيرة عبر إحداث اتساع في العرض بمواجهة الطلب المتزايد على السكن في البلد يتجاوز عدد سكانه 87 مليون نسمة. فالقانون لا يتضمن عبئاً على أصحاب العقارات يجبرهم على وقف «تسقيعها»، وهو اصطلاح بالعامية المصرية يشير الى اتجاه قطاعات من الملاَّك إلى عدم طرح عقاراتهم المكتنزة للبيع أو الإيجار، بقصد الادخار، أو لأسباب عائلية من قبيل الاستعداد لزواج الابن أو البنت قبل الحدث السعيد بسنوات طويلة.
خفض الضريبة: لماذا الآن؟
القانون يتضمن ضريبة بواقع عشرة في المئة على القيمة التأجيرية التي تقدرها مصلحة الضرائب بعيدا عن أي عقود إيجار فعلية عبر المعادلة الآتية: 60 في المئة×القيمة السوقية ×3 في المئة، وبعدها يجري اختصام 30 في المئة من الناتج للوصول الى ما يسمى بـ«صافي القيمة الإيجارية» التي تعد الوعاء الضريبي وفقاً لهذا القانون. معادلة كتلك هي ما أدت الى افتراض ان العقار الذي تبلغ قيمته السوقية مليوني جنيه مصري لا تتعدى صافي قيمته الإيجارية ألفي جنيه شهريا، وهو أمر يستحيل فعليا، فالعقارات الفاخرة تلك قد لا تقل قيمتها الايجارية عن سبعة آلاف جنيه شهريا. ولن يضطر مالك عقار على هذه الشاكلة لأن يدفع أكثر من 200 جنيه شهريا كضريبة.
القانون صدر مخففا للغاية بما بتعلق بالأعباء على الملاك، في الوقت الذي يتوقع فيه العديد من المطوِّرين العقاريين قفزة في الأسعار بواقع 20 إلى 25 في المئة، على خلفية عوامل متعددة منها ارتفاع أسعار الحديد والاسمنت (بسبب إقدام الحكومة على رفع سعر الوقود المستخدم في توليد الطاقة للصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة). وربما لهذا تزداد الحاجة إلى عبء ضريبي أثقل على الملاّك في مسعى لكبح جماح هذه الفوضى الناجمة إلى حد ما عن الضغوط على حجم العرض المحدود.
وكانت دراسة في العام 2010 للباحث صلاح العمروسي قد قدرت عدد الوحدات السكنية الشاغرة (التي تشمل البيوت الفردية والفيلات) بحوالي مليوني وحدة، والشقق السكنية الخالية بـ5.9 ملايين. أي أن الإجمالي المخزون يصل إلى حوالي 7.9 ملايين من إجمالي حوالي 27.9 مليون وحدة سكنية في مصر بأسرها، بنسبة 28.3 في المئة. وقالت الدراسة إن الطلب السنوي على الشقق السكنية يبلغ حوالي 500 ـ 600 ألف. وأن المخزون يكفي لفترة تتراوح بين 13 ـ 16 سنة. وكان من شأن هذا المخزون الهائل أن يؤدي إلى انهيار شامل وحاد للأسعار وفقاً لقانون العرض والطلب، ولكن على العكس، واصلت الأسعار ارتفاعها حسبما تقول الدراسة التي استنتجت ان السبب يرجع إلى هوس اكتناز العقارات كقيمة ثابتة ومضمونة بمقابل تقلبات سائر الأصول كالعملة وحتى الذهب، وكملجأ لرأس المال بغياب العملية الإنتاجية أصلا.
النيوليبرالية تتجدد
أبقى التعديل الجديد على قانون الضرائب العقارية الذي اعتمده رئيس الجمهورية على روح القانون المثير للجدل منذ طرحه للمرة الأولى وزير المالية يوسف بطرس عالي وزير المالية الأسبق والهارب - في العام 2008. إذ أبقى على سعر موحد للضريبة: عشرة في المئة من القيمة الايجارية، قياسا على ما كان ينص عليه القانون الأسبق من تصاعدية تصل إلى 44 في المئة (في قانون «العوائد» القديم للعام 1954). وتتضمن النسخة الأخيرة من القانون ـ الذي خضع لتعديلات متتالية تواكبت مع تعطيله أصلاً منذ 2008 خفضا في سعر الضريبة نفسها بواقع أربعة في المئة، إذ كان قانون غالي ينص على سعر ضريبة يبلغ 14 في المئة. وكان غالي الذي يعد واحدا من منظري اليمين الليبرالي المتطرف في حكومة أحمد نظيف ـ الأخيرة قبل ثورة كانون ثاني /يناير 2011 ـ قد لجأ إلى صياغة هذا القانون وتمريره في مجلس الشعب (على الرغم من احتجاجات الأغنياء والطبقة الوسطى الميسورة)، على خلفية ارتفاع كبير في عجز الموازنة وقتها، مع تراجع الايرادات العامة ضمن تداعيات الازمة الاقتصادية العالمية. ثم لجأ إلى إجراء شاذ، هو النص في القانون على أن تؤول نصف حصيلة الضريبة العقارية إلى الخزانة العامة، بعكس التوجه العالمي الذي كان معمولا به كذلك في قانون العوائد القديم، والذي تؤول بموجبه كل حصيلة الضريبة العقارية إلى السلطات المحلية.
جولة جديدة خاسرة لليسار
كان بإمكان الحركات اليسارية أن تخوض معركة سياسية / ثقافية لو أنها فكرت مثلا ـ بعد الثورة بالذات ـ في التعلق بـ«قشة» الضرائب العقارية لإقرار تعديلات تشريعية تسمح بالمزيد من لامركزية الحكم لمصلحة المحليات، من قبيل انتخاب المحافظين، لإضفاء شرعية على الدعوة لتصرف السلطات المحلية في تلك الحصيلة على نحو لامركزي. لكن واقع الأمر أن اليسار علق مبكراً في شراك الدعاية المضلِّلة للطبقة الوسطى التي تقدس حق الملكية من ناحية، وتستند إلى الجدل الدستوري والقانوني حول شرعية فرض الضريبة على المسكن الخاص من ناحية أخرى ـ بغض النظر عما ان كان هذا المنزل جُحْراً أم قصراً ـ كما يظهر في كتاب «العدالة الضريبية» للباحث الاقتصادي رضا عيسى الصادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. كشف عيسى بالوثائق في كتابه الذي أثار جدلا كبيرا وقتها، عن تهرب كبار رجال الأعمال من ضرائب الدخل، وانحاز بوضوح للضرائب التصاعدية. لكن بما بتعلق بالضرائب العقارية، قال: «لما كانت الضريبة العقارية بشكلها الحالي تفرض على رؤوس الأموال، وليس على عائد أو دخل تحقق منها، ولما كانت هذه الأموال قد تولدت نتيجة أعمال مشروعة، وتم سداد الضرائب المستحقة عليها في حينه، فكيف يتم إخضاعها للضريبة؟».
الجدل الذي أثاره القانون ومعارضته الشديدة من قبل الشرائح العليا من الطبقة الوسطى المتنفذة في الإعلام، أربك اليسار الذي لم يتمكن من اتخاذ موقف مستقل. وهي معارضة أفضت فعليا إلى تجميد العمل به طوال الفترة السالفة، بدءا من تصريح للرئيس المخلوع حسني مبارك في مطلع العام 2010، مفاده أن الأمر لم يحسم بعد بما يتعلق بالقانون الجديد (بينما كان قد مرر بالفعل من مجلس الشعب)، مرورا بتجميده رسميا من قبل وزير المالية الأول بعد الثورة، على خلفية دعاية أن «حال البلد واقف» بحسب التعبير المصري الذي يشير إلى ركود الاقتصاد على نحو لا يستحسن معه تحصيل أي فوائض من الميسورين، قبل أن يجري إقرارها لاحقا في عهد الرئيس مرسي دون أن تطبق. وبصراحة يحسد عليها، قال طارق فراج، مستشار وزير المالية الحالي ورئيس مصلحة الضرائب الأسبق، إن «رجال الصناعة هم السبب في تأجيل تطبيق الضريبة العقارية... قبل الثورة كانت هناك مقاومة من رجال الأعمال لتطبيق الضريبة، وبعد الثورة واجه أغلبية المستثمرين ضغوطاً خلال المرحلة الانتقالية، وبالتالي فالوقت كان غير مناسب لتطبيق الضريبة».
رحلة طويلة إذا قطعها القانون - غير المفعَّل أصلا - في طريق متعرج يستحضر استنتاج أستاذ الاقتصاد الفذ الراحل سامر سليمان: «تجربتنا مع الضريبة العقارية تعيد التذكير بأن قدرة الدولة على فرض الضرائب على الأثرياء والمقتدرين تظل ضعيفة.