تزوير وتكفير الآثار اليمنية!

في منتصف آذار/ مارس الماضي 2021، وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لـ"عاصفة الحزم"، دعا محافظ ذمار إلى فتح باب المنافسة أمام المصممين الفنيين والنحاتين لتشييد نصب تذكاري وسط المدينة للملك الحميري ذمار علي يهبر، وهو "يرفع القرآن، ويدوس بقدميه قرارات الأمم المتحدة"!
2021-11-04

عبد الرزاق الحطامي

كاتب من اليمن


شارك

في إحدى محاضراته التعبوية، دعا حسين بدر الدين الحوثي ( قُتل في حرب صعدة 2004) مريديه من حركة الشباب المؤمن إلى تحطيم الأصنام.

لم يكن يقصد اللات وهبل، بل تمثال "ذمار علي" (أحد ملوك مملكة حمير اليمنية، حكم في القرن الرابع بعد الميلاد) و"معد كرب" (الذي أسلم وصار صحابياً، ولكنه ارتد بعد وفاة النبي ثم رجع إلى الإسلام، وهو شاعر وفارس اشتهر بالشجاعة حتى لُقّبَ بفارس العرب)، و"محرم بلقيس" (أو "معبد أوام"، ويقع على مسافة 10كلم جنوب مدينة مأرب، العاصمة السبئية التي كانت تتحكم بطرق التجارة القديمة)، وأعمدة "معبد الشمس"، و"معبد ألمقة" (معبد إله القمر الوثني)... وكل الشواهد الأثرية الماثلة على حضارات اليمن القديم، بحسب ما أفصح عنه في تسجيلاته الصوتية، وملازمه الموثقة لفتواه الشهيرة الخاصة بتكفير الهوية اليمنية والتاريخ والحضارة وكل من يعتد بهما. 

مقالات ذات صلة

وبما أن كل ما يتفوه به المرجع الأعلى لميليشيا الحوثي المتحوّرة من "حركة الشباب المؤمن"، هو بالنسبة لأتباعه مقدس، فما هو مآل الآثار اليمنية بعد نحو سبع سنوات من الحرب، وسيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، منذ أواخر العام 2014؟

 أين قدم ذمار علي؟

تعود بي الذاكرة إلى مقابلة صحافية كنت أجريتها قبل الحرب الراهنة بسنوات مع مدير عام المتحف الوطني بصنعاء. كانت المقابلة تبحث في حيثيات جرائم تهريب الآثار اليمنية والاتجار بالتاريخ وشواهد حضاراته الأثيلة والثرية بتراثها الثقافي في مراحل تاريخية هامة من عمر اليمن. التصور الأولي الذي أعددته كمحاور أساسية لتساؤلاتي الصحافية نسفته كلياً قدم "ذمار علي" المقطوعة.

من هو في مأرب، وفقاً لفتوى حسين بدر الدين الحوثي، كافر لكونه يسكن في مكان وثني، حيث أعمدة معبد الشمس وعرش بلقيس.

تمثال ملكي يواجهك عند مدخل بوابة المتحف، بوجه تعلوه سيماء الوسامة والمهابة. إنه ذمار علي يهبر الثاني. كان واقفاً بساقين مثبتتين، إحداهما بقدمٍ مقطوعة. بدأت المقابلة بارتجالي تساؤلاً: "استقبلني جدي الأعظم ذمار علي عند مدخل المتحف بقدم مقطوعة، أين ذهبت قدمه؟". وبما أنني من أبناء محافظة ذمار، جنوب شرقي العاصمة صنعاء، التي ينتمي إليها الملك الحميري ذمار علي، فقد كنت "حقيقياً" وأنا أدحرج السؤال الأول على طاولة المدير السابق.

وهو يفرك أصابعه ويداري ضحكته تبسّماً، جاء رد مدير المتحف صادماً أكثر من مباغتة السؤال، وعلى صيغة سؤال أوسع حيرة، وفق فلسفة المعرفة لدى الشاعر الرائي في اليمن عبد الله البردوني، حيث "الجواب سؤال السؤال". "بل أين ذهب ذمار علي يهبر بكلّه"؟! أجاب المدير.

 وبين التساؤلين انفتح الباب واسعاً على قضية أخطر من تهريب الآثار، وهي غير منظورة إعلامياً في المداولات العامة والنخبوية التي كانت تُحرِّك جدالاً حاداً حول تهريب الآثار اليمنية فحسب، في فترة شهدت حوادث من هذا النوع، وأخباراً عن ضبط السلطات منهوبات أثرية في مطار صنعاء، كانت في طريقها إلى خارج البلاد، كما شهدت حديثاً عن استرداد الحكومة شخصيةً يمنية تاريخية، كان تمثالها البرونزي في واجهات عرض أحد المتاحف العالمية.

أين ذمار علي نفسه؟!

أخذ الحديث سياقاً أكثر جدية. اصطحبني مدير المتحف في زيارة قصيرة إلى جدي الأعظم، ذمار علي يهبر،المعاق حركياً. ومن خلال تشريحاته للمنحوتة/ التمثال - وهو بها جد خبير - مضى مدير المتحف في تفكيك مجسمة ذمار علي، وصولاً إلى استدلال منطقي مقنع علمياً: "كأنه هو! لكنه.. ليس جدك الشرعي"! أكد مدير المتحف. تمثال مزور ومجدوع القدم، يهبر آخر ليس الأول الذي لا نعرف عنه شيئاً، وليس ذمار علي الثاني بل هو ينتحل شخصيته.

تتخذ تماثيل الشخصيات السياسية في تاريخ دول حضارات اليمن القديم، من الملوك والعسكريين، وضعية واحدة، تُفصح عن السمو الملكي والأبهة المعطاة للشخصية المجسدة في المنحوتات التاريخية. وهي تتطابق في مجسماتها الفنية مع الوضعية التي تبرز عليها تماثيل الآلهة الإغريقية والفينيقة، إذ لا يظهر الملك بصفته إلهاً إلا واقفاً، بقامة منتصبة.

وبالنسبة لقدمه المقطوعة فوجودها على هذه الهيئة هو الأهم، فهي شاهد الزور الذي يرجح عند الآخرين والباحثين المحليين من طلاب الجامعات اليمنية في تخصصات الآثار والتاريخ إن هذا الذي انقطعت قدمه هو ذمار علي يهبر الحقيقي، بشحمه ولحمه وعظمه. فانقطاع القدم لا يدل إلا على سفر طويل ورحلة شاقة، قطعها التمثال تاريخياً على مسافة تمتد آلاف السنين.

ذمار علي يرفع القرآن في ذمار!

تقول أحدث التقارير الرسمية الصادرة في مطلع العام الحالي 2021 إن الحوثيين هرّبوا زهاء 4500 مخطوطة وقطعة أثرية، بيعت خارج اليمن في مزادات السوق الدولية المظلمة للإتجار بتاريخ وحضارات الشعوب.

وثمة شهادات عيان لعاملين في المتاحف الوطنية داخل محافظات السيطرة الحوثية المسلحة، سرحتهم الميليشيا من وظائفهم بعد قطعها رواتب كافة موظفي القطاع العام بالدولة. وهذه الشهادات تتحدث عن تجريف حوثي كثيف لمقتنيات المتاحف الوطنية التي وضعت الميليشيا اتباعها في الوظائف الإدارية بالكامل. لكن الأدهى من هذا هو تجنيد هؤلاء الموظفين المسرّحين، وكذلك طلاب أقسام الدراسات الأثرية والتاريخية في الجامعات والمعاهد الأكاديمية، في فرق تنقيب ميدانية عن الآثار في المواقع الحضارية لليمن.

معبد الشمس، مأرب.

تتخذ تماثيل الشخصيات السياسية في تاريخ دول حضارات اليمن القديم من الملوك والعسكريين وضعيةً واحدة في تماثيلهم الأثرية، تفصح عن السمو الملكي والأبهة المعطاة للشخصية المجسدة في المنحوتات التاريخية. وهي تتطابق في مجسماتها الفنية مع الوضعية التي تبرز عليها تماثيل الآلهة الإغريقية والفينيقية، إذ لا يظهر الملك بصفته إلهاً إلا واقفاً، بقامة منتصبة.وما من ملك سبئي أو تُبَّع حميري يجلس القرفصاء في تمثال، أو يرفع يده للأعلى كمن يشارك في مظاهرة احتجاجية، أو يؤدي تمارين طابور الصباح المدرسي.

وحدها عبقرية محمد ناصر البخيتي، الذي ينتمي لمحافظة ذمار، وعينته ميليشيا الحوثي محافظاً عليها، خالفت ذلك ففي منتصف آذار/ مارس الماضي 2021، وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لـ"عاصفة الحزم"، دعا الرجل السلطة المحلية لمحافظة ذمار إلى فتح باب المنافسة أمام المصممين الفنيين والنحاتين لتشييد نصب تذكاري وسط المدينة للملك الحميري ذمار علي يهبر، وهو "يرفع القرآن، ويدوس بقدميه قرارات الأمم المتحدة".

وليس هذا إلا زاوية من الظلال السوداء لفتوى سيده الذي أفتى بصنمية الآثار والمعالم التاريخية، وركزت فتواه على الإرث الحضاري في مأرب على وجه التخصيص، وبشكل قصدي. فكل من هو في مأرب هو وفقاً للفتوى كافرٌ لكونه يسكن في مكان وثني، حيث أعمدة معبد الشمس وعرش بلقيس. وإذ يظهر تمثال "ذمار علي" التاريخي بيدين راكزتين وممتدتين إلى الأمام، دلالةً على العطاء والقوة. سيكون عليه وفقاً لتهويمات البخيتي أن يرفع القرآن بيده عالياً، وفي هذه الحالة سيكون "ذمار علي" خارج الفتوى التكفيرية للآثار اليمنية، بل إنه – ويا للعجب - سيغدو من المسلمين المؤمنين!  

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه