"أبهرنا العالم" تلك العبارة تتردد بلا انقطاع تقريبا في الإعلام المصري منذ تمكنت "ثورة يناير" من الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك، وبعد ذلك الإطاحة بخلفه المعزول محمد مرسي في ما اسماه الإعلام نفسه "ثورة 30 يونيو".. حتى ان صالة الوصول في مطار القاهرة تضم جدارا يحمل لوحة سجلت عليها بالانكليزية عبارة الرئيس الأميركي باراك اوباما التي اطلقها تعقيبا على انتصار الثورة: "علينا ان نعلم اطفالنا كيف يشبون كالأطفال المصريين". على هذا النحو لطالما اعلى الاعلام ومن خلفه السلطة في خطابها العلني من اهمية رأي العالم في الثورة، ربما لتبرير نيتها الالتزام بما يقتضيه "رضا" هذا العالم.
بدا مثلا أن العام 2011 قد أطل على مصر بتسابق "العالم "- وهي كلمة تشير فعليا لا الى شعوب العالم وانما الى الحكومات والمؤسسات الدولية – على دعم الاقتصاد المصري المتضرر على خلفية احداث الثورة الدامية. وكانت "شراكة دوفيل" في واقع الأمر هي أحد اهم تجليات هذا الدعم.
تلك الشراكة
وتعد شراكة دوفيل Dauville مع الدول العربية مبادرة دولية اطلقتها مجموعة دول الثماني في اجتماع قادتها في مدينة دوفيل بفرنسا عام 2011، تحت هدف معلن هو مساندة دول العالم العربي التي تمر بمرحلة تحول في أربعة مجالات أساسية ذات أولوية، هي تحقيق الاستقرار، وخلق الوظائف وفرص العمل، والمشاركة/الحكم الرشيد، والاندماج في الاقتصاد العالمي. ويرأس البنك الأفريقي للتنمية مجموعة المؤسسات المالية الدولية المشاركة، التي تشمل الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصندوق النقد العربي، وبنك الاستثمار الأوروبي، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ومؤسسة التمويل الدولية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الإسلامي للتنمية، وصندوق الأوبك للتنمية الدولية، والبنك الدولي. وتشمل الشروط الضمنية لهذه المبادرة، ضمان التزام "بلدان الربيع" والانتقال السياسي، باقتصاد مفتوح: "فتح المجال أمام مبادرات ثنائية واقليمية لتخفيض العوائق أمام النفاذ للأسواق وللتجارة وزيادتها بين الدول التي تشهد انتقالا (سياسيا) ودول الثماني، وبالذات عبر اتفاقيات عميقة للتجارة الحرة"، وفقا لبيان مفصل في هذا السياق صدر من البيت الابيض لتوضيح تفاصيل المبادرة. وهو توجه مغاير بطبيعة الحال من حيث المبدأ لمطالب الثورة من حيث ما يتضمنه من فتح المجال أمام منافسة غير متكافئة بين اقتصاديات المنطقة واقتصاديات متقدمة، والاهم هو ما يشمله هذا التوجه من تعهد ضمني باستبعاد اي خيارات اقتصادية واجتماعية غير متوافقة مع السوق الحر. و"المساندة " التي أبداها "البنك الاوروبي لإعادة التعمير والتنمية" هي بدورها جزء من هذا السياق. إذ تلخص مذكرة البنك الصادرة في حزيران /يونيو من العام 2012 ما اعتبرها التحديات التًي تواجهها مصر على خلفية الاضطراب السياسي. وتعتبر أن التحدي المباشر هو استعادة ثقة المستثمرين وتنشيط قطاع السياحة كما تجمل تحت مسمى "تحديات الانتقال (السياسي)" ست مسائل: تخفيض عوائق الدخول للسوق، الخصخصة، تخفيض دعم الطاقة، إتاحة التمويل للشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، تحقيق نمو تضميني للقطاع الخاص، الحوكمة والشفافية".
انتقدت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في تقرير صدر في ايلول/ سبتمبر من العام نفسه المذكرة قائلة إن "تصورات البنك الاوروبي لعملياته تنطلق من تصورات نيوليبرالية، وقناعات بأن التنمية تساوي معدلات النمو المرتفعة فحسب. وهو منطق ثبت قصوره في السياق المصري... لقد وقعت الثورة في مصر على إثر سنوات من معدلات النمو المرتفعة، وفي ظل تدفق غير مسبوق للاستثمارات الاجنبية... ومع سقوط نظام مبارك... أصبح من الواجب الأخذ بجدية رغبة شرائح عريضة من المصريين في إيجاد نموذج تنموي بديل يحقق تحسنا في مستويات المعيشة للغالبية منهم".
وحاليا، وبعد نحو اربع سنوات من الثورة، يثني صندوق النقد الدولي على أداء الحكومة المصرية في ختام مشاورات المادة الرابعة التي اجراها منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. اذ قال رئيس بعثة الصندوق الى مصر كريس جارفيز في بيان وقتها إن المرحلة الراهنة تمثل "فرصة مؤاتية لمصر. فقد بدأ الاقتصاد يتعافى بعد اربع سنوات من التباطؤ في النشاط الاقتصادي. ولا يقل عن ذلك أهمية وجود توافق وطني متزايد حول الحاجة الملحة الى الإصلاح الاقتصادي". وأوضح البيان ان صندوق النقد يدعم عدة اجراءات اقدمت عليها الحكومة، وتؤيد هذه النظرية إجراءات تقشفية تحد من الانفاق العام – الموجه للفقراء بالذات – تحت بند الانضباط المالي في محاولة لإعادة توجيه هذه الموارد الى المستثمرين بوصفهم خالقي فرص العمل. وتوقع البيان أن تؤدي "عملية ضبط اوضاع المالية العامة" الى "الحد من معوقات النمو وحماية الفقراء". او تفترض نظرية تساقط ثمار النمو أن دعم المستثمرين عبر تمهيد الطريق امام المزيد من الارباح وعبر تخفيضات في الضرائب عليهم سيؤدي ـ دون تدخل من الدولة ـ الى تحسن معيشة الفقراء مع زيادة فرص العمل التي سيخلقها ارباب الاعمال بناء على هذا التشجيع الحكومي.
عود على بدء!
واللافت ان ثناء من هذا القبيل حازته آخر حكومة قبل الثورة. إذ نص تقرير مشاورات المادة الرابعة في نيسان/ ابريل 2010، قبل شهور قليلة من الثورة على أن "مصر أحرزت تقدما ملموسا في تنفيذ إصلاحات هيكلية واسعة تسارعت بعد العام 2004، ما حفز سرعة نمو الناتج – الذي بلغ متوسطه السنوي 7 في المئة خلال السنتين الماليتين 2005/2006 و2007/2008"، وأن "الإصلاحات أدت إلى تقليص المخاطر على المالية العامة". وأيد هذا التقرير الاهتمام بتنفيذ "ضبط أوضاع المالية العامة". الواقع الوردي هذا الذي وصفه التقرير لم ينعكس على ما يبدو على حياة أولئك الذين صدحوا صبيحة 25 كانون الثاني /يناير بهتاف الثورة الأشهر: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
وبعدها برر صندوق النقد الدولي إخفاقه في إدراك مكمن الخطأ في الاقتصاد المصري بمقولة مسعود أحمد مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد: "تعلمنا الدرس"، في مقال نشره في 19 تشرين الاول /اكتوبر على مدونة الصندوق، تعقييا على الربيع العربي. قال مسعود وقتها "من الواضح أن الانتفاضات الشعبية التي بدأت منذ عشرة شهور جاءت بدافع الرغبة في مزيد من الحرية وفي توزيع أوسع نطاقا وأكثر عدالة للفرص الاقتصادية... لم نتوقع هذه العواقب التي ترتبت على عدم المساواة في توزيع الفرص". وقال إن جهود صندوق النقد تركزت على مساعدة بلدان المنطقة "في بناء أسس قوية للاقتصاد الكلي، وتحرير النشاط الاقتصادي، وإجراء إصلاحات تتسق مع متطلبات السوق وتستطيع تحقيق نمو اقتصادي أعلى... غير أن ما يتضح بنظرة إلى الوراء هو أننا لم نوجه اهتماما كافيا للطريقة التي كانت توزع بها منافع النمو الاقتصادي... حتى النمو الاقتصادي السريع لا يمكن أن يستمر ما لم يعم بنفعه الجميع، وما لم يكن مؤديا لفرص عمل جديدة للأعداد المتزايدة الباحثة عن عمل، ومصحوبا بسياسات اجتماعية تقدم الدعم اللازم لأفقر فئات المجتمع".
لكن بمرور الوقت، ومع تراجع قوة الثورة في مصر وتعثر الربيع العربي إجمالا، تآكل هذا الخطاب ولم يتبق منه إلا بقية المقال من قبيل مثلا حديث أحمد على استحياء وقتها عن أن "زيادة الإنفاق (في دول الربيع) أمر ضروري بالفعل على المدى القصير، لكن تصميم هذه الزيادة ينبغي أن يسمح بالعدول عنها في وقت لاحق لكي يعود الإنفاق إلى مستويات يمكن الاستمرار في تحملها، ومن ثم يخفف التداعيات طويلة الأجل على المالية العامة". و"نظرا لصعوبة الظروف الاقتصادية، فسوف تحتاج بعض البلدان إلى دعم مالي رسمي"، وهو ما قد كان فعلا عبر اتفاقية تنص على منح تونس تسهيلا ائتمانيا، ومفاوضات طويلة الأمد مع مصر امتدت منذ آذار/مارس 2011 الى نهاية حزيران /يونيو 2013، قبل ان تنقطع فجأة مع الانتقال السياسي العنيف وقتها من نظام مرسي الى النظام المدعوم عسكريا، وتراجع اليقين السياسي الى درجة تعثرت معها المفاوضات.
ما معنى مصري المنشأ؟
خلال هذه الفترة الممتدة من اندلاع الثورة وحتى تعثرها الكبير، كانت إدارة الصندوق ومعها الحكومات المصرية المتعاقبة تشدد على الدوام على أن الاتفاق المزمع بين الطرفين لن يتضمن شروطا من صندوق النقد الدولي، وإنما سيتضمن في المقابل برنامجا للإصلاح الاقتصادي مصريا بنسبة 100 في المئة. لكن بنود البرنامج المصري هذا أخذت تتسرب لتكشف للجمهور العادي ما هو بديهي بالنسبة للمهتمين بالاقتصاد، وهو أن البرنامج وان كان مصريا فهو يستلزم مع ذلك موافقة الصندوق على نحو لا يصنع فارقا مهما في هوية منشأه. فمثلا، وضمن الاتفاق نفسه الذي كان على وشك أن يتم وقتها – اضطر محمد مرسي في كانون الأول /ديسمبر من العام 2012 الى اصدار مرسوم بقانون يتضمن تعديل قانون الضرائب على المبيعات، كان من شأنه ان يتسبب في موجة تضخم عاتية قبل ان يتراجع عنه بعد ساعات فقط خشية ردود الفعل الشعبية في وقت كانت الثورة فيه منتصبة بكل قامتها. وتسبب تردد مرسي هذا في تعثر الاتفاق وهو ما انتقدته كريستين لاغارد رئيسة الصندوق لاحقا في اجتماعات الربيع من العام 2013، بعدها بشهور قلائل.
وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية الحالية استبعدت عدة مرات اللجوء مجددا لطلب اتفاق مع الصندوق، إلا ان الإجراءات التي اقدمت عليها بشأن تخفيض دعم الطاقة تتوافق مع نصائح لم تتوقف بهذا الشأن من قبل الصندوق. وانتهى هذا الى الثناء الذي حظيت به حكومة ابراهيم محلب في ختام مشاورات المادة الرابعة سالفة الذكر. ومن نافل القول بطبيعة الحال ان قرارا تتباهى إدارة السيسي بأنها اقدمت عليه على خلفية تردد كل الحكومات السابقة على انفاذه، ليس الا محصلة احتضار الثورة على النحو الذي يستبعد فيه صانع القرار اي رد فعل شعبي محتمل.
بطبيعة الحال، يحق للحكومة التي يرأسها ابراهيم محلب، العضو السابق في الحزب الوطني - حزب مبارك - ان تهنأ إذاً بثناء صندوق النقد تحت مسمى "ابهار العالم". لكن مؤيدي الثورة ينبغي ان يروا في رضا صندوق النقد الدولي ما هو عليه فعلا: هذا العالم منبهر فعلا الآن بقدرة السلطة الجديدة على وأد الثورة ومطالبها الاجتماعية.