"الحوار المجتمعي" هو الاصطلاح الذهبي الذي يصلح أن يكون عنواناً لكل إجراء اقتصادي ـ خاصة إذا كان تقشفياً ـ تعتزم الحكومة المصرية الإقدام عليه. المصطلح يشير الى سلسلة من اللقاءات وورش العمل تعقد مع ممثلين لجهات تمثل بدورها قوى اجتماعية متباينة، يفترض تبعاً للمنطق انها تملك وجهات نظر مختلفة، ان لم تكن متناقضة، بحسب طبيعة المصلحة الاجتماعية التي تمثلها.
ولكن الأمر خلاف ذلك تماماً فعلياً، الى الحد الذي يبدو معه بجلاء ان الحكومة تستفتي فقط رأي هؤلاء القادرين على توجيه دفة الأمور، أي المستثمرين، بينما تعتبر أنه لا رد فعل محتملاً لأي طرف آخر، كممثلي العاملين بأجر او المستهلكين (بحسب المواضيع).
من تجري محاورته؟
الحكومة ما زالت الى الآن، وقبل نحو شهر فقط من بدء العام المالي الجديد، لم تطرح لهذا لحوار العام البيان المالي للموازنة العامة ـ الذي يعد وثيقة مقترحة يفترض ان يجري اعتمادها من قبل مجلس الوزراء او تعديلها ثم إحالتها لرئيس الجمهورية ليعتمدها او يعدلها ثم يقرها.. من دون ان يعرف الجمهور لماذا وافق عليها او لماذا عدلها في غيبة البرلمان.
توجهٌ من هذا القبيل من المحتمل ان يزيد طين سياسات التقشف بلة، والذي يعني في المقام الاول تخفيض عجز الموازنة الى اقل معدل ممكن لضمان تحصيل المستحقات لدى الحكومة في العقود الموقعة معها. ولعل ابرز مثال على ما سبق هو "الحوار المجتمعي" حول مشروع قانون الضريبة على القيمة المضافة. فخطاب وزارة المالية (في ترويجها لهذا القانون) يعتمد في الاساس على أن إقراره سيمر عبر "الحوار المجتمعي". لكن هذا الحوار يقتصر فعلياً على وزارة المالية ومصلحة الضرائب من ناحية، واتحاد الصناعات والاتحاد العام للغرف التجارية وجمعية الضرائب المصرية، في غيبة اي نقاش مع ممثلي جميعات حماية المستهلك مثلا، او المجتمع المدني، حول قانون يمس ملايين المستهلكين ولا يلعب في تطبيقه المستثمرون والتجار الا دور محصل الضريبة.
ضريبة موحدة على السلع
وتروِّج وزارة المالية للقانون الجديد باعتباره يحقق العدالة الاجتماعية، فقط لأنه يخفض فترة ما يسمى بـ "رد الضريبة" - ويشير المصطلح إلى رد الضريبة على السلع والخدمات للمستثمرين في حالات بعينها بعد تسديدها للحكومة ـ لأنها بذلك تكون قد استجابت لمطلب "جمهورها" الذي تخاطبه حصرياً.
ويتضمن القانون تقليصاً لفترة الرد الضريبي التي ستنخفض من ثلاثة اشهر في قانون الضريبة على المبيعات الحالي ـ الذي سيلغى - الى ستة أسابيع، وفي حالة السداد الالكتروني للضريبة سيكون الرد أسرع. وفي المقابل سيتحمل ملايين المستهلكين (من دون ان يحق لهم القبول او الرفض) زيادة وطأة الضرائب غير المباشرة ـ وغير العادلة بالتعريف ـ بسبب ما يتضمنه القانون الجديد من إخضاع كل السلع والخدمات للضريبة، قياساً مع الوضع الحالي الذي يفرض الضريبة على استهلاك السلع المصنعة فقط من دون المواد الأولية والخدمات. ويفترض وزير المالية أن تطبيق الضريبة الجديدة سيؤدي الى زيادة في التضخم بمعدل 2.5 الى 3.5 في المئة. وفي حين يصعب التحقق من صحة تقدير وزير المالية لحجم التضخم الناجم عن تطبيق الضريبة من مصدر مستقل، فالثابت ان ما يزعمه من ان الفقراء سيكونون الأقل تضرراً من الضريبة مخالف تماماً لأي منطق. فالقانون الجديد يفرض ضريبة بنسبة موحدة على كل السلع والخدمات. وتتكتم وزارة المالية على قيمة الضريبة المقترحة، لكن التسريبات تشير الى احتمال اعتماد سعر موحد للضريبة، وهو أمر يعني عملياً ارتفاع الضريبة على عدد من السلع وانخفاضها عن سلع أخرى، إذ يتضمن القانون الحالي 10 في المئة سعراً عاماً للضريبة و5 في المئة سعراً لعدد من السلع و25 في المئة سعراً لضريبة سلع أخرى بل 45 في المئة سعراً لضريبة عدد محدود من السلع التَرَفيّة للغاية.
• سترتفع اذاً الضريبة بواقع 10 في المئة على السلع التي تخضع لضريبة بواقع 5 في المئة والتي تشمل السلع الواردة بالجدول رقم (أ) المرافق للقانون الحالي مثل البن ومنتجات الدقيق والحلوى من عجين (عدا الخبز المسعَّر) والصابون والمنظفات الصناعية والأسمدة والمبيدات الحشرية.
• بينما ستنخفض الضريبة بواقع 10 في المئة على عدد من السلع المرتبطة باستهلاك شريحة اعلى من اصحاب الدخل، والتي تشمل بعض السلع المعمرة مثل أجهزة التلفزيون الملون أكثر من 16 بوصة، والثلاجات ذات السعة أكثر من 12 قدماً، والمجلدات وأجهزة التسجيل وإذاعة الصوت وأجهزة الفيديو ومستحضرات التجميل وشرائط الفيديو، ومستحضرات العطور أو التجميل ومنتجات مُعدَّة للعناية بالجلد أو الشعر، الثريات وأجزائها، سيارات الركوب التي سعة السلندر فيها أكثر من 1600 سم مكعب أو ذات المحركات الدوارة، سيارات نقل البضائع والأشخاص معاً، سيارات الجيب وسيارات رحلات ومعسكرات مجهزة للمعيشة، مقطورات مجهزة للرحلات.
• كما يُفترض ان تنخفض الضريبة بواقع 35 في المئة على السيارات الفارهة التي تخضع حالياً لسعر ضريبة يصل الى 45 في المئة.
• كما يفترض ان تشهد المواد الأولية ارتفاعاً بواقع 15 في المئة لأن القانون الجديد يخضع المواد الاولية للضريبة، بعكس القانون الحالي الذي يقتصر نطاقه على السلع المصنعة.
التجربة في مصر ما زالت وليدة، لكن استعراضها في بريطانيا مثلا يشير الى تحمل الطبقات الأفقر لعبء الضريبة. ففي العام 2007-2008 ووفقاً لبيانات مؤسسة الدراسات المالية، وهي مؤسسة مستقلة، بلغت نسبة العبء الضريبي الى دخل أفقر شريحة من الأسر (تمثل أفقر 20 في المئة من السكان) ما يقرب من 20 في المئة، بينما بلغت النسبة في أعلى شريحة من الأسر من حيث الدخل اقل من 10 في المئة. وفي المقابل، تسوق الحكومة البريطانية مبررات لافتة للنظر من قبيل ان ضريبة القيمة المضافة تبدو "رجعية regressive" عند النظر لها بمعيار الدخل، اما لجهة الإنفاق فيمكن النظر اليها باعتبارها ضريبة تقدمية progressive. وهذا الطرح رجعي في حد ذاته لأنه يعتمد في جوهره على وجهة نظر مفادها ان الحل في التخلص من أعباء الضريبة هو تخفيض الاستهلاك وهو ما يعاني منه الفقراء بالفعل. التجربة البريطانية هذه دليل على ان السياسات الضريبية إجمالا لا ترتبط بالمقام الاول بمفاهيم الكفاءة في التحصيل او الصياغة القانونية المحكمة وإنما بالانحياز الاجتماعي.
الانحياز الاجتماعي
.. الانحياز الاجتماعي للنظام السياسي الحالي لا يحتاج لكثير من التفصيل. لكن ما يستدعي النظر حقاً هو انه لا يخشى جانب القوى الاجتماعية المتضررة في ظل قدرة غير مسبوقة على استخدام السلطة القمع في مواجهة الاحتجاجات. والدليل انها ستقدم على استصدار القانون بينما أعاق صدوره منذ العام 2005 الخوف من رد الفعل الشعبي الاحتجاجي.. بالضبط كما اقدمت في تموز/ يوليو من العام الماضي على تمرير أول خفض في موازنة دعم الطاقة، متفاخرة بإنفاذ الإجراء الذي لطالما خشيت من عواقبه الحكومات السابقة المتعاقبة.