حرب الرموز في انتفاضة تشرين العراقية

صارت مفردة "ذيل"، التي تعني "ذَنَب" الحيوان، تُستخدم دلالياً للوصم بتبعية شخص أو كيان لسواه الأكثر نفوذاً، أو لجهة سواء كانت في داخل بلاده أو خارجها. وقد أعيد إحياء المفردة فصارت منتشرةً في عراق ما بعد 2003. ثم لحقت بها مؤخراً مفردة "جوكر"...
2021-11-01

علي فائز

كاتب وباحث من العراق


شارك
قناع "الجوكر" مرسوما على وجه متظاهر عراقي. تصوير: زياد متى

تلعب الأحداث السياسية والاجتماعية دوراً بارزاً في خلق الدلالات اللغوية وإحيائها وتجديدها، وتساهم في إضافة معانٍ جديدة إلى معجم المصطلحات والمفردات الاجتماعية. وقد درس اللغويون ذلك، وكذلك فعل علماء الاجتماع والفلسفة في رصدهم لهذه العملية. وهذا أحد أهم الميادين التي تضفي أهميةً مضاعفة على فكرة "تقاطع" المعرفة والعلوم بغاية أن يصبح فهم الواقع أكثر فعاليةً، وقرباً من الواقع!

فمثلاً صارت مفردة "ذيل"، وهي نفسها التي تعني "ذَنَبَ" الحيوان، تُستخدم دلالياً بمعنى التبعية من قبل شخص لسواه الأكثر نفوذاً سواء كان في داخل بلاده أو من خارجها. وقد أعيد إحياء مفردة "ذيل" فصارت من أبرز المفردات/ المفاهيم المنتشرة في عراق ما بعد 2003.

ومن أشهر من وظّف مفردة "ذيل" في كتاباته، بدلالة العمالة والخيانة للوطن والأُمَّة، هو الشاعر العراقي مظفر النواب ، في قصيدته "القدس عروس عروبتكم" إذ جاء فيها: "مولانا.. يُزعم أن شيوخ أبي ظبي، والبحرين، ورأس الخيمة، يخفون ذيولاً أرفع من ذيل الفأر، وحين يخرون سجوداً للشاه تبينُ قليلاً من تحت عباءتهم".

مفردة "ذيل" وجمهور التيار الصدري

بعد الانشقاقات التي حصلت داخل التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، سنة 2011، حيث أعلن بعض القادة انشقاقهم الرسمي، وقدموا ولاءهم للمرشد علي الخامنئي من دون مواربة، انبعثت مفردة "ذيل" من جديد، لتطلق على كل شخصٍ لديه ارتباط أو ولاء للنظام الإيراني. وبمرور الأيام، توسّع نطاق المفردة لتشمل كل شخصٍ له ماضٍ مع إيران، فصار الجمهور يبحث عن تاريخ عائلة الشخص "المشكوك بأمره"، فإذا كان أحد أفرادها له علاقة بالنظام الإيراني، فإنه يوضع في العربة الذيلية التي تجرّه إلى دلالة خيانة الوطن والتآمر عليه!

 وهنا غفل جمهور التيار الصدري عن أمر هام جداً، وهو أن رموز العائلة كمحمد باقر الصدر، وصادق الصدر كانت لهم مواقف واضحة من النظام الإيراني، ولعل أشهر ما يثبت ذلك، كلمة السيد محمد باقر الصدر المشهورة "لو أنّ السيّد الخمينيّ أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما تردّدت في ذلك". أما صادق الصدر فقد كتب الشعر في مديح المرشد علي خامنئي خلال زيارته لإيران، وجاءت في ديوانه "أشعار الحياة" الذي كتب مقدمته ابنه مقتدى الصدر، قصيدةٌ بعنوان "صلاة الجمعة" يقول فيها الصدر:

وعندما انتهى من الخطاب .. جاء إلينا من ليوث الغاب

خامنئي إمام كل البشر .. وصاعد بصيته المنتشر

هناك شاهدناه بالعيان .. أول مرة لدى إيران [1]

وعند انطلاق احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، فإن مفردة "ذيل" خرجت من الأسوار الصدرية لتصبح شائعةً يستخدمها عامة الشعب بحق الذين تكوّن ولاءاتهم عابرة للحدود، أو بحق هؤلاء الذين تهمهم كل قضايا الكون، إلا قضايا وطنهم ومحنته. ومما يزيد هذه المفردة رسوخاً وقوة، هو توظيفها في الأغاني العراقية الداعمة للاحتجاجات مثل أغنية "ذيل أعوج"، والتي هي من إنتاج فريق البرنامج الساخر "البشير شو" [2]، وأغنية "الراب" "ذيول إيران" [3] الشائعة على "يوتيوب". وهناك غير تلك الكثير.

بعد الانشقاقات التي حصلت داخل التيار الصدري سنة 2011، حين قدّم المنشقون ولاءهم للمرشد الخامنئي، انبعثت مفردة "ذيل" لتطلق على كل شخصٍ لديه ارتباط بالنظام الإيراني أو ولاء له. ثم توسع نطاق المفردة لتشمل كل شخصٍ له ماضٍ مع إيران، فصار يُبحث في تاريخ عائلة "المشكوك بأمره"، ويوضع حين التثبت من التهمة في العربة الذيلية التي تجرّه إلى دلالة خيانة الوطن والتآمر عليه!

 واستخدمت هذه المفردة من قبل ممثل المرجعية الدينية في النجف السيد أحمد الصافي أثناء قراءته لخطبة الجمعة بتاريخ 16 كانون الثاني/ يناير 2020، حين قال: "بعض الناس لا يمكن أن يكون إلا ذيلاً... أسيادهم ماذا يقولون، هم معهم، آمنوا آمنوا، كفروا كفروا، أُقتل أُقتل، أترك أترك.. هو حر، لكن عندما خنع وخضع وأذل نفسه، أصبح ذَنَبا" [4].

الـ"جوكر" كمعادل لمفردة "ذيل"

في المقابل، فإن قادة الميليشيات وجماهيرهم استخدموا قناع "جوكر"، نسبةً إلى الفيلم الأمريكي المشهور الذي يحمل العنوان نفسه، ووظفوه كمعادل موضوعي لمفهوم الـ"ذيل"، فصارت هذه التهمة لعقةً على ألسنتهم ويكررونها في لقاءاتهم وإعلامهم وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي يشرفون عليها. وهذه إحدى التهم المستحدثة على ألسنتهم، بعد أن كانوا يتهمون المتظاهرين فيما مضى بـ"البعثية"، التهمة التي لم ترسخ كثيراً، فأغلب من شاركوا في انتفاضة تشرين هم من الجيل الجديد، وهو جيل لم يعاصر حزب البعث ولم يتشرب أفكاره أو يخدم في مؤسساته. فضلاً عن ذلك، فإن قوة التظاهرات برزت في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية. فصاروا في حرج من هذه التهمة التي توازي تهمة "الغوغاء" التي كان يطلقها النظام السابق على كل بادرة احتجاجية.

في كتابه "يوميات الألم والغضب"، يذهب الكاتب والروائي زهير الجزائري [5] إلى أن السلطة لم تنتج في مداولات الدم والمداهنة غير رمزين: "الجوكر" و"الطرف الثالث". وبالنسبة لرمز الجوكر، فإن الجزائري يؤكد على اشتقاقه من الفيلم الذي لم يشاهدوه، ولم يدركوا ولا يريدون أن يدركوا ما وراء الفيلم من حياة هامشية في مجتمع يرفض دمج الجوكر كفرد فيه فيتحول إلى جمهور (ص118).

من أشهر من وظّف مفردة "ذيل" في كتاباته، بدلالة العمالة والخيانة للوطن والأُمَّة، هو الشاعر العراقي مظفر النواب ، في قصيدته "القدس عروس عروبتكم" إذ جاء فيها: "مولانا.. يُزعم أن شيوخ أبي ظبي، والبحرين، ورأس الخيمة، يخفون ذيولاً أرفع من ذيل الفأر، وحين يخرون سجوداً للشاه تبينُ قليلاً من تحت عباءتهم".

وفي تعليقه على صناعة هذه الرمزية، يقول الجزائري: "الثقافة السلطوية – الدينية تعرف الشيطان وتعرف كيف تشيطن الآخرين، فتحيل الظاهرة إلى خلل في التربية العائلية أو علّة في النفس من الخالق. وحين تتودَّد السلطة للمتظاهرين تلبَّس ثوبَ الأب القاسي الذي يريد أن يجنّبَ أولاده صحبة السوء حرصاً عليهم، فتستخدم الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع لمعاقبة الكل بحجة مطاردة الجزء الشرير (المندس) بينهم... 

الجوكر الذي تقدّمه السلطة كرمز للشرّ المطلق وطاقة للتدمير صار شخصية أليفة في الساحة، يتجوّل بين الناس من دون أن يؤذي أو يفزع، صار رمزاً للمهمشين في الساحة". ويقول: "ما هيأ الأرضية لهذه التهمة، هو أحد المدونين المعروفين الذي كتب في حسابه منشوراً يعترض فيه على استخدام صور فيلم "الجوكر" في حسابات بعض الناشطين الداعمين للتظاهرات، وصنع زوبعة من الخلافات لم يهدأ عجاجها إلى يومنا هذا، في وقت كانت رؤوس الشباب تُهشّم برصاص القناص والقنابل المسيلة للدموع، وفي وقت كانت أعداد القتلى تتزايد بشكل مرعب. فهذا الاعتراض "غير المبرر"، صنع أرضيةً خصبة لتهمة ينتظرها قادة الميليشيات، عندها أصبحت تهمة "الجوكرية"، أو أبناء الجوكر الأمريكي جاهزةً للنمو والتكاثر، وإن كانت من دون جذور. فما شجعهم على ذلك، هو هذا الاعتراض الذي لفت الأنظار إلى قضية طبيعية تحدث في كل الدول التي يثور شبابها ضد الظلم والفساد. فمثلاً يُعدّ بطل فيلم V for Vendetta الذي أنتج سنة 2006 أيقونة كل شباب العالم الثائر ضد السلطات، ولا يزال أغلب المحتجين يرتدون نسخاً من قناعه الذي يرتديه في الفيلم، ولكن لم نسمع أنهم تحولوا إلى متطرفين أو قتلة، أو مدعومين من جهة معينة لا تريد الخير لبلادهم لمجرد فعلهم ذلك.

والأنكى من كل هذا، أن هذه التهمة تصدر من قادة لديهم تاريخ في النزاعات، وتاريخهم الإجرامي معروفٌ لعامة الناس، فهم أربابٌ للتطرف واللصوصية والاغتصاب، يقتلون وهم بكامل قواهم العقلية والنفسية خلافاً للجوكر الذي صنعت منه السلطة أداة قتل وأرادت أن يكون كما أرادوا له أن يكون بعد سلبه لإنسانيته. لكن على الرغم من ذلك يستمرون بترديد هذه التهمة لعدم وجود تهمة عقلانية يطلقونها بحق متظاهرين أحرار لم يسرقوا ولم ينتهكوا الأعراض، ولم يغتصبوا، ولم يكن الولاء عندهم عابراً للحدود، وعلى الرغم من وصول الضحايا إلى أكثر من 24 ألفاً بين قتيل وجريح، فإنهم لم يخرجوا من إطار السلمية ولم يلجأوا إلى استخدام العنف. وربما يُعد إصرارهم على هذه التهمة نوع من أنواع الإسقاطات النفسية التي يقومون من خلالها بترحيل عيوبهم إلى الآخرين لخلق نوع من المقبولية في المجتمع الذي لفظهم ولم يعد يتقبل وجودهم".

مفردة "الجوكر" التي أطلقت من قبل الميليشيات على الشباب المنتفض في 2019، مشتقةٌ من الفيلم الأمريكي Joker (المنتج عام 2019) والذي لم يشاهده من استخدمها، "ولم يدركوا ولا يريدون أن يدركوا ما وراء الفيلم من تناول لحياة هامشية في مجتمع يرفض دمج الجوكر كفرد فيه فيتحول إلى جمهور".

ولا يزال التراشق بهذه المفردات قائماً إلى يومنا هذا. فالطرف "الولائي" (نسبة إلى الولي الفقيه الإيراني) يتهم الشباب المحتج بالعمالة لأمريكا عن طريق استخدام رمزية "الجوكرية"، والطرف الآخر يتهمهم بـ"الذيول"، وخلال التظاهرات التي سُميت بـ "جمعة الصمود" بتاريخ 10 كانون الثاني/ يناير 2020، استخدم المتظاهرون في عموم العراق شعارات تندد بالمحور الأمريكي والإيراني على السواء، معلنين رفضهم الواضح تحويل أرض العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران. 

______________

[1] شعار الحياة - محمد محمد صادق الصدر، ص 294، مؤسسة المنتظر لإحياء تراث آل الصدر.
[2] https://www.youtube.com/watch?v=8eQEdrSk6Yg
[3] https://www.youtube.com/watch?v=roQHXwZL8B8
[4] https://www.youtube.com/watch?v=n4XSRFFMZI0
[5] كاتب وصحافي عراقي، من مواليد النجف 1943. 

مقالات من العراق

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العائدون من الحياة إلى الحياة!

علي فائز 2024-06-03

"يستحي الأسير العراقي من ذكر تجربته ويحاول تجنّبها، ويستمر في عملية التجنّب عقوداً طويلة. وغالباً ما يصاب الأسرى ب"عقدة الناجي". فالناجي من الشدائد الفاجعة، يُحمِّل نفسه ما يُسمّى بـ "ذنب...

فلسطين قضيتنا نحن العراقيين!

علي فائز 2023-11-11

استفز الرئيس الأمريكي جو بايدن ذاكرة العراقيين بعد أن نصح الإدارة الإسرائيلية بأن تكون الحرب على غزّة أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004، وأرسل...