"إحنا بتوع (ننتمي الى) 30 يونيو يا باشا"، قالها موظف خمسيني نصف ريفي موجهاً حديثه لـ "الباشا" - وهو اللقب الشعبي لضباط الشرطة - الذي وقف مع زملائه في حر القاهرة القائظ حائلا دون تظاهر الموظفين ضد قانون الخدمة المدنية الجديد الذي ينظم توظف العاملين في جهاز الدولة. حملت عبارة الموظف استنكاراً حقيقياً مبطناً بدهشةٍ من تصدي ممثلي الدولة لتظاهرة حفنة من مؤيدي الدولة نفسها والقانون والأمور الراسخة. حتى أن الموظفين استندوا في إقدامهم على خطوة التظاهر ذاتها الى قانون التظاهر - المثير جدا للجدل والصادر عبر مرسوم رئاسي في غيبة برلمان - الذي يبيح التظاهر من دون تصريح في أماكن بعينها في كل محافظة يحددها إدارياً كل مُحافظ بدلا من محاولة كسر القانون.
وعلى الرغم من "كلنا بتوع 30 يونيو" على حد قول الضابط في رده - الصّادق - على العبارة التي بدت وكأنها باغتته، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً من تعامل أفراد الشرطة مع المتظاهرين الذين سرت بينهم همهمة ساخرة ومريرة حول دورهم في أحداث 30 يونيو، وما آلت إليه الأمور بعدما انتصرت الدولة على الثورة وصولا إلى حظر تظاهرهم، هم مؤيدو الدولة الأوفياء. أجهضت الشرطة على كل حال تظاهرة 12 أيلول/ سبتمبر، عبر عدد من الألاعيب التي أدت فعليا إلى عرقلة وصول عدد كبير من المتظاهرين إلى موقع التظاهرة.. وبقي قانونا الخدمة المدنية والتظاهر، على السواء. كما كبلت مسيرة الاحتجاجات مذاك خلافات عميقة بين النقابات المستقلة التي قادت حركة الاحتجاج ضد القانون وتردد بعضها في المضي قدماً في الدعوة للاحتجاجات خشية "تسييسها"، وهو ما يشي بشدة بتأثير دعاية السلطة ضد الاحتجاجات على قوة إرادة تلك النقابات.
تهديد الولاء للدولة
إلّا أنّ هذه الهمهمة حول 30 يونيو وسواها من مظاهر الولاء التاريخي لموظفي الدولة، لا بد أنها باقية على نحو ما في نفوس هذا القطاع الضخم، لا لأن حقهم في التظاهر مُصادر، بل لأن مصدر ولائهم الاول والاخير أصبح مهددا بشدة للمرة الأولى بسبب قانون الخدمة المدنية.
يتضمن القانون نصوصا تهدم الأمان الوظيفي المعتاد في الوظائف الحكومية، من قبيل تلك التي سمحت بإمكانية إنهاء خدمة المعين خلال الستة أشهر الاولى من التعيين، من دون النص على آلية للتظلم أو الاعتراض على القرار، وحق لجنة الموارد البشرية في رفض تظلمات الموظفين على تقاريرها عن أداءهم ـ وهي التقارير التي قد تنهي مستقبلهم الوظيفي ـ من دون إبداء أسباب بل ومن دون رد، مع مصادرة حق الموظفين في اللجوء للقضاء الإداري، والتوسع في صلاحيات السلطة المختصة، سواء في حفظ التحقيق أو توقيع الجزاءات، ومنح السلطة المختصة حق رفض طلب الموظف في الحصول على مقابل لثلث إجازته أجراً، بعد مضي ثلاث سنوات.
وعلاوة على ذلك، يتضمن القانون نصوصاً تشترط في من يعين في وظيفة حكومية أن يكون "محمود السيرة، حسن السمعة"، من دون ذكر ضوابط حُسن السمعة هذه ولا الجهة المختصة بتحديد ذلك، وهو ما قد يبدو بوابة لتدخل الأجهزة الأمنية في التعيين، كما يتضمن القانون تشجيعاً للموظفين على المعاش المبكر (إمكانية قبول طلب الموظف بالإحالة إلى التقاعد بدءا من سن الخمسين، أي قبل عشر سنوات من الحد المعتاد، وتفاصيل أخرى الخ..).
ويقلص القانون بشدة من معدل الزيادة السنوية في أجور العاملين في الدولة، قياسا على القانون السابق للعاملين في الدولة، وهو أحد أهم مقاصد قانون الخدمة المدنية هذا. وكان البيان المالي لموازنة العام المالي الماضي 2014/2015 قد نص ربما للمرة الأولى على نية التصدي لتضخم الإنفاق على الأجور. كما أن تعدد الضوابط والقواعد والإجراءات والاختيارات التي أحالها القانون للائحة التنفيذية، يزيد من تحكم السلطة التنفيذية فيه القانون وفي تبديل مقاصد مواده، من قبيل كيفية اختيار لجنة الموارد البشرية التي يمكنها إنزال عقوبات شديدة التأثير على مستقبل العاملين، وتحديد إجراءات وقواعد إنهاء الخدمة. في كتابه "النظام القوي والدولة الضعيفة" قدم سامر سليمان، أستاذ الاقتصاد الراحل الشهير، تحليلاً لكيفية بناء الولاء التاريخي لقطاع كبير من السكان لدولة تموز/ يوليو/ في إشارة للنظام الذي تشكل في الأساس على أكتاف نخبة عسكرية في أعقاب 23 يوليو /تموز 1952: "أهم الثوابت التي قاومت الزمن خلال حكم الرؤساء الثلاثة (جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك) كانت الدولة الرعوية.. المقصود بالدولة الرعوية هنا هي تلك الدولة التي تتحكم في موارد كثيرة تستطيع بواسطتها أن توزع الكثير من العطايا على بعض القطاعات النشطة من السكان". وأضاف: "العطايا تبدأ من الدعم السلعي وتمر بالرعاية الصحية وتصل للتوظيف المباشر في جهاز الدولة الذي يمكن اعتباره أم العطايا لأنه يحقق قدراً عظيماً من سيطرة النظام السياسي على الأفراد". ويشدد على أن أنور السادات، على الرغم من سهام النقد التي استهدفت "تخليه" عن دور الدولة في التوظيف، إلا أن "الدولة المصرية وصلت في عهد السادات الذي رفع شعار الانفتاح الاقتصادي، إلى مرحلة من التضخم لم تصلها أبداً في عهد عبد الناصر". ويرى سليمان أن التكيف مع انخفاض الإيرادات يكون بإجراء تخفيض مماثل في الإنفاق، "لكن تلك مشكلة سياسية كبيرة، لأن تخفيض الإنفاق يعني أن الأفراد والجماعات التي تحصل على دخل من الدولة عليها أن تقبل بحجم تدفقات أقل أو بعدم وجود تدفقات على الإطلاق". وبما أنّ الدولة الرعوية كانت أداة عبد الناصر في إقامة نظامه السياسي، ومن دونها لكان لنظامه أن يتحول إلى محض نظام قمعي واستبدادي، فأي وصف إذاً يمكن أن يَصدق على نظام السيسي بينما يتخلص شيئاً فشيئاً من التزامات الدولة التاريخية من دون مقابل من حريات عامة بل ومع مصادرة شبه كاملة للمجال العام برمّته؟
وبما ان تلك الدولة الرعوية كانت أداة أنظمة الرؤساء الثلاثة الغابرة في البقاء، خشية انصراف قطاعات كبيرة من السكان عن تأييدها ولو بالصمت، أيعني ذلك أن السيسي حين يُقدم على ما لم يجرؤ عليه سابقوه "يحسب أنه لا يقدر عليه أحد"؟