العاملات المهاجرات في لبنان المنهار. كيف جرت الامور؟

على مرّ السنين، حكم نظام الكفالة شكل العلاقة بين صاحب العمل اللبناني والعاملة المهاجرة، معطياً الطرف الأوّل سلطةً واسعةً على الطرف الآخر الذي تُرك من دون ضوابط تضمن حقوقه. جعل ذلك الكثير من العاملات عرضةً للاستغلال أو في ظروف عملٍ شبه جبريّة. فقد جرى استثناء قطاع العمل المنزلي من أحكام قانون العمل اللبناني.
2021-10-28

رضا حريري

كاتب صحافي من لبنان


شارك
متظاهرون ضد نظام الكفالة في بيروت 2019- AP Images

في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، انتشر فيديو لعاملات منزليات أثيوبيات يدعون من مطار بيروت الدولي اللبنانيين للسفر إلى أثيوبيا والعمل "خادمات" لقاء أجرٍ مدفوعٍ بالعملة الأثيوبية، "البِر".

كان الفيديو مجرّد تعليقٍ ساخرٍ على تبعات الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بلبنان منذ أواخر العام 2019، تسجيلٌ من آلاف التسجيلات المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي ممّن لم يجد أصحابها وسيلةً غير السخرية للتعبير عن امتعاضهم من انهيار قيمة الليرة اللبنانية وشحّ الدولار، لكنّه لم يكن كذلك بالنسبة لجزءٍ من اللبنانيين رأى في النكتة إهانةً له! اعتبر هؤلاء في تعليقاتهم على "تويتر" و"فايسبوك" أنّ الفيديو "يبيّن عن حقد دفين" و"جحود ونكران" وأسف آخرون على "غدر الزمن الذي أدى إلى انقلاب الأدوار".

لم يتوقّف الأمر عند الاعتراض، بل تجاوزه إلى نشر رقم هاتف صاحبة الفيديو المقيمة في لبنان، والاتصال بها لتخويفها بالعقاب وتهديدها بالضرب والترحيل.

جوبهت هذه الحملة بحملةٍ مضادة دافعت عن العاملات. إلّا أنّ ما جرى كان دليلاً إضافياً على العنصرية التي تحكم نظرة وعلاقة قسمٍ كبيرٍ من اللبنانيين بالعمالة المهاجِرة من جهة، ومن جهة أخرى انعكاساً لتغيّرٍ في إدراك الطرفين لموقعهما في العلاقة بفعل الأزمة الاقتصادية.

في ظلّ نظام الكفالة

في السنوات التالية على انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990، تزايدت أعداد عاملات المنازل المهاجرات في بيوت اللبنانيين. لم يعد الأمر حكراً على الأثرياء أو الفئات ذات المدخول المرتفع، بل تحوّل إلى ما يشبه الضرورة لدى الكثير من العائلات اللبنانية التي تنتمي لفئات أقل ثراءً.

صار العمّال المهاجرون، ومعظمهم من عاملات المنازل، يشكّلون نسبة وازنة من مجموع اليد العاملة، إذ وصل عدد المقيمين منهم بشكلٍ شرعي في لبنان إلى 246 ألف عامل في العام 2019، بحسب الإحصاءات الرسمية لوزارة العمل، يضاف إليهم عشرات الآلاف من المقيمين بشكلٍ غيرٍ شرعي.

كان هذا الاندفاع اللبناني العابر للطبقات إلى استقدام عاملات المنازل نتيجةً لسببين رئيسيين. الأوّل هو تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في منتصف التسعينيات الفائتة، ممّا رفع من قيمة الأجور، وجعل اللبنانيين قادرين على دفع أجورٍ متدنية للعاملات المستقدَمات من الخارج، لا تزيد قيمتها أحياناً عن ربع قيمة الحد الأدنى للأجور. أما السبب الثاني، فهو استثناء قطاع العمل المنزلي من أحكام قانون العمل اللبناني، وإخضاع العاملات الأجنبيات فيه لنظام الكفالة، بشروطه وقوانينه الجائرة. يربط هذا النظام إقامتهن وعملهن في لبنان بصاحب عملٍ واحد، فلا يحقّ لهنّ الاستقالة أو تغيير وظائفهن أو حتّى العودة إلى أوطانهن من دون موافقة هذا الكفيل.

أصدرت وزيرة العمل في 2020 عقد عمل جديد وموحّد لتوظيف عاملات المنازل في لبنان يراعي قوانين العمل الدولية ويحترم حقوق الإنسان، بهدف تفكيك نظام الكفالة وصولاً إلى إلغائه. وبعد شهرٍ على صدوره، أوقف مجلس شورى الدولة العمل بالعقد الجديد، بعد شكوى تقدّمت بها نقابة أصحاب مكاتب استقدام عاملات المنازل

على امتداد العقود السابقة، وضع هذا النظام العديد من العاملات المنزليات في ظروفٍ عمل شبيهة بالعمل القسري، إذ يفرض ويشرعن ممارساتٍ غير إنسانية متعدّدة، مثل إجبار العاملات على السكن في منزل الكفيل، وعدم تحديد ساعات العمل، ومنع العاملة من الخروج من المنزل، وعدم حصولها على إجازات أسبوعية أو سنوية. أتاح ذلك لأصحاب العمل سيطرةً شبه مطلقةٍ على العاملات. وجد هؤلاء أنفسهن في مراتٍ كثيرةٍ بين خيارين، إمّا القبول بشروط العمل المجحفة التي تحرمهن من أيّ نظمٍ أو أدوات تساعدهن على حفظ حقوقهن وتحصيلها في حالات الخلاف أو الاستغلال، وإمّا الهرب من منزل الكفيل والعمل لحسابهن الشخصي، ممّا يجعلهن عرضةً للترحيل في حال القبض عليهن.

ترافق تدنّي الأجور وأوضاع العمل المخالفة للمعايير والقوانين الدولية، مع وصمةٍ عنصرية لا تكتفي باعتبار العمل المنزلي أقل قيمة، بل تربطه وتحصره بجنسياتٍ معيّنة. في النتيجة، أدّت هذه العوامل إلى قيام علاقة مختلة تماماً بين العاملات وأصحاب العمل.

لفت الاختلال الفاضح في ميزان القوى لصالح صاحب العمل، وما يترتب على ذلك من ظلمٍ للعاملات المهاجرات، أنظار العديد من الناشطين المحليين والمنظمات غير الحكومية والمؤسّسات الدولية الذين رفعوا الصوت ضد نظام الكفالة ومساوئه. توّجت هذه المجهودات في أيلول/سبتمبر من العام 2020، حين أصدرت وزيرة العمل وقتها عقد عمل جديد وموحّد لتوظيف عاملات المنازل في لبنان يراعي قوانين العمل الدولي ويحترم حقوق الإنسان. استند العقد الجديد على خطّة عمل ومسودة عقدٍ قدّمت من قبل منظمة العمل الدولية وجهات أخرى إلى الحكومة اللبنانية، بهدف تفكيك نظام الكفالة وصولاً إلى إلغائه.

جاء القرار بعد وقتٍ قصيرٍ على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020، فلم يلفت انتباه اللبنانيين المنشغلين باستيعاب التداعيات المزلزلة لما حدث. بعد شهرٍ واحدٍ على صدوره، أوقف مجلس شورى الدولة العمل بالعقد الجديد، بعد شكوى تقدّمت بها نقابة أصحاب مكاتب استقدام عاملات المنازل.

الكفيل والمكفول في الأزمة

في السابع عشر من تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، اندلعت التظاهرات في شوارع بيروت، وكانت شرارتها الاقتراحٍ الحكومي بفرض ضريبةٍ على استخدام تطبيق واتساب. تزامن ذلك مع ركود اقتصادي وبوادر شحٍّ في العملات الصعبة. خلال وقتٍ قصير، ظهرت الأزمة إلى العلن، بعد أن فرضت المصارف قيوداً غير رسميةٍ على حركة الأموال ووضعت سقوفاً على السحوبات النقدية، كما منعت عملائها من الوصول إلى أموالهم المودعة بالدولار الأميركي. بحلول آذار/مارس 2020، كانت الليرة اللبنانية قد خسرت 40 في المئة من قيمتها في السوق غير الرسميّة، ممّا أدّى إلى ارتفاعٍ سريعٍ في أسعار السلع والمواد الغذائية.

مقالات ذات صلة

تركت هذه التغيّرات المتسارعة أثرها على العلاقة بين الكفلاء اللبنانيين وعاملات المنازل المهاجرات. كانت جنان واحدةً من آلاف أرباب العمل الذين خسروا قدرتهم على دفع رواتب العاملات في بيوتهم. تعمل جنان وزوجها كأساتذة لصفوف الثانوي، كان وقتهما مقسوماً بين دوام المدرسة صباحاً ودوام المعهد الخاص بعد الظهر. جعل ذلك وجود عاملة تدبّر شؤون المنزل وترعى الأولاد ضرورياً بالنسبة لهما. تقول: "عملت لدينا أكثر من عاملة منزلية في السنوات العشر الماضية. عندما بدأت الأزمة اعتقدنا كالغالبية أنّها مجرّد أمرٍ عابرٍ، لكنّ قيمة رواتبنا استمرت في التآكل. بعد أشهرٍ قصيرة، طالبتني العاملة النيجيرية راشيل بأن تحصل على راتبها بالدولار الأميركي. لم يكن ذلك ممكناً بالنسبة لنا، خاصة أنّ كلّ مدخولنا بالليرة اللبنانية. كنت صريحةً معها وأخبرتها بأنّ راتبها بالدولار صار يساوي نصف قيمة معاشي. خضنا مفاوضاتٍ طويلةٍ وصعبةٍ حتّى أقنعتها بالبقاء مقابل زيادة أجرتها بالليرة اللبنانية".

لم يدم الاتفاق الجديد سوى شهرٍ واحد، تدهوّر خلاله الوضع أكثر من السابق، لتعود راشيل وتطالب بتحصيل أجرها بالدولار. تقول جنان: "أبلغني زوجي أنّه من الأفضل تسريح العاملة من وظيفتها. كنّا مستعدين لتحمل كلفة سفرها إلى نيجيريا، لكنّها أرادت الحصول على وظيفةٍ أخرى في منزلٍ آخر. اتّصلنا بصاحب مكتب الاستقدام وأبلغناه بذلك. لم يمرّ سوى أسبوعٍ واحد حتّى انتقلت راشيل إلى بيتٍ جديدٍ يدفع لها أصحابه أجرها بالدولار".

تقبلت جنان المعطيات الجديدة وأنهت عقد عمل راشيل بطريقةٍ ضمنت للأخيرة حقوقها. إلّا أنّ الأمور لم تجري بالسلاسة نفسها في كثيرٍ من الحالات الأخرى، كما في حالة العاملة الأثيوبية مريم.

"خسر كفيلي اللبناني وظيفته خلال الأزمة وتوقف عن دفع راتبي. أردت البحث عن عملٍ آخر، خصوصاً أن عائلتي في أثيوبيا تعتمد على المال الذي أرسله من هنا، لكنّ صاحب العمل وزوجته رفضا السماح لي بذلك، وطلبا منّي أن أصبر قليلاً بينما يجد وظيفة جديدة. بقي الرجل عاطلاً عن العمل، وتراكمت الأجور التي لم أحصّلها. زادت المشاحنات بيننا، لكنّه لم يسمح لي بالرحيل. لم يكن بمقدوري فعل شيء سوى التواصل مع صاحب مكتب الاستقدام، الذي لم يفعل شيئاً سوى التعهد لي بأنّني سأحصل على رواتبي كاملة ولو متأخرة".

"لم تتقبّل شقيقتي الكبرى فكرة أن تحصل عاملة أجنبية في المنزل ("خادمة"!) على راتبٍ موازٍ لما صارت عليه قيمة راتبها، هي المواطنة اللبنانية والموظّفة منذ عشرين عاماً في إحدى الإدارات العامة".  

من أواخر العام 2019 عملت مريم من دون الحصول على مستحقاتها، وامتدّ ذلك إلى منتصف العام 2020، حين اتّخذت الأمور منحىً أكثر سوءاً. تقول مريم: "أيقظتني المدام فجر أحد الأيام وطلبت منّي أن أتجهز للخروج. على الطريق أخبرتني أنّها غير قادرة على دفع راتبي وأنّها لا تملك ثمن تذكرة الطائرة إلى أثيوبيا. بعد دقائق رموني أمام مبنى السفارة في الحازمية، تركوني هناك من دون أن يسمحوا لي بجمع أغراضي وثيابي، ومن دون أن أحصل على دولارٍ واحدٍ من رواتب الأشهر الثمانية الماضية".

لم تطلّ وحدة مريم كثيراً، بعد ربع ساعة وصلت سيارة ثانية وخرجت منها عاملة انضمت إليها. بعد ساعةٍ صار عددهن خمس عاملات. ومع حلول الظهيرة، صار عددهن بالعشرات.

عاملة أثيوبية تنتظر أمام مقر القنصلية الأثيوبية في الحازمية بعد أن تخلّى عنها كفيلهاAP Hassan Ammar 2020

طوال شهريّ أيّار/مايو وحزيران/يونيو من العام 2020، تكرّر مشهد العاملات المتجمّعات على الأرصفة في عدّة شوارع تتواجد فيها سفارات دولٍ إفريقية وآسيوية. مرّ جزءٌ لا يستهان به من هؤلاء بما مرّت به مريم من استغلال وحجز للحرية والإجبار على العمل من دون راتب.

"أيقظتني المدام وطلبت منّي أن أتجهز للخروج. على الطريق أخبرتني أنّها غير قادرة على دفع راتبي وأنّها لا تملك ثمن تذكرة الطائرة إلى أثيوبيا. بعد دقائق رموني أمام مبنى السفارة، من دون أن يسمحوا لي بجمع أغراضي وثيابي، ومن دون أن أحصل على دولارٍ واحدٍ من رواتب الأشهر الثمانية الماضية"... وبعد ساعات، صرن مئات على الأرصفة أمام سفارات بلدانهن.

كشفت فظاعة المشهد كيف أدّت السلطة الواسعة التي منحها نظام الكفالة لصاحب العمل على العاملة إلى تطوّرٍ سلوكياتٍ وممارساتٍ عنصريّة وغير إنسانية. وهي بلغت خلال الأزمة الاقتصادية حدّاً تجرأ معه جزءٌ من أصحاب العمل على حرمان العاملات من أبسط حقوقهن، بما فيها الحقوق التي أقّرها قانون الكفالة.

تغيّرات طفيفة

مع نهاية العام 2020، غادر 92 ألف عاملٍ مهاجرٍ لبنان، لينخفض عدد المقيمين بشكل شرعي منهم إلى 155 ألف بالمقارنة مع 247 ألف في نهاية العام 2019. كان ذلك نتيجةً طبيعيةً لديمومة الأزمة، وهو ما يظهر بشكلٍ أوضح عند النظر إلى الفرق الهائل في عدد المستقدمين الجدد، والذي انخفض عددهم من 44 ألف في العام 2019 إلى أقل من 11500 في العام 2020.

عبّرت هذه الأرقام عن النقص في عدد اللبنانيين القادرين على دفع معاشات العاملات المنزليات، وإلى انحسار القادرين على دفع كلفة استقدام عاملة منزلية مهاجرة في فئة محدّدة، تضم إلى جانب الأثرياء، الأشخاص الذين يحصّلون دخلهم بالدولار الأميركي.

ينقسم معظم هؤلاء بين من يعمل في مؤسّسات أجنبية أو منظّماتٍ غير حكومية، وبين من يتلقى تحويلاتٍ ماليةٍ من عائلته أو أولاده المقيمين خارج لبنان.

محمد هو من القلة التي عمدت إلى استقدام عاملةٍ مهاجرة في العامين الماضيين. يعمل الشاب مهندساً في شركة كومبيوتر يتواجد معظم زبائنها خارج لبنان. حمى ذلك الشركة من تبعات الأزمة الاقتصادية، وسمح لها بالاستمرار بدفع أجور موظّفيها بالدولار الأميركي. يقول محمد: "لم يشكل القبض بالدولار فرقاً قبل الأزمة. كان راتبي يغطّي تكاليف معيشتي ويتيح لي أن أدخر مبلغاً صغيراً منه كلّ شهر. أما بعد الأزمة وانهيار قيمة الليرة، فقد صار بمقدوري ادّخار نصف معاشي. لولا ذلك لما فكّرت مجرد تفكير باستقدام عاملةٍ منزلية إثر تعرّض والدتي إلى حادث أقعدها أشهراً في السرير".

كشفت فظاعة المشهد كيف أدّت السلطة الواسعة التي منحها نظام الكفالة لصاحب العمل على العاملة إلى تطوّرٍ سلوكياتٍ وممارساتٍ عنصريّة وغير إنسانية. وهي بلغت خلال الأزمة الاقتصادية حدّاً تجرأ معه جزءٌ من أصحاب العمل على حرمان العاملات من أبسط حقوقهن، بما فيها الحقوق التي أقّرها قانون الكفالة نفسه. 

رأى محمد أنّ توظيف عاملة تساعد والديه المسنين أمرٌ ضروري، خصوصاً أنّه وحده من يقيم معهما، لكن ذلك لم يكن رأي جميع أفراد الأسرة. يقول: "تخوّف بعض إخوتي من عبءٍ مادي آخر يضاف إلى أعبائهم التي تتزايد مع تقلّص قيمة رواتبهم. أبلغتهم بأنّني سأتكفل بمصاريف استقدام العاملة ودفع أجرتها الشهرية، لكنّهم بقوا متشكّكين حيال الأمر. لم تتقبّل شقيقتي الكبرى فكرة أن تحصل عاملة أجنبية في المنزل ("خادمة"!) على راتبٍ موازٍ لما صارت عليه قيمة راتبها، هي المواطنة اللبنانية والموظّفة منذ عشرين عاماً في إحدى الإدارات العامة".

في النهاية سار محمد بفكرته، واليوم مضت أشهر على وصول العاملة المنزلية من كينيا إلى منزلهم في بيروت.

 يدفع لها محمد أجرة توازي خُمس مرتّبه الشهري، وهو مبلغٌ ضخمٌ بنظر أفراد العائلة، لكنّه يرى الأمور بمنظار مختلف: "يتقدّم والداي في السن، وهما لم يعودا قادرين بعد إصابة أمي على تدبّر أمورهما كما في السابق. صارا بحاجةٍ لمن يتواجد معهما طوال اليوم، وهو الأمر الذي أعجز عن تحقيقه، بسبب ساعات عملي الطويلة. اختصر وجود العاملة الكثير من المشاكل وجعلني مطمئناً على وضع أهلي". يضيف: "الأمر واضحٌ بالنسبة لي: طالما أنّني محتاج لخدماتها سأدفع لها الراتب الذي تطلبه".

مع نهاية العام 2020، غادر 92 ألف عاملٍ مهاجرٍ لبنان، لينخفض عدد المقيمين بشكل شرعي منهم إلى 155 ألفاً بالمقارنة مع 247 ألف في نهاية العام 2019. وما زال الرقم ينخفض الى الآن.

في الفترة نفسها، وصلت العاملة الغانية سيليستين إلى لبنان للعمل في منزل يسكنه زوجان مسنّان، ويتكفّل أولادهما في المغترب بدفع أجرتها الشهرية. سارت أمورها على خير ما يرام إلى أن تلقّت اتصالاً من أحد الأبناء: "قال لي أنّ أجري صار موازياً لأجرة أساتذة الجامعات، وأنّه قرّر بناءً على ذلك أن يخفض راتبي بدءاً من الشهر المقبل. لم أفهم ما علاقتي بالأجور في لبنان، طالما أنّني أحوّل ما أجنيه هنا إلى عائلتي في غانا. لم أكن مستعدةً للتنازل عن سنت واحدٍ من راتبي. اتّصلت بصاحب مكتب الاستقدام وأخبرته بما يجري، فأبلغني أنّ هناك عائلاتٍ أخرى كثيرة ستدفع لي الراتب الذي أريده في حال أصرّ الابن على قراره. عندها بادرتُ إلى الاتصال بالابن وأبلغته أنّني سأترك البيت في حال إصراره على قراره. عندها فقط تبدّلت لهجة الابن، وصار القرار مجرّد اقتراحٍ غير جدّي".

ربّما ما كانت مساعي سيليستين في الحفاظ على حقوقها من تعسّف صاحب العمل لتنجح لولا النقص الكبير الذي خلفته الأزمة الاقتصادية في قطاع العمالة المنزلية. إذ لم يعد صاحب العمل قادراً أن يجد بسهولةٍ بديلةً عنها في القطاع المحلي. توضّح حالة سيليستين كيف منحت الأزمة الاقتصادية، بعضاً من العاملات هامشاً للحركة عند وقوع خلافٍ مع أصحاب العمل. لكنّ، يظلّ هذا التغيّر في موازين العلاقة القائمة طفيفاً، قياساً بمقدار انعدام التكافؤ الذي يحكمها.

خاتمة

خلال سنوات الحرب الأهلية، بدأ استقدام العمالة المهاجرة إلى لبنان، وازداد الاعتماد عليها مع مرور الوقت، خصوصاً عاملات المنازل اللواتي شكّلن النسبة الأكبر من هؤلاء العمّال في لبنان. على مرّ السنين، حكم نظام الكفالة شكل العلاقة بين صاحب العمل اللبناني والعاملة المهاجرة، معطياً الطرف الأوّل سلطةً واسعةً على الطرف الآخر الذي تُرك من دون ضوابط تضمن حقوقه. جعل ذلك الكثير من العاملات عرضةً للاستغلال أو في ظروف عملٍ شبه جبريّة.

مع بدء الأزمة الاقتصادية في أواخر العام 2019، كانت العاملات المهاجرات من أكثر الفئات تضرّراً. وقع ذلك كنتيجةٍ للقوانين والأعراف والممارسات التي تطوّرت في ظلّ نظام الكفالة، وأتاحت الفرصة أمام الكفلاء اللبنانيين التنصل من مسؤولياتهم تجاه العاملات لديهم. خسرت عشرات الآلاف من العاملات وظائفهن، وتُرك المئات منهن أمام سفارات بلدانهن. خلال العام 2020 غادر لبنان أكثر من 92 ألف عاملٍ أجنبي، وهو رقم يواصل ارتفاعه بفعل التغيّرات المتسارعة والمتواصلة التي يفرضها الانهيار على قطاعات العمل المختلفة.

ككلّ شيءٍ في لبنان، يصعب اليوم التنبؤ بمستقبل عاملات المنازل المهاجرات، لكنّ المؤكّد أنّ إنهاء نظام الكفالة هو المدخل لقيام علاقةٍ أكثر عدالة بينهن وبين أصحاب العمل.  

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه