بعد الإعلان عن حكومة الحبيب الصيد في الثاني من شباط الماضي، المنفتحة على إسلاميي "حركة النهضة"، وجهت سناء فتح الله غنيمة، وهي عضو في حزب "نداء تونس" وسيدة أعمال ورئيسة جمعية "المرأة والريادة" الليبرالية، رسالة إلى الباجي قايد السبسي، نشرها موقع "بزنس نيوز" الإلكتروني ذو التوجه الليبرالي أيضاً. في الرسالة، سجلت غنيمة اعتراضها على التحالف بين الصيد والإسلاميين، راوية قصة "الخيانة" و"خيبة الأمل العميقة".
في معرض رسالتها، استحضرت سناء غنيمة وصاية عدد من النساء الشهيرات في تاريخ تونس: الملكة ديدون بانية قرطاج، كاهنة وهي الملكة والمحاربة البربرية، أروى القيروانية زوجة الخليفة أبي جعفر المنصور التي رفضت تعدد الزوجات وقيّدت الخليفة بذلك في ما سُمي بـ"صَداق القيروان". (اشترطت "ألا يتزوج غيرها وألا يتخذ ملكَات اليمين معها" وإلا فإن طلاقها بيدها على عادة أهل القيروان بما يعرف حتى اليوم بالصَداق القيرواني). وذيّلت غنيمة رسالتها بتوقيع "المرأة التونسية".
"المرأة التونسية"
وبغض النظر عن موقف هذا المرأة التي تمثل البورجوازية الليبرالية شديدة العداء للإسلاميين، فما أثار فضولي هو التوقيع الذي حملته رسالتها. وغالباً ما يتكرّر في الصحف التونسية استخدام عبارة "المرأة التونسية" بصيغة المفرد للدلالة على شيء سأحاول هنا سبر غوره.
بداية، "المرأة التونسية" هي صيغة توكيد. وفي رسالة سناء فتح الله غنيمة تتجسد صورة "المرأة التونسية" في كونها بطلة، مناضلة، ومعادية لـ "النهضة". ولكنها أيضاً، لو تتبعنا امثلة النساء الواردة أسماؤهن في رسالتها، وشجرة نسبهن، فهي أرستقراطية وذات النفوذ. وهو بالطبع استخدام لعبارة ما زالت تعبر حتى اليوم عن مشاعر التفاخر الطبقي. وباختصار، تنتمي "المرأة التونسية" الى البورجوازية، وهي هنا مفردة، وتطابق فكرة معينة عن المرأة المثقفة، المتحررة، وصاحبة النفوذ. وهي اليوم وبداهة، صورة متلازمة مع قانون الأحوال الشخصية. فعدا الشخوص المجيدة المستدعاة من الحقبة القديمة ومن التاريخ الحديث، فمرسوم الباي في 13 آب 1956 صورة متوافق عليها للمرأة التونسية. ثم كرّس بورقيبة ذاك التاريخ كـ "يوم المرأة التونسية". وبورقيبة هو مهندس القانون الذي، إذا ما تمت معاينته عن كثب، نرى فيه تطبيقاً حقيقياً لأفكار إصلاحيي القرن التاسع العشر الكبار حول المسألة النسوية. ولكن هذا الإنجاز الذي ما زال يمثل حتى اليوم دعامة أساسية لحقوق المرأة في تونس، لا يمكن ربطه باسم امرأة محددة، أو بنموذج بطولي متفرّد.
الرمز
المرأة التونسية، الحداثية والمتحررة، هي صنيعة رجالٍ، بعض الرجال التونسيين الأبطال هم الآخرون، صنو النساء البطلات: الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي ألف كتاب "الروح الحرة للقرآن" عام 1905 وفيه يوصي بتعليم المرأة وتحريرها، وطاهر حداد الذي كتب عام 1930 كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" ما غُيّب من الذاكرة منوبية ورطاني وحبيبة منشاري اللتين خلعتا الحجاب علناً في مؤتمر عن النسوية في العام 1930. هذان الإصلاحيان اللذان ناديا منذ القرن التاسع عشر بتعليم "المرأة" وتحريرها، لم يتصوراها متعددة الوجود، بل هي الرمز، أو ما يحمل الرمز. وهي في ذلك تلتحق برمز "المرأة ـ الحرية" التي تقود الشعب في لوحة الرسام الفرنسي دولاكروا، أو بـ "ماريان" الرمز الجمهوري الفرنسي، وبرموز أخرى مشابهة. هي تجسد الأمة، والوحدة، واتحاد الأجيال. وتلك هي أصلا الأسباب التي توجب تعليمها، حيث سيتعين عليها تربية أبناء الأمة. كل هذه الوجوه الإصلاحية لـ "تحرير المرأة" هي من الكلاسيكيات، عبّر عنها رفاعة الطهطاوي أو قاسم أمين. يتعين على الرجال إذن، كما يؤكد عنوان كتاب طاهر حداد ("امرأتنا")، الاهتمام بـ "بنسائهم".
في هذا السياق، وعلى ضوء تطور وضعية المرأة، قد يمكن الكلام عن حقوق النساء التونسيات ـ اللواتي يفترض أن يكن سعيدات وممتنات لمنحهن حقوقاً، وليس الادِّعاء بأنهن انتزعن هذه الحقوق ـ فيجري استخدام صيغة المفرد عند الحديث عن معركة أو رمز، وتختصر "المرأة التونسية" في تلك المرأة ـ الشرطية التي التُقطت لها مئات الصور في جادة بورقيبة تعبيراً عن حداثة البلاد، وهي تلك التي جعلها بورقيبة تخلع الحجاب علناً تأكيداً لتحريرها. المرأة التونسية بالمفرد تصلح كرمز.
جسد عار، جسد محجوب
ينادي اليوم بهذه الفردية كمرجعية مفترضة وكمنجز مكتسب يتمسك به الجميع، كل واحد وكل واحدة. لكنها فردية قابلة للطعن، يفعل فيها تعدد الطرق اللامتناهي لأن تكون المرأة امرأة، كما تفعل بها النضالات والمعارك المتنوعة من أجل الحقوق والمطالب النسوية. فقد أثبتت النسويات الإسلاميات كما جماعة "فيمن"، وبطريقة مختلفة ومتضادة جذرياً، أن الزمن الحالي لم يعد للتوحد ببساطة حول مفرد رمزي يرث النموذج الباهت لـ "النهضة النسائية". هؤلاء النساء خَلقن أسئلة جديدة، وأوجدن انحدارات وأنساباً أخرى، بالرجوع الى النساء العربيات اللواتي أفصحن عن عالم النساء والأسئلة التي تشغلهن، وليس اقلها موضوع الجسد والملكية التي تُمارَس عليه من قبل مجتمع يبقى بشكل أساسي، وعلى الرغم من كل الحقوق المكتسَبة، أبوياً/ بطريركياً. جسد عار وجسد محجوب.. المهم هو امتلاك النساء لسلطة القرار على مصائر أجسادهن، والتأكيد على الفرادة التي تناقض تماماً مفهوم المفرد كمفهوم مطلق أو شامل.
هذا ما أرادت قوله أمينة، الناشطة التونسية في "فيمن"، عندما كتبت على صدرها العاري عبارة "جسدي ملك لي، وليس شرفُ أحد". الذهاب إلى ما هو أبعد من النضالات من أجل "المرأة" يعني الانخراط في تنوع الأوضاع في ظل شرط مشترك. وهذا تأكيد على جذرية الفعل، حتى لو كان فردياً، وإنما مع إعلانه في إطار التضامن الجماعي. فالنساء التونسيات محكومات بمجتمع يَعتبر رجاله (وليس فحسب "الرجل" بالمعنى الرمزي) أجسادهن ساحة قتال من أجل شرفهم. وهذا ما كانت تقوله نظيرة زين الدين في العام 1928، وإن في سياق مختلف تماماً، عن حرية المرأة في الخروج من دون حجاب. أو هو ما عنته نضالات العاملات النسويات في "المحلة الكبرى" في مصر من أجل حقوقهن.
تاريخ ما زال لم يكتب
لا تختلف النضالات النسوية في تونس عما هي عليه في باقي أنحاء العالم. أينما كان، يفرض نفسه النضال من أجل التعدد الذي يعيد النصاب لفراداتهن في معارك خيضت وتخاض، مما يسهم في إسقاط تلك الرؤية للمرأة ـ الرمز، أياً كانت الحقوق والمميزات. فعلى الرغم من أن كلارا زيتكين كانت صاحبة اقتراح إعلان يوم للمرأة في المؤتمر الاشتراكي الدولي الأول للمرأة في العام 1910، إلا أن لينين هو الذي كرّس هذا اليوم بمرسوم أراده تكريماً للعاملات الشغالات في كرونشتادت ولمقاومتهن القصف في العام 1921. وفي كلتا الحالتين، فإن الثامن من آذار هو مناسبة للنهوض بالحقوق، لا لتقديم الأزهار أو لاقتراح إنجاز جلي الصحون بدلاً "منها" في ذلك اليوم... هذا التاريخ، في تونس كما خارجها، ما زال بحاجة لأن يُكتب من خلال تعدّد أصوات النساء.
مواضيع
المرأة المفردة
بعد الإعلان عن حكومة الحبيب الصيد في الثاني من شباط الماضي، المنفتحة على إسلاميي "حركة النهضة"، وجهت سناء فتح الله غنيمة، وهي عضو في حزب "نداء تونس" وسيدة أعمال ورئيسة جمعية "المرأة والريادة" الليبرالية، رسالة إلى الباجي قايد السبسي، نشرها موقع "بزنس نيوز" الإلكتروني ذو التوجه الليبرالي أيضاً. في الرسالة، سجلت غنيمة اعتراضها على التحالف بين الصيد
2015-03-05
ليلى دخلي
باحثة مختصة في التأريخ الاجتماعي، من تونس تعمل في "المركز الوطني للبحوث العلمية"، فرنسا، CNRS
شارك
| fr en
للكاتب نفسه
تونس: هل علينا أن "نتصالح" أيّا كان الثمن؟
ليلى دخلي 2015-10-29
تعيش تونِس ما بعد الثورة مرحلة سياسية متابعتُها من الأهمية بمكان، مرحلة تدور فيها رحى صراعٍ مستترٍ على تحديد آليات المصالحة والمعنى الحقّ للثورة الجارية. مشروع قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي...
الباجي قايد السبسي: النظام والأمن والليبرالية الاقتصادية
ليلى دخلي 2014-12-17
يبدو الباجي قايد السبسي اليوم في مركز اللعبة السياسية في تونس الجديدة. مخاضٌ غريب ذاك الذي يتمّ عكس منطق الأجيال البيولوجية، فيجعل شبابا ثائرا ساخطا ماضي العزيمة يوصل إلى سدّة...
التأريخ الاجتماعي: أحد متطلبات الساعة
ليلى دخلي 2014-09-10
تُرى ما الذي تُعلِّمنا إيّاه آخر الأحداث في المنطقة حول كتابة التاريخ؟ ليس هذا السؤال بالضرورة أكثر الأسئلة إلحاحا، إلا أنّ طرحَه يبدو واجبا لبناء أسلحة معرفية لا تخدم سياسات...