اليمن بلد منكوب بنخبه السياسية وجيرانه الأقوياء. بلد فقير وخفيف الوزن في سوق الرأسمال البشري، بلد لا ذنب له سوى أنه "الحلقة الأضعف" في منطق صراعات الدول العظمى ليصبح، في مفارقة سوداء، ضحية مزدوجة لحربين ظالمتين تخاضان ضده بلا هوادة، حرب داخلية تقودها جماعة الحوثي وقوات "علي عبد الله صالح" على كل اليمنيين الرافضين لسلطة الغلبة، وحرب خارجية بغطاء عربي تطيح الإنسان والمقومات المتواضعة للمجتمع والدولة اليمنية. وما بين مطرقة التدخل الخارجي وسندان العدوان المحلي اليومي، يعيش اليمني على وقع حرب طاحنة، تستدعي حروباً فائضة في ذاكرته الجمعية: حرب بين أبنائه وحرب من جيرانه، حرب مروعة يتابعها المتفرجون على شاشات التلفاز بكثير من التشويق والإثارة على الأغلب، يجيرها كل طرف لمصلحته رغم أنها في الأول والأخير حرب ضد اليمنيين، ضد السلم الأهلي اليمني الهش، وضد ما تبقى من السيادة الوطنية اليمنية المقوضة.
حقائق الجغرافيا
تضافرت بديهيات المعادلة السياسية المحلية والخارجية التي انضجت الحرب، حتى شكلت اليمن لدى كثير من المحللين حالة نموذجية لسياق التدخلات في حسم النزاعات الداخلية. غير أن المسكوت عنه هنا، ليس انفجار الوضع الداخلي في اليمن وضرورة حل الأزمة وكيْ الجرح كما يقال، بل حماية الأمن القومي للمملكة العربية السعودية. إذ لا تكمن مشكلة اليمن الأصلية في أزماته الداخلية المتفاقمة التي كرسها نظام "صالح" على مدى عقود طويلة، ولا في الاختلال الذي نجم عن المرحلة الانتقالية بعد ثورة 2011 وصولاً إلى سيطرة ميليشيات الحوثي على السلطة بالقوة، بل في حقائق الجغرافيا التي تتداخل في صياغة مصيره.
تتشارك اليمن بأطول شريط حدودي مع السعودية، أكبر الدول المصدرة للنفط، والممثل الرسمي للمذهب السُني "الوهابي" المعادي للمذهب الشيعي الذي تمثله ايران. تحارب السعودية التمدد الشيعي في بلادها والمنطقة، وتحديداً على حدودها مع اليمن الذي لطالما كانت السعودية صاحبة القرار في كثير من شؤونه.
ولأن اليمن أصبحت منزوعة القرار السيادي بفعل سيطرة ميليشيات الحوثي على السلطة وانقلابهم على شرعية الرئيس "عبد ربه منصور هادي"، ولكون "هادي" رئيسا ضعيفا فشل كلية في إدارة المرحلة الانتقالية في اليمن، وجدت السعودية الفرصة ملائمة "للحزم". غير أن التعقيد الذي تشهده الأوضاع السياسية في المنطقة، وتداخل مصالح الأطراف الدولية فيها، دفعا بالسعودية إلى تغيير إستراتيجيتها التي اعتمدتها طويلاً في إدارة الملف اليمني. وبدلاً من شراء ولاءات السلطة والنخب السياسية اليمنية واستخدامها لصياغة قرارات سياسية لا تتعارض مع مصالحها، وعلى قاعدة أن الأوضاع غير التقليدية تحتاج لحلول غير تقليدية، لجأت السعودية هذه المرة إلى استثمار حالة الفوضى التي فاقمها الحوثيون، فتدخلت بقوة عسكرية ضاربة، وبتمويل ضخم، وغطاء عربي وتنسيق دولي واسع.
مسوغات "عاصفة الحزم" التي يسوقها التحالف السعودي تبدو براقة. فالهدف المعلن هو إنقاذ اليمن وحماية شرعية الرئيس "هادي" من المسلحين الحوثيين وقوات "صالح" بعد انقلابهم على الشرعية. لكن، بعد أسبوعين من الغارات المتكررة والكثيفة لطيران التحالف، تؤكد النتائج أن التحرك العسكري لم يضعف حتى الآن القوة العسكرية للمسلحين الحوثيين وقوات "صالح" على الأرض، وما نجح فيه حتى الآن هو ضرب مقومات الدولة اليمنية: دمرت أربعة مطارات رئيسية يمنية في أربع محافظات، قصفت موانئ، قطعت الرحلات السياحية، دمرت طائرات سلاح الجو اليمني، فجرت مخازن السلاح التابع للدولة، دمرت قواعد صواريخ مضادات الطيران، دمرت عشرات المعسكرات حتى الآن، دمر مصنعان للاسمنت والألبان، وسقط مئات القتلى والجرحى من المدنيين اليمنيين ومن العسكريين.. تدهور أمني اقتصادي على كل الأصعدة، في حين أصبحت الساحة الجنوبية أرض محروقة من قبل ميليشيات الحوثي وقوات "صالح".ما حققته غارات التحالف الجوية في الحقيقة ليس سوى تدمير مقومات الدولة اليمنية التي من المفترض أن تكون قوية لحماية السلطة الشرعية أي سلطة الرئيس "هادي". وهكذا فإن ما يقوم به التحالف يتعارض مع هدفه المعلن، مما يقودنا إلى سؤال بديهي: ما هو هدف "عاصفة الحزم"؟
هدف السعودية وهدف الحوثيين
بعيداً عن سوء النية الذي طالما وسم الذاكرة الجمعية لليمنيين بخصوص أهداف المملكة السعودية وتطلعاتها في اليمن، ومن واقع النتائج التي حققتها "عاصفة الحزم"، يبدو أن الهدف الضمني وغير المعلن يقوم على منطق بسيط للغاية، هو أن الحوثيين - الموالين لإيران - لا يمثلون مصدر قلق للسعودية إلا في حال خضوع مقومات الدولة لسلطتهم، وخاصة العسكرية منها. وعليه فإن السعودية تهدف إلى ضرب القوة العسكرية للدولة تحوطا من سقوطها في يد الحوثيين مما يشكل خطراً كبيراً عليها.
على الصعيد الداخلي، لعب الحوثيون دوراً محورياً في تصعيد الأمور إلى مستوى الاحتراب الأهلي، وأنضجوا كل الشروط الموضوعية للتدخل الخارجي. فبسبب من بنية الجماعة العقائدية والقتالية، فهي قوضت كل الطرق السياسية على اللاعبين اليمنيين والخارجيين في حل الأزمة اليمنية. افضت ممارسات الحوثيين وتحالفهم مع "علي عبد الله صالح" إلى خسارتهم للحاضنة الاجتماعية وإضعاف الجبهة الوطنية اليمنية الداخلية التي كان يمكن أن تجعل من عدوان السعودية على اليمن دافعاً وطنياً لالتفاف المجتمع حولهم.
لذا يقف الحوثيون اليوم عزلاً، لكن بعناد، ويتبعون المنطق الأحادي الذي سبب شرخاً عميقاً للوحدة الوطنية بإصرارهم على بسط السيطرة بالقوة على جنوب اليمن. كشف موقف الحوثيين من الحرب وطريقة معالجتهم لها عن اقتصار مفهوم السيادة لديهم على تحقيق غلبتهم ولو بخوض الحرب وليس تجنبها، وحماية السيادة الوطنية بتجنيبها عدواناً خارجياً. لذا لا يلقى خطاب السيادة الذي يتبناه الحوثيون صدىً لدى اليمنيين. وهكذا تلعب إيران والحوثيون الموالون لها، دوراً رئيسياً في معادلة الحرب على اليمن، تماماً كما تخوض السعودية حربها المقدسة في الأرض اليمنية. ويبقى أهل البلاد وحدهم ترساً في آلة الحرب الاقليمية، حيث الكلفة الإنسانية والمادية كارثية.
يُبدع "مدمرو اليمن" في النهوض بمهمتهم بشكل يستدعي المدح لتفانيهم في قلب الحقائق، لكنه يثير القرف والمرارة من الناحية الأخلاقية والانسانية. فعلى اختلاف المتحاربين في اليمن، فهم يتفقون على ضرورة خوض هذه الحرب حتى نهايتها، حتى لو كانت تعني قتل اليمنيين وإحراق كل ما هو جميل في يمنِ لم يعُد سعيداً.