حينما نريد أن نكتب عن تجليات الثورة اليمنية الأكثر خلوداً ونقاءً في ذاكرة جيل لم تحقق له الهتافات الحماسية لاسقاط نظام لم يسقط أي نتيجة، وإنما بقت قفازاته الناعمة تخنق أحلامهم، فإننا سنبدأ من جدران "مراد" التي عبر بها عن رفضه ومقاومته لكل الصدوع العميقة التي تعيق المجتمع اليمني من تحقيق التحول الاجتماعي والثقافي.
لوّن جدار شارعك
مراد سبيع، الفتى الأسمر النحيل، قاد ثورة من نوع آخر، أكثر عمقاً وحيوية وديمومة. ثورة لم تُلقِ لها بالاً شاشات التلفزة الحريصة على نكهة الدماء والموت، وعلى مزادات الشهداء والجرحى، لأنها ببساطة ثورة فنية من عمق المجتمع. هو أشبه بنبي جاء بين زمنين: زمن الثورة وزمن الخيبة. هبط مراد فجأة من خيال هذا الجيل الجامح المتعب، ليبشر برسالته اللونية. من دون مقدمات نزل "مراد"، لا ليحمل حنجرته ويهتف لثورة سرعان ما ظهر جلادوها الجدد، بل ليحمل رسالته الجديدة. كان رافضاً لفوضى الصراعات والحروب الصغيرة، ولم يستسلم لإحباطنا حين اختبأنا في جحورنا نلملم خيباتنا. حمل ريشته ونزل إلى شوارع صنعاء الفائضة والمكتظة بلون الحرب والرصاص والرعب. بدأ أولاً بحملة أطلق عليها اسم "لون جدار شارعك"، كانت بمثابة وقت مستقطع لالتقاط الأنفاس في فصل ربيعي هادئ بعيداً عن كل المجازر والدماء التي تسيل. كانت نظرات الاستغراب تحيط بهذا الفتى المجنون الذي يريد من المواطنين ان يلونوا جدران شوارعهم بالرسومات والأزهار والصور التجريدية والتعبيرية. وعلى الرغم من كل ما أحاط الحملة من صمت ومضايقات، إلا أن مراد لم يكن يعرف بأنه وضع بصمته الخاصة في جذر وعينا المهزوم، لتصبح الريشة سلاحاً، مدشناً بذلك "فن الشارع" الذي لم تشهده اليمن من قبل.
أصداء حملة مراد سبيع الأولى، "لون جدار شارعك"، زرعت فينا حماسة تضيء القلب، وآمن الكثير بأن جدران الشوارع ليست للحرب، وظهر مشهد الجنود والنساء والأطفال وهم يرسمون على الجدران ويلونون شوارع صنعاء بأحلامهم.
الجدران تتذكر وجوههم
لكن مراد لم يقف مبهوتاً من نجاح حملته الأولى، بل أوغل هذه المرة في ذاكرتنا الجمعية حينما اطلق حملته الثانية "الجدران تتذكر وجوههم"، والتي جعلت قلوبنا تخفق بالمرارة. الحملة نكأت ذاكرة جيل الآباء والسياسيين والمثقفين وفتحت نافذة الزمن الحاضر على ماضي وجوههم: "وجوه المخفيين قسراً"، أولئك الذين أخفاهم النظام في سبعينيات القرن الماضي، وفي محطات أخرى مختلفة ولم يعرف أهاليهم ولا ذووهم عنهم شيئاً حتى هذه اللحظة.
كانت صورهم ترمقنا بفضول ونرمقها نحن المارة بحسرة: اليساريون والناصريون، الشماليون والجنوبيون، ملامحهم التي اعاد لها مراد الحياة، تبصق على القتلة وتذكر الأجيال بأن أي ثورة لا تنسى مفقوديها، وأن عليهم الآن أن يكسروا الصمت الذي نسجه السجّان لسنين طويلة حول قصصهم المروعة.
كان مشهداً مؤثراً كلما أتذكره الآن من نافذة غرفتي، وأشعر برغبة عارمة بالبكاء. هكذا خرجتْ أُسر المخفيين عن صمتها بعد عقود طويلة، ونزلت إلى جوار مراد لتحفر وجوه احبابها الغائبين. كان ذلك التجمع المتحدي للرقباء والسجانين القدماء والجدد، استفزازاً لكتب التاريخ والصحف والقنوات الرسمية وخطب الرفاق والأعداء، التي طمست تاريخ هؤلاء بينما استعاده مراد في شوارع صنعاء وتعز والحُديدة.
12 ساعة
لم ينتظر الفنان صراعات السياسيين وعجز المثقفين لاتخاذ موقف تجاه البلد الذي يبدو الآن متجهاً إلى الهاوية بعد أعوام من الثورة. البلد الذي ما زال يتقاسمه جنرالات الحروب وملوك الطوائف ومروجو الموت والقتل والاختطاف والمتاجرون بالدين. واحتجاجاً على هذه الفداحة التي نعيشها والتي يدفع ثمنها هذا الجيل الحالم الذي اشعل الثورة ونادى للحياة، خرج مراد بحملته الشهيرة الثالثة "12 ساعة". وكالمرات السابقة خرج مراد مع الشباب الذين وجودا في الفن وسيلة للتعبير على الاحتجاج ورفض الصراعات التي تسري في عروق المجتمع اليمني كنار هادئة.
حملة "12 ساعة" كانت مختلفة عن سابقاتها. كانت ذروة تألقه، إذ كانت فكرية أكثر مما هي لونية، أو ابتهاج لوني، بل حددت ظواهر المجتمع السلبية التي يرفضها اليمني. كانت الجداريات رفضاً للجوع والاختطاف والارهاب والكراهية الطائفية وتقسيم اليمن.
كتب عنه كارلي ويست (وهو باحث سياسي أميركي في جامعة "سانت جورج" الأميركية): يبدو كفنان بوهيمي يعمل بصمت ولا يحب الصخب، تراه غارقاً في قوقعته الداخلية يرسم عالماً مسالماً يليق بالانسان. افكر بمراد وبريشته وهو يمزق بمحبة وود كل جدراننا المظلمة بما ترمز إليه من خوف وظلم وسجن وكراهية وقيد ونقص خيال... ويحيلها إلى جدران أخرى يمكن ان نتصالح معها. أفكر به وبجيله ينتصر رغماً عن كل إحباطات الحياة اليومية في بلد كاليمن، وأشرب قهوتي المخفوقة بالحليب الأبيض: أبيض تماماً كحلم مراد، اليمني الفصيح.