يبدو أن من وضع ما سمي بـ"المبادرة المصرية" للتهدئة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، كان يعلم أن مصيرها الرفض من المقاومة الفلسطينية ومن غالبية الشعب الفلسطيني. لكنه كان يعلم بالمقابل أنها تقدم لجيش الاحتلال الأداة التي يمكنه بواسطتها أن يطوق عنق المقاومة والشعب في فلسطين المحتلة، بالالتفاف على المطالب وبتجاهل الأسباب الكامنة وراء هذه المواجهة.
المبادرة المصرية
شكلت "المبادرة المصرية" فرصة لجيش الاحتلال وقيادته لإلقاء اللوم في عدوانها على المقاومة الفلسطينية، وتقديم نفسها للعالم كضحية. كما أنها حسب طريقة إعلانها في الإعلام هدفت لمنع تحقيق نصر سياسي للمقاومة الفلسطينية التي شكل فعلها وخطابها صموداً لا يمكن إنكاره. وهي كرست النظرة إلى المقاومة الفلسطينية كطرف غير شرعي في مقابل طرف "شرعي" آخر هو سلطة أوسلو ورئيسها محمود عباس الذي رحب بالمبادرة فور إعلانها. تبعه في الترحيب والقبول بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي أعلن موافقته عليها تحت شرط الاحتفاظ بحق الرد.
طرف آخر سارع لإعلان ترحيبه بـ"المبادرة المصرية" فور الإعلان عنها. كان هذا الطرف هو مبعوث "اللجنة الرباعية للسلام"، طوني بلير، الذي تدور أنباء عن عمله كمستشار للحكومة المصرية الحالية، وأنباء أخرى عن سعيه بين الأطراف المختلفة للوصول إلى رؤية تضمن عودة "التهدئة". بلير عمل "بجهد" في السنوات الأخيرة لدعم أطروحته الخاصة بـ"السلام الاقتصادي"، ودعم خطة وزير الخارجية الأميركية جون كيري، "المبادرة من أجل الاقتصاد الفلسطيني". وهي المبادرة التي وعد كيري بموجبها باستقدام استثمارات للأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية تزيد قيمتها عن 4 مليارات دولار على مدار ثلاث سنوات... وتوقعت لها سلطة أوسلو النجاح، باعتبارها خطة "طموحة"، وأن المبلغ الموعود سيتضاعف ويتجاوز 8 مليارات دولار. المواجهة الدائرة حالياً، أعادت طوني بلير وجون كيري إلى ساحة العمل في فلسطين المحتلة، بعد شهور من انقطاع الأخير بعد إعلان فشل جهوده في ملف المفاوضات بين سلطة أوسلو وسلطة الاحتلال الإسرائيلي. تزامناً مع هذا، بل وسابقاً عليه، حذرت عدة مراكز أبحاث غربية "بلغتها العملياتية" من تجدد المواجهة في غزة. وقدمت تفسيرات لهذا التحذير أبرزها أن استمرار الحصار الاقتصادي ضد غزة والإضرار بالحياة اليومية للفلسطينيين سيدفع الحالة للانفجار، وشددت على ضرورة تغيير الظروف الصعبة للناس من جهة، وعلى "فك عزلة حماس السياسية" من جهة أخرى، التي عانت منها في السنة الأخيرة، بخسارتها لحلفائها في مصر وسوريا ولبنان وإيران.
اقتراحات مراكز البحث الغربية، ومنها على سبيل المثال "مجموعة الأزمات الدولية،ICG " تتلخص بالعودة إلى ما يسمى بـ"تفاهمات 2012" مع فتح معبر رفح بشكل "منتظم وقابل للتنبؤ"، وبكلمات أخرى (غير مخادعة)، استمرار إغلاقه المشروط. الأمر الهام في توصياتها كان "وقف إطلاق النار الأكثر حيوية لكل طرف" وأن "على إسرائيل وحماس ضمان استمرار الجھود". هذه التوصيات الأخيرة تقول بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يمكن وقف المواجهة بشكل نهائي، لكن يمكن إدارتها، السيطرة عليها، "تقليل كثافة النار" لحدودها الدنيا. هذا أيضاً تدركه المقاومة ويدركه جيش الاحتلال و"الوسطاء" الدوليون.البيان الترحيبي لطوني بلير بـ"المبادرة المصرية" ختمه بالقول: "آمل أن يسمح لنا وقف إطلاق النار هذا بوضع إستراتيجية طويلة المدى للمستقبل في قطاع غزة والضفة الغربية. وسيقدم المجتمع الدولي دعمه الكامل لهذه المبادرة". هذا يوحي بأن ما يفكر به بلير يرتكز على التعامل مع غزة والضفة كرزمة واحدة، وإدماج غزة في خطة جون كيري الاقتصادية مقابل الحصول على "تنازلات" من المقاومة فيها. أي أن الأمر هو استمرار الرهان على مشروع سلطة أوسلو من جهة، وعلى "السلام الاقتصادي" من جهة أخرى. وهذا أيضاً يعيد إلى الأذهان الخطاب الذي كان سائداً قبل عقد من الزمن عن ضرورة "دمج الحركات الإسلامية في النظام السياسي الفلسطيني". على ضوء ما سبق، يمكن لنا رسم ملامح ما يدور بذهن "الوسطاء" مجتمعين، وما هو السيناريو المتوقع مناقشته (وليس تحقيقه بالضرورة أو القبول به).
ما الذي تطلبه "أطراف" المواجهة؟
تقول حقيقة الأمور إن المواجهة بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال لا تقتصر على هذين الطرفين. بل تشمل أطرافاً أخرى، وإن كانت المواجهة تتم عبر مستويات مختلفة. ولا يمكن اعتبار مصر "وسيط" بقدر ما هي طرف. والدليل ضلوعها المستمر في حصار غزة و"شيطنة" الفلسطيني والمقاومة في إعلامها الرسمي. وهذا الأمر ينطبق على سلطة أوسلو ورئيسها محمود عباس، الذي يظهر عدائه الصريح المقاومة المسلحة و"يدينها" في كل فرصة.
قوى المقاومة الفلسطينية، وأبرزها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، و"حركة الجهاد الإسلامي"، رفضت منذ اليوم الأول للحرب على غزة العودة إلى "تفاهمات 2012". وشرحت هذا الرفض بأن الضمانات التي قدمت لها وقتها تم نقضها منذ اليوم الأول. وهي تطالب بالإضافة إلى التفاهمات السابقة، برفع الحصار بكل أشكاله عن قطاع غزة، ووقف الاعتداءات على الفلسطينيين في كل فلسطين المحتلة، وإطلاق سراح الأسرى المحررين بصفقة "وفاء الأحرار"، هؤلاء الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم على خلفية اختفاء وقتل ثلاثة مستوطنين في مدينة الخليل المحتلة.
تدرك المقاومة مدى قدراتها العسكرية في أرض المعركة، وتعلم أنه وفقاً لترسانتها العسكرية (المتواضعة تكنولوجياً) لا يمكن لها الاستمرار طويلاً باستهداف جيش الاحتلال ومستوطناته الكبرى بنيران كثيفة. كما تعلم أنه لا يمكن لها أن تحقق نصراً عسكرياً (بمعناه التقليدي) على جيش الاحتلال، وأن كثافة النيران التي شهدناها في الأيام القليلة الماضية كان هدفها التعجيل بإجبار الاحتلال وحلفائه على قبول شروط المقاومة، قبل أن تفقد نيران المقاومة فعاليتها. كما أنها تقارع الاحتلال بوصف هذه الجولة "على طريق التحرير"، وتعول على صمود مقاتليها في الميدان من جهة، وعلى الدعم الشعبي الهائل الذي تحظى به. ومع هذا، تدرك أنه وفقاً لتوازنات القوى العسكرية والسياسية، لا يمكن "لأعدائها وخصومها" الرضوخ لكل مطالبها، من دون أن يُطلب من المقاومة تقديم ثمن سياسي باهظ إضافة إلى الثمن الذي يقدم بالدم.قوة الاحتلال من جانبها تعترف بعجزها عن تحقيق نصر عسكري شامل على المقاومة في غزة من دون دفع ثمن كبير، (وحتى مع هذا الثمن، يبقى نصرها محل شك). وتعلم أنها لو استطاعت تحقيق هذه الهزيمة بالمقاومة فلن يستمر الأمر طويلاً، وستتشكل مجموعات أخرى قادرة على تهديدها من غزة. وسيكون الصراع أشد ضراوة. وأن هذا الصراع لن يتوقف قبل إنهاء وجودها، كقوة استعمارية في أحسن الأحوال. من أجل هذا لخصت مطالبها الرسمية بنزع سلاح المقاومة في غزة، ومطالب أخرى تتعلق بعودة سلطة أوسلو للسيطرة على القطاع أمنياً، بعدما أثبتت الأخيرة جديتها في تعاونها الأمني مع سلطة الاحتلال. إلا أن هذين المطلبين مستحيلي التحقق حالياً، وخاصة ذاك المتعلق بنزع سلاح المقاومة، الذي أثبت قدرته الرادعة في هذه الحرب، وحظيت المقاومة بموجبها على دعم شعبي غير مسبوق في السنوات الأخيرة. وأقصى ما يمكن لقوة الاحتلال أن تأمل به هو تخفيض مستوى المواجهة العسكرية.
القوى الأخرى المعنية بالاستقرار في المنطقة، أي الولايات المتحدة وأوروبا بشكل رئيسي، تدرك هذا الأمر، وتعلم أن أكثر ما يمكن تحقيقه هو خفض مستوى المواجهة، أو ما يمكن تسميته بوضع "قواعد مرعية للاشتباك" يمكن التكهن بها وإدارتها في حدودها الدنيا. لكنها ملزمة، في مقابل تحقيق هذا التطلع، بتقديم ثمن مقابل للمقاومة، وتحديدا رفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة. ويدفعها إلى هذا عدة أسباب أهمها خوفها مما تسميه "صومال جديدة على حدود إسرائيل" وحدود مصر الهشة. والسبب الثاني يكمن في أن تدهور الأوضاع في فلسطين المحتلة سيقوض مشروع أوسلو وسلطة تم الاستثمار بها لمدة عقدين من الزمن، وأثبتت كفاءتها في حفظ الأمن وتقويض المقاومة. والسبب الأخير، أن الفرصة مواتية لإظهار محاسن العملية السلمية، وأن الخيارات الأخرى تكلف الاحتلال ثمناً باهظاً، وأن عليه استغلال فرصة وجود محمود عباس على رأس السلطة لمواصلة المفاوضات.
بدوره، محمود عباس، يُظهر بدأب في خطابه وفعله أنه الشريك الحقيقي لإسرائيل، و"لصناعة السلام". ولا يتوقف عن تأكيد هذا الأمر في كل مكان وكل خطاب. ورغم فشل المفاوضات بين سلطته وسلطة الاحتلال، ورغم الانتهاكات اليومية للاحتلال بحق الجسد والحياة الفلسطينية، لم يفقد الرجل إيمانه المطلق بالتسوية كخيار إستراتيجي وحيد "لإقامة دولة فلسطينية". لكن تقويض الاحتلال لسلطته في السنوات الماضية وتراجع شعبيته واتهامه علناً بالخيانة بسبب التنسيق الأمني، يدفعه للبحث من دون كلل عن طريقة للعودة بمظهر الحامي للشعب الفلسطيني بلا تخلي عن مسار التسوية. وهو يلتقي اليوم برأس النظام المصري العسكري، عبد الفتاح السيسي، لنقاش التهدئة.
مصر، التي تكنّ عداءً واضحاً لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بوصف الأخيرة جزءاً أصيلاً من حركة الإخوان المسلمين، وحليفاً سياسياً لنظام الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، لا ترغب بتقديم تنازل للمقاومة الفلسطينية يعزز صمودها في القطاع المحتل. ولا تريد أن تسمح بظهور نموذج حكم إسلامي "قابل للنجاح". في المقابل، يدرك النظام المصري أن القوى الدولية ما زالت تنظر له كنظام انقلاب ولم يحصل منها على الشرعية الدولية التي يتمناها. وهو يعاني من أزمات اقتصادية متراكمة وأزمات أمنية يتجلى أبرزها في سيناء المهمّشة. لذلك يرغب في استغلال الفرصة للتأكيد للقوى الدولية أنه قوة فاعلة في المنطقة، وأنه يمكن التعويل عليه.
صفقة للجميع.. الوعد المخيف
يلعب توني بلير وجون كيري وشتاينماير (الوسيط الألماني)، دوراً محورياً في صياغة سيناريو التهدئة، ضمن رؤية أكثر شمولاً وتعقيداً، إذ يعتقدون أنه سيمثل حلاً "مُرْضياً" لكل الأطراف وسيدعم جهودهم السابقة لـ"صناعة السلام" في العشرين عاماً الماضية.
يرغب كيري وبلير بدمج قطاع غزة في خطة كيري الاقتصادية لتحسين نوعية الاقتصاد الفلسطيني وإقناع الفلسطينيين بجدوى السلام. هذه الرؤية تعتمد على مجموعة كامنة من التفاهمات على الشكل التالي: 1- ستحصل المقاومة في غزة على ما تريده، أي يتم فتح المعابر مع مصر ومع الاحتلال ويتم توريد كل مواد إعادة الإعمار، وتوريد كميات كافية من الوقود لتوليد الكهرباء ومنح مساحة كافية للصيد البحري، وللنشاط الزراعي على الحدود الشرقية للقطاع.. مقابل أن يتم بحث تحديد القدرة العسكرية للمقاومة من دون الطلب منها التخلي عن كل ترسانتها العسكرية. قد تقبل حماس بالأمر إن قُدمت ضمانات جدية تضمن عدم عودة إسرائيل لسياسة الاغتيالات والاعتداءات، وأن يتم المباشرة فورا بالعمل على فتح المعابر وإطلاق سراح أسرى صفقة شاليط.
2- إسرائيل، التي تعاني في عدوانها الأخير بسبب فشلها الاستخباري من جهة وصمود المقاومة من جهة أخرى، ستقدم الأمر لجمهورها بأنها نزعت سلاح المقاومة، وهذا مطلبها المعلن، لكنها لن تقبل أن يكون الأمر نصراً لحماس، لذلك ستقبل به إن تمّ مع قيادة سلطة أوسلو، وهذا بالمناسبة أمر لا تعارضه حركة حماس. وستستفيد إسرائيل اقتصاديا، لكن من استثمارات الضفة (خاصة تلك التي يروج لها طوني بلير بين القطاع الخاص الفلسطيني ورجال أعمال قوة الاحتلال). أما مع غزة، فستكتفي قوة الاحتلال بتوريد البترول لتشغيل محطة الكهرباء، ربما ضمن اتفاقية اقتصادية تشمل استفادة قوة الاحتلال من حقل بترول غزة.
طوني بلير، بوصفه مستشاراً اقتصادياً لحكومة السيسي، سيقترح فتح معبر رفح للأشخاص وكرم أبو سالم للبضائع، على أن تتعاقد غزة مع مصر على شراء كل مواد إعادة البناء ومستلزمات قطاع غزة بأسعارها العالمية وربما أكثر، بما يشكل رافعة اقتصادية للنظام ولمنطقة سيناء التي يعاني النظام فيها أمنياً. وربما يتم وضع ترتيبات لتبادل تجاري مستمر ضمن صيغة "منطقة حرة"، التي قدمها السيسي لحل مشاكل البطالة أثناء حملته الانتخابية. هذا الأمر سيطمس إلى حد ما سياسات السنتين الماضيتين بالتضييق على غزة وهدم الإنفاق، وسيُظهر مصر كقوة إقليمية وعروبية ("أم الدنيا"). وفي حال تم ذلك، فسيتم مع أبو مازن، وهذا سيحقق هدف رئيس سلطة أوسلو. ففضلاً عن الميزات الاقتصادية الخادعة التي ستحظى بها هي ونخبتها الاقتصادية والسياسية، تعتقد سلطة أوسلو أن هذه فرصة لعودتها ليس على ظهر "دبابة اسرائيلية" بل كحامي للشعب الفلسطيني، وكحاملة للمشروع وراعية لإعادة البناء.. ستأتي بالوعد أن الحصار سيرفع والكهرباء ستعود بفضل العمل السلمي وليس الكفاح المسلح، بفضل وجودها على رأس الحكومة... حكومة الوفاق.
السيناريو البديل: حرب بالشروط الفلسطينية
تُطرح التهدئة اليوم كمآل طبيعي وحتمي للقتال الدائر حالياً بين فصائل المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة وقوة الاحتلال. وإشكالية هذا الطرح تكمن في قفزه عن المنطق ناهيك عن محدوديته كمساحة للتفكير، وكونه يمثل انصياعاً ولو جزئياً لمنظومة التفكير التي يريدها العالم للفلسطينيين. التهدئة كفكرة تتجاوز واقع تعريف المقاومة للكيان الصهيوني كمشروع مضاد للوجود الفلسطيني، وبذلك تتجاوز السبب الحقيقي لنشأة حركة المقاومة في فلسطين.
البديهي في ظل وجود الاحتلال بشكله التقليدي هو المقاومة والتمرد لحين إنهاء هذا الاحتلال وإنهاء سيطرته على الأرض والسكان. والثابت أن الغازي هو من يسعى لنوع من الاستقرار يضمن له احتلالاً هادئاً وبأقل كلفة ممكنة لحين تمكنه من تفكيك عوامل التمرد. في الحالة الفلسطينية، ضرورة القتال أعلى بكثير، حيث أن هذا الكيان يقوم فعلا على الأرض الفلسطينية وكمشروع إبادة بشكل أو بآخر للفلسطينيين، ولكن يمكن أن تجد التهدئة مسوغاتها لدى الفلسطيني المقاوم بحاجته لحماية الجمهور الفلسطيني من توسع بطش الآلة الحربية لقوة الاحتلال بحقه. هذا المسوغ المشروع لا يجب السماح له بشل العقل الفلسطيني، حيث أن التحرر هو عملية ترتبط بالتحرر من السياق الذي ترغب المنظومة المعادية بحصر التمرد ضمنه.
فعلياً، لا يجب إنكار أن التهدئة أعطت المقاومة الفلسطينية المسلحة فرصة لترتيب أوراقها وتجنيب الجمهور الفلسطيني الأشكال الأكثر وحشية ودموية لعدوان الاحتلال. بموازاة ذلك، سلم العدو بدرجة كبيرة بعدم قدرته على إزالة المقاومة الفلسطينية المسلحة بالقوة المباشرة، وركز على استخدام التهدئة كأداة لتفكيك هذه المقاومة من خلال الرهان على عقلنتها والسماح بأن يصبح لديها ما تخشى عليه – أي منظومة حكم ومؤسسات أخرى وبنى تحتية وفرصة لزيادة التسلح في ظل الهدوء النسبي - إضافة للرهان على تفكيك البيئة الحاضنة للمقاومة ونزع المشروعية عنها داخلياً، من خلال إظهار عجزها في ظل التهدئة عن ردعه عن استكمال إجراءات التهويد والقمع في ساحة الضفة الغربية كما في الأراضي المحتلة عام 1948.
الاشتباك مع العدو هو أمر حيوي للمقاومة وضروري لضمان استمرارية وجودها. وكذلك يعتبر تجنيب الجمهور الخسائر قدر المستطاع واجب أساسي للمقاومة، إضافة لواجب المقاومة بضرورة زيادة قوتها وتحسين تسليحها. ولكن التهدئة بمثالبها، وإذ تسمح بتجنيب السكان الموت المباشر، فإنها تؤدي لأضرار حقيقية في بيئة المقاومة وبنيتها العقائدية ومشروعها السياسي كمشروع تحرر واستقلال وطني، وليس مشروع بناء قوة عسكرية تحمي جزءاً من الأرض الفلسطينية فحسب. والمؤكد في هذه المعادلة أنه من المحظور ان تسمح أي حركة مقاومة لنفسها بالتحول لزمرة عسكرية يشغلها هاجس النمو العسكري بمعزل عن المشروع والرؤية السياسية. وفي إطار هذه الرؤية، يكون على المقاومة إبتداع الوسائل الضرورية والحيوية لتخفيف العبء قدر الإمكان عن الجمهور الفلسطيني، والبحث عن التكامل الهادف مع النضال الجماهيري بأدواته المتدرجة في عنفها... بحث يجري بمعزل عن الهوس بالتماهي مع القانون الدولي، لأن هذا الأخير لا يمكنه أن يشكل حماية لهذا الجمهور من القتل، أو الاستعباد في أفضل الأحوال.
في الفترة اللاحقة لـ"انسحاب" قوة الاحتلال من غزة، ولفترة تجاوزت العامين بقليل، نجحت المقاومة في الحفاظ على اشتباك يومي مع قوات الاحتلال في محيط قطاع غزة، حيث كانت المواقع العسكرية المحيطة بالقطاع عرضة للقصف المستمر، وعانت دوريات جيش الاحتلال من نيران القنص وعمليات التسلل والاقتحام التي أتقنت المقاومة تنفيذها، وكان أبرزها عملية "الوهم المتبدد" التي سيطرت فيها مجموعة مقاتلين من الفصائل الفلسطينية على موقع عسكري صهيوني وأبادت حاميته بشكل شبه كامل. هذا النمط من الاشتباك الذي ساد آنذاك كان مزعجاً حقاً للعدو ويشكل مساساً خطيراً بجيشه، وبصورة هذا الجيش كقوة يعتد بها تحمي الكيان والمشروع الصهيوني. طرحت المقاومة آنذاك معادلة كانت تستخدم فيها الصواريخ كرد على أي استهداف "للمدنيين الفلسطينيين" في غزة وفي الضفة كذلك، وكرد على سياسة الاغتيالات. هذا النمط من الاشتباك خدم المقاومة ولم يعيق فرصها في زيادة وتحسين تسليحها وتدريبها.
بالخلفية التاريخية، ومن إرث المقاومة العربية، يحضر نموذج مشابه كرسه "حزب الله" في أعقاب عدوان "عناقيد الغضب" الذي نفذ خلاله العدو الصهيوني مجازر بحق المدنيين اللبنانيين، أبرزها مجزرة قانا، في ما اعتبره رد على صواريخ حزب الله التي كانت تصيب مستوطنات شمال فلسطين المحتلة. تلك المواجهة انتهت بتفاهم يلتزم بموجبه الكيان الصهيوني بالامتناع عن استهداف البنى التحتية والمدنيين في لبنان بمقابل توقف حزب الله عن قصف المستوطنات الكبرى. فكرس جهوده لإلحاق ضربات نوعية بوحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي. مثل هذا النوع من معادلات الاشتباك منخفض الكثافة، والمركّز، يسمح لأي شعب لا يمتلك دفاعاً جوياً ملائماً وقدرة نارية كافية لتدمير القوات المعتدية، بتجنيب السكان المجازر اليومية، ويسمح للمقاومة بإلحاق الهزيمة الضرورية بالقوات العسكرية للعدو، ويفتح الباب مشرعاً أمام نضال جماهيري في وجه العدو، تشكل المقاومة مظلة حماية له من وحشيته.
في ظل المواجهة الحالية، التي التحم فيها جهد المقاومة في غزة مع هبّة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 وفي الضفة الغربية والقدس، لتشكل جهداً متكاملاً يكرس حقيقة فلسطين الكاملة بكل أبنائها في مواجهة قوة الاحتلال بكل أدواتها.. في ظل ذلك إذاً، وهنا، يمكن للمقاومة طرح مبادرتها لخفض الاشتباك الحالي وتجنيب الجمهور الفلسطيني ثمن وحشية العدو، وفق إطار تكون فيه عملية قصف العمق الصهيوني كمعادل للحصار وللغارات المعادية التي تستهدف الجمهور والبنى التحتية في قطاع غزة، وكذلك في موازاة أي استخدام للقوة العسكرية بحق الحراك الجماهيري في الضفة وأراضي 1948.. وتحمل هذه المعادلة أيضاً إجابة على معضلة حصار غزة. فالمطلوب اليوم هو حرب بالشروط الفلسطينية وليس تهدئة أياً كان نوعها.