الكتابة، ابتداءً،عملية ذاتية. إنّها أيضا جهد تراكميٌّ يخضع، إلى حد بعيد، لمؤثرات موضوعية تتصل بالحقل السوسيولوجيّ. ولهذه العملية صفة التركيب. فالظاهر أن الفرد (الكائن الاجتماعي) يحدس بذاتية عالية إذ ينشئ لغة أو خطابا. ويكون نفس هذا الخطاب تعبيرا أو انعكاسا لمجالات واستخدامات لغوية قد تشكلت عبر الجماعات وخلال أمد زمني موغل. إنها استخدامات تتحكّم بالخطاب المفترض، تنوعا أو تفرّدا أو تظهيرا لحاجاتٍ تعكس جليّا مجملَ أزمات الوعي بالمحيط والجماعة. في هذا السياق، تكون الكتابة بنية فوقية مساعِدة في تشكيل تصورات عامة عن خريطة الوعي الذاتيّ للفرد وللجماعة بقضية اجتماعية راهنة. لا تقتصر المسألة على الحقول المعجمية المتداولة واشتقاقاتها الظاهرة، بل تتعداها إلى أن تؤشر النصوص والمتون، كتابة أو كلاما، لسياقات التحولات الجماعية العميقة. وقد تصل النصوص إلى حدّ تقديم حدوسات بمآلات تخصّ مجمل المبنى الاجتماعي.
عمليا، قد يكون التحليل أو البحث عن بنيات معجمية تقع في ثبات تداوليّ نسبيّ خلال حقبة معينة مؤشرا سوسيولوجيا بالغ الإفادة في تصّور وعي الأفراد والجماعات بطبيعة التحديدات والتقسيمات والإكراهات التي تمارس باللغة المتاحة للتداول. نتحدث عن مجمل الإكراهات إذ تصيب مجال الجماعة التداوليّ، وتستعيد، عبر اللغة والتراكيب المعجمية، تظهير كل القضايا السوسيولوجية الطارئة أو تلك القضايا التي تكون مشدودة إلى طبقات من الوعي النفسي والثقافي الذي يخص طرائق تفكير الجماعة. بهذا المعنى، يحدس المعجم المتداول، بما هو خطابٌ أو سلطة كلامية، بعمليات التحول في مختلف البنيات، السياسية أو الاقتصادية، أو ما يطال مجمل ما يتأسس عليه سلوك الفرد والجماعة في مسائل إشكالية مطروحة وعديدة، من قبيل الجندر والتمييزات العرقية والإقصاءات السلوكية.. مثالا لا حصرا.
لا تكون اللغة بمعجمها المتداول، كخطاب أنشأه المتكلم الحامل، دالة من غير محمولها الخارجيّ وظرفيتها. وقد تتبدل دلالات المتون الكلامية والكتابية تبعا لطبيعة تداولات المتون ذاتها بين حقبة زمنية وأخرى. بهذا المعنى، يكون من المفيد تجنب إسقاطات الخطابات القديمة التي تنشئها الجماعة حول ثيمة أو تصوّر أو نمط تعبير معيّن يخصها حضاريا، على واقع معاصر أو محدَث في سبيل بلوغ استنتاجات محددة في قضية إشكالية راهنة لها طابع سوسيولوجيّ. تتسم هذه الإسقاطات بالعبثية، إذ لا تأخذ بالاعتبار عمليات التحول التاريخيّ الدلاليّ المشبوكة، قوليّا أو كتابيّا بتحولات جذرية في الاجتماع.
إلى المعجم الجنسانيّ العربيّ
لم تكن استخدامات اللغة العربية، لناحية تراكيبها المعجميّة واشتقاقاتها التداولية الفصيحة، خلال حقب ماضية من عمر الحضارة العربية الإسلامية، مقنّنة في ما يتصل بموضوع التعامل مع "الجسد". الجسد بما هو أداة أو ثوب للروح التي من شأنها الاتصال بالمفارِق. يكون الجسد هنا مدار الجاذبية والاهتمام الفقهائي التأليفيّ من جوانبَ لا يعدّ بها هامشا بحال من الأحوال. ثمّة احتفاء، أوّلا، بتلك الهبة. وهي تغدو، تاليا، موضوعا مفصّلا مركزيّا، للتشريع في سبيل السيطرة على مجالاته الواقعية أو التأويلية في وعي الجماعة المشكّلة. في هذا الحيز، لا ينفتح الجسد، كآلة للجنس وإنتاج النوع، بفرعيه (تأنيثا في الغالب) على التداول اللسانيّ الجنسانيّ، إلّا بقدر ما يكون هذا الانفتاح نفسُه تعبيرا أصيلا ومتباسطا في آن عن المساحة المفترضة والممكنة والمسيطَر عليها لهذا التداول. لا يستقيم في هذا الإطار أي استنتاج من الاستنتاجات الدارجة المفتعلة عن حقبة ماضية تُعلي من شأن التداول اللسانيّ الجنسانيّ التراثيّ "الحرّ" على حساب المعاجم التداولية المقنّنة اليوم من جراء الإطباق الرقابيّ العموميّ. لا يكون استنتاج من هذا النوع قابلا للتصريف المنهجيّ، بسبب تفاوت الفضاءات الإبستيمية بين المجالات التداولية للمعاجم العربية الراهنة، ومجالات التفكير التراثية باستخداماتها المعجمية. نتحدّث عن مستجدات سوسيولوجية شائكة معطوفة على تماسات ثقافية مغايرة. مستجدات تطرح على استخدامات المعجم اللغويّ الحديث أسئلة تعكس في جوهرها إبستيمية الحداثة من خارج الحاجات أو التصورات التداولية الفقهائية المنشأ التي درجت عليها مجمل التصنيفات، ومنها تلك المصنفات التي يكون موضوعها الجسد/ الجنس.
هذه التفاوتات تكون في العمق محفّزا لمختلف الأجهزة السلطوية كي تراقب التداول المعجميّ في الفضاء الاجتماعيّ العام. في سياق كهذا يكون مفهوما إلى حدود بعيدة عجز هذه البنية الرقابية، برغم انتمائها للفضاء الإبستيميّ الحديث شكلا، على تمرير نسخة، ولو فقهية، لمصنّف تتضمن لفظا جنسانيا واضحا، محيلة هذه النسخة على عمليات التحوير أو الحذف أو استدراج الترادفات. الأمثلة كثيرة في هذا الشأن، وليس أدلّها مؤلفات الإمام السيوطي الكبير (المتوفى 911 للهجرة): الوشاح في فوائد النكاح (الجماع محل النكاح)، نواضر (نواضر الأيك، مع حذف القسم الثاني)، فضلا عن سواها من مصنفاتٍ للتيفاشي والنفزاوي والتيجاني..
السيطرة
عمليا، ليس التداول المعجميّ الجنسانيّ بالغ الثراء طارئا على اللسان العربيّ. إنّه شائع ولا ينفصل عن مخيال جنسانيّ تراكميّ وحكائي متغلغل في نسيج القصص والسير والأساطير العربية. إنه أيضا، بوجهه الأناسي العام، حاجة. وهو بشكله التداوليّ الحاليّ، لناحية تفاوتاته ومساحاته واستخداماته الكتابية أو الكلامية الشوارعيّة أو تقسيماته الكلامية على ألسنة الجنسين، مؤشرٌ بالغ الخطورة على طبيعة الوعي الراهن أو التراثيّ بالجسد كأداة إنتاج تَدخلُ السلطةُ في صلب تكوينها.
من هذا الوجه، لا يكون التداول الجنسيّ الراهن والواقع في الاحتجاب والمسيّج بالمحاذير الأخلاقوية، شأنا هامشيا. إن آليات الحجب والرقابة الكتابية تسوق التداول المعجمي الجنساني نحو مسارب هي نتاجٌ طبيعيّ للتفلتات الموضوعية من شبكات الحجب والرقابة. إنها تداولاتٌ صارت تنجز أشكالها واشتقاقاتها الخاصة المفترضة، حكائيا أو كتابيا أو فنيا، في المجالات السوسيولوجية التي تنهزم عندها مفاهيم الرقابة أو تبدو غير ذات جدوى (شتائم مبتكرة متداولة عبر سياقات محددة ضد سلطة ما، جداريات تستلهم رسوما هجينة لها إيحاءات جنسية، موسيقى تحاكي مفاهيم تعاكس باللفظ والجاذبية كل سعيّ إلى قولبة الجسد وتنميطه..). نتكلّم عن تفلّتات قد تصل تراكماتها إلى حدود صداميّة تولّد أشكالا لا حصر لها من التماسات العنفية مع السلطة (بمفهومها السيّال) أو تولّد فوضى في الانتظام العام، خصوصا في البيئات العربية الريعيّة الاستهلاكية التقليدية التي تعاني خواء معرفيا مخيفا.
في الخلاصة، لم يكن الاشتغال الكتابيّ أو التعبيريّ في المجال العربيّ العام حرّا بالمطلق أو حياديا في يوم من الأيام في ما يتصّل الجسد. الجسد بما هو، فوق قيمته الذاتية ودلالاته الحميمية، مفهومٌ جوهرانيّ لا تطمئن السلطة، أيا تكن، بغير حيازة كامل عدته التحفيزية اللغوية التداولية. تلك العدة التي تنتجُه وتكونُ نتاجَه في آن.