ثمة قاعدةٌ عامة تكاد تشمل كل محافظات العراق، خصوصاً الوسطى والجنوبية منها، وهي أنَّ ماضيها أفضل من حاضرها. ومن هذه المدن الديوانية، والتي تبعد 180 كلم عن بغداد. هذه النوستالجيا المغرقة بالحنين إلى الماضي، سببها وصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في عراق ما بعد 2003، مجهضةً أحلام الناس على صخرة الواقع المعاش، بالشكل الذي أضاع الدين والدولة في آن واحد.
تمتلك الديوانية إرثاً حضارياً ضارباً في عمق التاريخ. فهي "تتقدم" على البشرية بسبعة آلاف سنة، وبحسب المؤرخين فإنها أول مدينة انتقلت من حالة اللاحضارة إلى الحضارة. فقد كانت المركز الروحي للسومريين، متمثلاً بـ"نيبور"، وزقورة الإله "أنليل"، وتُعد العاصمة الدينية للعراقيين قبل خمسة آلاف عام، وفيها تعلم الإنسان القراءة والكتابة، وفيها استخدم الأختام.
مدينة "نيبور" الأثرية
هذا الإرث الحضاري لم يشفع للديوانية في أن تقبع في المركز الثاني على خط الفقر بعد محافظة المثنى، إذ كشفت دائرة الإحصاء في الديوانية أن "نسبة الفقر في المدينة بلغت 47.08 بالمئة بحسب آخر إحصائية أجرتها الدائرة. فالمدينة التي كانت تحلم بالخلاص زادتها الأحزاب الإسلامية التي تهيمن على إدارة المحافظة خراباً وبؤساً بالشكل الذي أفقدها حتى خصوصيتها الاقتصادية. فهي تمثل مركزاً أساسياً في زراعة الحنطة والشعير ورز العنبر، ونسبة الأراضي الزراعية في هذه المحافظة تمثل 65 في المئة من مجمل أراضيها، لكنها بسبب شح المياه والفساد الإداري صارت زراعتها تحتضر، وتقلصت المساحات الزراعية.
____________
من دفاتر السفير العربي
مدن العراق
____________
يصف الشاعر الديواني كزار حنتوش ملامح المدينة، ومتاعب سكانها بعد 2003 بقصيدة بعنوان "الألم.. والأمل.. وما بينهما"، تقول "طفل يرضع ثدي امرأة مذبوحة/ امرأة تعرض للبيع ثلاث صوابين/ عائلة تتعشى.. ما تتغدى/ شيخ في التسعين بدون عصا/ وازرة تزر الأخرى/ عُمرٌ يجلس فوق قنابل موقوتة/ أيام تتسلقها أفعى/ شاعر يفتح دكان بقالة/ ثوري يستبدل حزباً بالآخر/ طفل يتأمل طفلاً يقضم تفاحة/ ورعٌ ذو كرش يسع الديوانية/ امرأة يتزوجها قواد/ أحزاب تتشاجر على كعكة بغداد المسمومة"، ويختم قصيدته بهذه العبارة: "أمي رافعة كفيها.. إلى الله/ راجية أن يفتك بالغمة.. ويريح الأمة".
مخدرات وفساد وسكن عشوائي
بسبب نسبة الفقر المرتفعة في المدينة، وانعدام المشاريع التنموية، وغياب دعم القطاع الخاص، وهيمنة الأحزاب على الدرجات الوظيفية، أصبحت المخدرات حبل النجاة لبعض الشباب من واقعهم المعيشي المرعب. فبحسب تصريح محافظ الديوانية [1] لقناة "العراقية" في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، فإنَّ نسب تعاطي المخدرات بين الشباب العاطل عن العمل بلغت 40 في المئة منهم.
ويفسر المحافظ هذه النسبة بالفقر، وبعدم السيطرة على المنافذ الحدودية، واستغلال المناسبات الدينية مثل زيارة الأربعين، إذ يؤكد المحافظ أن المخدرات تدخل في الدرجة الأولى من جهة إيران.
الديوانية مركز أساسي في زراعة الحنطة والشعير ورز العنبر، ونسبة الأراضي الزراعية في هذه المحافظة تمثل 65 في المئة من مجمل أراضيها، لكنها بسبب شح المياه والفساد الإداري صارت زراعتها تحتضر، وتقلصت المساحات الزراعية. وتبلغ نسبة سكان العشوائيات في الديوانية نحو 19.4 من مجمل سكانها، وهي أعلى نسبة في البلاد.
أما قصة الفساد الإداري والمشاريع المتلكئة في المدينة، فهي بلا نهاية، إذ يبلغ عدد "المشاريع المتلكئة" –التي صرفت اعتماداتها ولكنها لم تنفذ، وهذه ظاهرة شديدة الانتشار في عراق اليوم – ما يزيد على مئة مشروع ما بين مدرسة ومستشفًى ودائرة خدمية. والمدينة التي يبلغ عدد سكانها مليون وربع المليون إنسان، فيها ستة مستشفيات بُنيت منذ عام 1982، ونسيت بلا صيانة ولا تحديث، فلا يوجد فيها خدمات: المصاعد معطلة، وكل شيء في المشافي متداعٍ، ولا يوجد منظومات أوكسجين. وفوق هذا كله فساد المسؤولين في المستشفيات، وسرقاتهم التي لا تتوقف. ففي بداية أزمة كورونا تبرع مواطن من الديوانية بشراء جهاز فصل بلازما الدم، ليكون الجهاز الأول في مختبرات المحافظة، وبينما تستعد نقابة الأطباء للاحتفاء بالمتبرع وتكريمه لموقفه الإنساني، قامت مديرة الصحة آنذاك بإدراج سعر الجهاز ضمن مشتريات دائرة الصحة [2]!
أما فيما يخص "مشروع ماء ومجاري الديوانية"، فهو لم ينجز حتى هذه اللحظة على الرغم من أنَّ المباشرة بالعمل فيه كانت في عام 2011، وكذلك مشروع المستشفى الأسترالي الذي مر على إطلاقه أكثر من عشر سنوات. ولم يتوقف الأمر على هذه المشاريع الحيوية، فحتى النفايات والأنقاض التي تملأ المحافظة كانت بسبب فساد المسؤولين في المحافظة، فبحسب محافظ الديوانية فإن بلدية المحافظة تعاني عجزاً في ميزانيتها يصل إلى 26 مليار دينار عراقي، ولا تستطيع دفع أجور عمالها المضربين عن العمل.
تبلغ نسبة سكان العشوائيات في الديوانية نحو 19.4 من مجمل سكانها، وهي أعلى نسبة في البلاد[3]. والعشوائيات تلك مبنيةٌ على أراضي الدولة خلافاً للقانون ومن دون تخطيط أو استفادة من أي بنًى تحتية، الأمر الذي يجعلها فريسة سهلة للأمراض والأوبئة والتلوث.
تنوع، وتطرف..
يُعرف سكان الديوانية بطيبتهم المفرطة، وتفرض طبيعة الديوانية العشائرية احترام الآخر والترحيب به كجزء من الشيم القبلية. وحتى اسم المدينة اشتق من "الديوان" أي المكان الذي يكون مقراً للضيوف، بالإضافة إلى كونه مكاناً يجتمع فيه شيوخ العشائر لحلّ الخلافات التي تحدث بين أبناء عشائرهم. ومن القصص [4] التي تحفظها ذاكرة المدينة، أنه عندما قام أحد يهود الديوانية بطرق باب جاره المسلم الفقير، وأخبره بأن كل ممتلكاته سيصادرها النظام الذي أمر بتهجيره، ورجاه أن يأخذ منه وعن طيب خاطر أثمن ما لديه من نفائس، راح الرجل يلطم على رأسه ويقول: "إذا خسرتك شلي بالمال"؟ كما إنَّ المطلوبين لنظام صدام كانوا غالباً ما يفرّون إلى مدينة الديوانية خوفاً من حبل المشنقة المؤكد، وذريعتهم في ذلك هي أن "أهل الديوانية طيبون، ولن يسلّموهم إلى الحكومة"، فسكانها يحفظون الغريب، ويفتحون له أبواب قلوبهم قبل أبواب منازلهم.
يبلغ عدد "المشاريع المتلكئة" – التي صرفت اعتماداتها ولكنها لم تنجز - ما يزيد على مئة مشروع ما بين مدرسة ومستشفًى ودائرة خدمية. والمدينة التي يبلغ عدد سكانها مليون وربع المليون إنسان، فيها ستة مستشفيات بُنيت منذ عام 1982، ونُسيت بلا صيانة ولا تحديث، فلا يوجد فيها خدمات.
لكن هذه الطبيعة والفطرة التي عُرف بها سكان المحافظة يكاد يصيبها الصدع، بعد وصول حركات الإسلام السياسي، وفرض أحكامها على أهالي المدينة، مما جعل أبناء الأقليات الدينية من مسيحيين وصابئة مندائيين ويهود يغادرون المحافظة، حفاظاً على أنفسهم، لكي يتاح لهم ممارسة طقوسهم بحريّة في دول العالم التي هاجروا إليها.
النكبة ونكبة اليهود العراقيين: نفي المنفى؟
13-05-2017
الأزيديون العراقيون، محنة لم تنتهِ بعد
07-02-2021
هذا الأمر لم يلغِ تنوع المدينة فحسب، بل صارت الميليشيات المهيمنة تتدخل في كل شيء. يشتكي الرسامون الذين يعرضون لوحاتهم في الطرقات أو أمام متاجرهم، وقد قال أحدهم إن الميليشيات أنذرته برفع لوحاته من أمام متجره، بعد أن قامت بإلغاء مشروع لتعليم الرسم للفتيات. ثم "طلبت" منه أن يرسم لوحة كبيرة الحجم لأحد قادة "الحشد الشعبي"، عربوناً لحياته المرهونة برصاصهم. وبالفعل قام الرسام بالعمل. لكن بعد مدة وجيزة قتل هذا القيادي، ما جعل أهالي المدينة يطلبون منه رسم بقية القادة حتى يضمنون خلاصهم من شرورهم إلى الأبد... لأن ريشة الرسام ذات فأل سيء عليهم!
وفي عام 2015، أسس شباب من الديوانية "جمعية أكد الثقافية" على ضفاف نهر الفرات وسط المدينة، في "ساحة الراية"، وراحوا يزاولون فيها نشاطاتهم الفنية من رسم، وخط، وموسيقى ومسرح واستعراض مختلف الكتب والنشاطات الأدبية. وكان هذا النشاط يسعى إلى زرع ثقافة المحبة والتعايش بين أبناء المدينة.
لكنه لم يدم طويلاً، فسرعان ما تغيّر اسم المكان إلى "ساحة الشهيد نمر باقر النمر" [5]، بقرار من "كتلة الأحرار" التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. وشيدت له صورةٌ كبيرة وسط الساحة، بينما عدَّ الشباب الأمر تعدّياً على تاريخ مدينتهم، وكان تغيير اسم الساحة بمثابة تهديد مبطن بمنع مزاولة أي نشاط ثقافي لا ترتضيه الجماعات الدينية في المدينة. وبالفعل ألغيت نشاطات الجمعية الشبابية، وحضرت نشاطات الجماعات والأحزاب الدينية.
يستخدم المحافظ نفوذ عشيرته لقمع المتظاهرين وترويعهم، بعد أن استعان بها فيما مضى لتثبيت منصبه، حيث دار بتاريخ 15 أيلول/ سبتمبر 2019، في أروقة مجلس المحافظة حديث عن اجتماع لإقالته، فإذا بعشيرته تخرج بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وتطوّق بناية المحافظة مهدّدةً بحرقها إذا ما تمت إقالة محافظهم وشيخهم في الوقت نفسه، وقاموا أيضاً بقطع الشوارع بالإطارات المحترقة..
كذلك هو التعامل مع التماثيل والمجسمات التي ترتبط بالإرث التاريخي للمدينة. فتمثال "أم سوادي" الذي يقع وسط الديوانية يُغطّى بقطعة قماش زرقاء خلال المناسبات الدينية، تحت ذريعة أنه فاضح، ويظهر مفاتن المرأة! وقد شُيّد التمثال في عام 2000 تكريماً للمرأة الفراتية، على يد النحات رمزي كاظم، وهو يمثل سيدةً كادحة تحمل على ظهرها جرة ماء كرمز إلى النماء والخصوبة. وأما تسمية "أم سوادي" فقد أطلقه الأهالي على التمثال في إشارة إلى قصة عاملة النظافة التي كانت تتخذ من التمثال ظلاً لها.
الدجاجة البيضاء في قلب الحركة الاحتجاجية
في زمن النظام السابق، كان يُطلق لقب "الدجاجة البيضاء" على الديوانية بسبب حالة الهدوء التي كانت تسودها مقارنةً بالمحافظات الأخرى، على الرغم من بعض التحركات التي كان يقوم بها الشباب، وعلى الرغم من الاغتيالات التي طالت بعض رموز النظام. غير أن الديوانية ودّعت هذا الاسم بعد أن أصبحت السباقة إلى الاحتجاجات التي شهدها العراق في السنوات الماضية، وما تلاها وحتى الآن. وكانت الديوانية شديدة الحضور في الموجة الأولى من انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، التي لا تزال مستمرةً بأشكال مختلفة إلى يومنا هذا، على الرغم من قمع السلطة والميليشيات وعمليات القتل والقنص والحرق والاغتيال. واحتلت المرتبة الثالثة من حيث كثافة الجماهير وأعداد الشهداء، بعد بغداد والناصرية.
"فوهرر" الديوانية
يطلق أهالي الديوانية لقب "الفوهرر الصغير" على المحافظ الذي كان يكذّب بتصريحاته للقنوات الإعلامية بشأن الاحتجاجات حيث يقول إن الوضع هادئ، وهناك بعض "المندسين" وحسب، بينما يعدُّ يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر2019، من أكثر الأيام التي شهدت مجازرَ مروعةً في المدينة (وفي بقية المحافظات)، وتحولت الديوانية إلى ما يشبه مدينة أشباح، وتم التعامل مع أبنائها على إنهم "دواعش"!
يُغطّى تمثال "أم سوادي" الذي يقع وسط الديوانية بقطعة قماش زرقاء خلال المناسبات الدينية، تحت ذريعة أنه فاضح، ويظهر مفاتن المرأة! وقد شُيّد التمثال في عام 2000 تكريماً للمرأة الفراتية، وهو يمثل امرأة كادحة تحمل على ظهرها جرة ماء كرمز إلى النماء والخصوبة.
ولم يتوقف المحافظ عند هذا الحد، بل صار يستخدم نفوذ عشيرته ("الخزاعل") من أجل قمع المتظاهرين وترويعهم، بعد أن استعان بهم فيما مضى لتثبيت منصبه، حيث دار بتاريخ 15 أيلول/ سبتمبر 2019، في أروقة مجلس المحافظة حديث عن اجتماع لإقالته، فإذا بعشيرته تخرج بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وتطوّق بناية المحافظة مهدّدةً بحرقها إذا ما تمت إقالة محافظهم وشيخهم في الوقت نفسه، وقاموا أيضاً بقطع الشوارع بالإطارات المحترقة..
***
ليس أمام أهل الديوانية، وتلك حالهم إلا تزجية أوقاتهم بالحديث عن الماضي، أو أن يكونوا في قلب الحركات الاحتجاجية التي تشتعل بين الحين والآخر، بعد أن يئسوا من كل شيء. فكأن زمن المدينة محنطٌ على توقيت قديم، ولا تقدّم إلا في مجالات الخراب.
[1] https://www.youtube.com/watch?v=ctIAiXUBy3w
[2] https://bit.ly/3G1DsZ9
[3] بحسب "التداعيات الصحية لسكان المناطق العشوائية في مدينة الديوانية" للأستاذة الدكتورة صبرية علي حسين، منشور في "مجلة الفنون والأدب وعلوم الاجتماع والإنسانيات"
[4] في "يهود العراق: موسوعة شاملة لتاريخ يهود العراق وشخصياتهم ودورهم في تاريخ العراق الحديث"، مازن لطيف، دار ميزوبوتاميا للنشر، بغداد 2012، وقد حدثت هجرة اليهود من العراق خلال عامي 1949 – 1950
[5] باقر النمر رجل دين سعودي شيعي عُرف بمعارضته للنظام السعودي الذي أعدمه بتاريخ 2 كانون الثاني/ يناير 2016