قد لا يكون موازياً، في الدلالة، لحكم الردّة الصادر مؤخراً بحق الكاتب الموريتاني الشاب محمد شيخ ولد محمد، الموقوف منذ شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، إلا تصريح الرئيس الموريتاني عقب مظاهرات جرت في العاصمة تطالب بإعدام الشاب ذي التسعة وعشرين عاماً. قال الرئيس في سياق كلام موجّه إلى متظاهرين غاضبين في نواكشوط: "الإسلام فوق الحرية وفوق الديموقراطية". تضع المقولة "الإسلام" كدين وثقافة اجتماعية راهنة في مواجهة الحرية والديموقراطية المستثمرَتين كشكل لفظي مُحدَث في السياسة اليومية. إنها بحسب الرئيس، إذاً، ثيمات تشكل عائقاً أمام سيادة "شرع الله".
نتكلم عن اتّهامٍ بالردّة. وهذا شطر من نصّ التهمة الموجهة: "تحدث باستخفاف عن النبي محمد" (صلى الله عليه وسلم) في مقال نُشر على مواقع إلكترونية موريتانية، أعرب فيه عن رفضه لقرارات اتّخذهاالنبي والصحابة أثناء غزواتهم". وقد نفى الكاتب الموريتاني الموقوف منذ عام تهمة الردة الموجهة إليه. وأردف أنه لم يكن يقصد الإساءة إلى النبي بل انتقاد مجتمع تستلبه موروثات اجتماعية مجحفة وظالمة بهدف رفع الظلم عن فئة الحرّاطين في موريتانيا التي ينتمي إليها (وهي فئة الأرقاء السابقين، العرب السمر). أصاب الشابَ الإغماء إثر تلاوة الحكم بالإعدام في مدينة نواديبو تطبيقاً لمادة من قانون العقوبات الموريتاني تنصّ على الإعدام: "لأي مسلم رجل أو امرأة، يتخلى عن الإسلام علناً أو عبر أفعال أو أقوال".
ماذا قال؟
لا يعدو مضمون المقال، موضوع الحكم، (المنشور في موقع "الحوار المتمدن" بتاريخ 7 / 1 / 2014)، بكونه نقاشاً من زاوية محدّدة لمسألة "التمييز" في تعامل النبيّ/ الحاكم خلال الحرب بين قريش من جهة وغير قريش من جهة أخرى في مواضعَ محدّدة. مثلاً، يضرب الكاتب مستشهداً بسير شائعة، كتاريخ الطبري، مثالاً هو قضية يهود بني قريظة حين تآمر رؤساؤهم على جيش النبي خلال غزوة الخندق، فكان من النبي ما كان من سبي ذراريهم والفتك بهم ومصادرة أموالهم. ثمّ "يقارن" الكاتب هذا التعامل من قبل النبي بمواقف مماثلة من قبيل رفقه بأسرى قريش بعد بدر لكونهم عشيرته وقومه. أو فيما خصّ العفو الشهير عن طلقاء قريش بعد الفتح.
وإن كان لنا أن نموضع المقال، فنقول إن مراد الكاتب لا يعدو أن يكون في خلاصته تساؤلاً تشكيكيّاً في قضية شائعة ليس هو أوّلَ المتطرّقين إليها من هذه الزاوية على كلّ حال. ثمّة آراء كثيرة أكثر حساسيّة نُشرت في دراسات أكاديمية عربية عديدة واستشراقية، حول تلك الفترة لاسيما فيما خصّ الرؤية إلى فجر التاريخ الإسلامي من وجهة اجتماعيّة، تاريخانية. مفاد بعض هذه الآراء أّن تعاطيَ النبي تفاصيل الحرب ليس من باب الوحي الإلهي بالمطلق بل هو ببساطة، وفي وجه من وجوهه، تعامل حاكم زمنيّ بقوانينَ سائدة في تلك الحقبة، مضافة إلى اجتهاداته الخاصة، وفي ما لا يتصل مباشرة بتبليغ الرسالة. بمعنى أن بعض القرارات التي كانت في الغالب تتخذ بعد استشارات مع صحابة مقرّبين، كانت اجتهاداً بشرياً يلائم حرص النبيّ على مجتمع قبلي يُرادُ به أن يحقق بقدر مشروطيات اجتماعية واقتصادية وثقافية للانتقال تدريجياً الى الحقبة الإسلامية.
.. الموضوع يتعلّق بالحاضر
يومئ الكاتب، في العمق، إلى ظلم يلحق بفئة اجتماعية لا تزال قوانين القبيلة التمييزية ذات الصبغة الدينيّة الموروثة تتحكّم بمجمل مفاصل عيشها الراهن. وهذا شأن بلدان عربية كبيرة. غير أن معضلة الرقّ في موريتانيا على وجه الخصوص، والتي تصيب فئة الكاتب الاجتماعية، تبقى الإشكالية الكبرى في حال بلد عضو في جامعة الدول العربية، نال استقلاله 1960. ففي تقرير للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان أنّه قد تمّ إلغاء العبودية ثلاث مرات في موريتانيا كان آخرها القانون الصادر 2007 المتعلق بتجريم الممارسات الاسترقاقية. وقد جاء أول قانون مجرّم للرق سنة 1981 تحت الحكم العسكري آنذاك، بعد انتفاضة شعبية وسلمية قام بها العبيد والعبيد السابقون بتأطير من حركة "الحر"، أول حركة مناهضة للعبودية أنشأها متعلمون من العرب السمر "الحرَّاطين" في موريتانيا خلال آذار/مارس 1978، وقامت هذه الانتفاضة الانعتاقية في كبريات المدن الموريتانية وكان سببها المباشر هو عمليات بيع النساء علناً وكثرة التعسف ضد العبيد والعبيد السابقين في مخافر الشرطة والدرك.
إذاً، إنها قوانين اجتماع زمنية موغلة في ثنايا تاريخ نصيّ هائل. أحاديث مقيّدة ربما كان لها مغزى اجتماعي/أرضيّ في قرون الإسلام الأولى باعتبار سنة النبي وأصحابه قد حضّت على عتق العبيد ضمن آلية كان من المفترض أن تقضي في فترة عقود قليلة على تلك الظاهرة. وتالياً يكون نص الكاتب، في شكل من الأشكال، احتجاجاً ضمنياً يتصل بقضية محددة: السعي الى الخروج من رق الموروث. وليس نقاش قرارات النبيّ ظاهرياً في شأن التعامل المميّز لقريش على سواها في حقبة تَشكُّل الرسالة إلا اعتراضاً على أوضاع حالية مزرية قد تصلح تسميتها الردّة الاجتماعية على مقاصد الإسلام الأولى.
أحكام بالردّة
تقول الأنباء إن "الحكم أثار أجواءً من الفرح في قاعة المحكمة، بينما نظمت تجمّعات في المدينة أُطلقت خلالها أبواق السيارات".
عمليّاً، تظل الخشية من أن يؤدي تصاعد موجات ما يُسمّى "محاربة الإلحاد" مؤخراً في غير دولة عربية إلى أحكام عشوائية بالردّة قابلة للتنفيذ، وذلك في ظل حساسيةٍ في التعامل من جانب السلطات الرسمية في غالبية الدول العربية مع أحكام الخروج من الدين، ومع انتشار تيارات من الفوضى والتطرف، إذ تتقاطع بعض تلك التيارات مع دوائر دينية ودعوية تلقى نصرة في بيئات شعبية وازنة. في كل الأحوال، تبقى التّهمة بالردّة مشوبة بلبس كبير من حيث المسند النصيّ (من بدّل دينه فاقتلوه/ حديث) سواء في الجانب الثبوتيّ أو في الوجهة الكيفية التنفيذية فقهياً. ولا يمكن فهمها إلا حين يكون إدراجها في سياق تبلور الإسلام كطرح اجتماعي دولتيّ دنيويّ، قد طال، قديماً، سؤال الهوية الجديدة للجماعة الإسلامية الناشئة.
وسط هذا الضغط الاجتماعي، وفيما لم ترْشح معلومات أكيدة عن إمكانية استئناف الحكم في موريتانيا، فالخطورة تكمن في إمكانية التنفيذ الإجرائي من قبل القضاء الرسميّ لثاني حكم بالإعدام على كاتب رأي في العالم العربي، بتهمة الردّة بحكم قضائيّ بعد تنفيذ الحكم بالكاتب السوداني محمد محمود طه في كانون الثاني/ يناير 1985، في ظلّ حكم جعفر النميري.
وكان الأخير قد حوكم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 بتهمة الردة أمام المحكمة الشرعية بسبب ما اعتبر غلوّاً في مؤلفاته وكتبه في ما خصّ التصوف والنظرة إلى الوجود. رفض محمود الامتثال لأمر الحضور للمحكمة التي حكمت عليه غيابياً بالردة عن الإسلام. من بعدها، في 1983، أخرج الجمهوريون (دعاة الفكرة الجمهورية) كتاب "الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة". على أثره اعتقل محمود ومعه مع ما يقرَب الخمسين من الجمهوريين لمدة ثمانية عشر شهراً. في هذا العام نفسه صدرت قوانين "سبتمبر 1983" والمسمّاة "بقوانين الشريعة الإسلامية"، فعارضها محمود والجمهوريون من داخل وخارج المعتقلات. وعندما خضع محمود محمد طه للمحاكمة، رفض التعاون مع سجَّانيه معلناً عدم اعترافه بتلك القوانين. في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1984، أصدر الجمهوريون منشورهم الشهير "هذا أو الطوفان" في مقاومة "قوانين سبتمبر". اعتقل أربعة من الجمهوريين هم عبد اللطيف عمر حسب الله ومحمد سالم بعشر وتاج الدين عبد الرازق وخالد بابكر حمزة، وهم يوزّعون المنشور، واعتقل محمود في 5 كانون الثاني/ يناير 1985 بأمرٍ من وزير الشؤون الجنائية وألحق بالمعتقلين الأربعة. قدموا للمحاكمة يوم 7 كانون الثاني/ يناير 1985، وكان محمود قد أعلن عدم تعاونه مع المحكمة في كلمة مشهورة، فصدر الحكم بالإعدام ضده وضد الجمهوريين الأربعة بتهمة إثارة الكراهية ضد الدولة. حوّلت محكمة أخرى التهمة إلى تهمة ردة. وأيّد الرئيس جعفر نميري الحكم ونفذ في صباح الجمعة 18 كانون الثاني/ يناير 1985!
في الخلاصة، يعكس هذا الوضع في موريتانيّا أحوالاً قائمة في مختلف المجتمعات العربية، وإن كان هنا بصورة أكثر حدّة لجهة تمفصل المسلك الدينيّ عرفاً وتقليداً مع الموروث القبليّ. وتالياً، سوف يظل الشكل الدولتيّ، قانوناً، أكثر هشاشة وخاضعاً لمعايير من خارج الروحية التشريعيّة الحديثة. خضوعٌ يتأثر، بطبيعة الحال، صعوداً وهبوطاً بأحوال الحركة الإسلامية. وهذا ما سيحكم مآل قضية ردّة الكاتب "محمد شيخ ولد محمّد".