أنتم على موعد مع أردن جديد، أكثر ديمقراطيةً وعصرية، فزمن قانون الصوت الواحد انتهى، والمشاركة الشعبية ستصبح في أوجها، والبرلمان ممثّل للشعب كمقدمة للسير نحو حكومات برلمانية.. هذا هو الخطاب الذي بدأت الحكومة الأردنية بالترويج له في الشهور القليلة الماضية، خطاب مبني على ما اعتبرته إنجازات في طريق الإصلاح السياسي في البلاد.
حزمة من التشريعات الموصوفة بـ "الإصلاحية" بات الانتهاء منها جميعها وشيكاً، حيث جرى إقرار قوانين جديدة للأحزاب والبلديات واستحداث قانون اللامركزية، في حين أصبح قانون الانتخاب بمراحله الأخيرة. من المفترض وفقاً للخطاب الرسمي أن تؤسس هذه التشريعات لنهج مختلف في البلاد، أكثر دمقرطة وانفتاحاً، لتذهب الأردن بعدها نحو بيئة سياسية تجعل العمل البرلماني أكثر فعالية. ستتجلى التكتلات القائمة على أساس المواقف بثلاث كتل، يمين ووسط ويسار، تسعى كل منها لوحدها أو عبر تحالفات لتشكيل الحكومات في البلاد.
قوانين مفرغة المضمون
القوانين التي جرى إقرارها حتى الآن لم تكن بحجم الضجة والترويج الإعلامي الذي قامت به الحكومة لما وصفته بالإنجازات الشريعية، فما ينطبق عليها فعلاً هو "تمخّض الجبل فولد فأراً"، حيث استطاعت الحكومة أن توهم الناس بأنها قدّمت قوانين عصرية للأحزاب واللامركزية، لكن حين يفحص مضمون هذه القوانين يتكشف أن الوضع مختلف. بالفعل أجادت الحكومة عندما حوّلت الموافقة على تشكيل الأحزاب من وصاية وزارة الداخلية إلى لجنة يرأسها أمين عام وزارة الشؤون السياسية، وبتخفيض عدد مؤسسي الأحزاب من 500 إلى 150 شخصاً، لكنّها بالمقابل أثقلتها بالعقوبات وخصوصاً المتعلقة بالتمويل الخارجي، حيث لا يسمح للحزب بقبول أي هبات أو تبرعات من خارج البلاد أو من أشخاص طبيعيين واعتباريين غير أردنيين.
ورفض مجلس النواب بتوافق حكومي أن يتم النص في تعريف الحزب على تشكيله بقصد المشاركة في الحياة السياسية وخوض جميع الانتخابات بهدف تداول تشكيل الحكومات أو المشاركة فيها، الأمر الذي يتناقض مع ما تتحدث عنه الحكومة بما يتعلق بتعزيز الحضور الحزبي تحت قبة البرلمان والوصول إلى حكومات برلمانية.
وعلى الرغم من نص القانون على أنه لا يجوز التعرض لأي مواطن أو مساءلته أو محاسبته أو المساس بحقوقه الدستورية أو القانونية بسبب انتمائه الحزبي تحت طائلة المساءلة القانونية، إلا أن الموروث التاريخي منذ زمن الأحكام العرفية التي كانت تصل فيها العقوبات تجاه الحزبيين إلى عشرات السنوات بسبب الانتماء الحزبي، يجعل الانضمام إلى الأحزاب السياسية أمراً غير معتاد في الشارع الأردني.
أما قانون اللامركزية فكان الخطاب الحكومي تجاهه يركز على أنه سيحفظ للمحافظات حقوقها في التنمية، وسيعمد إلى تفعيل الإدارة المحلية، وسيوفر الأجواء لوضع الخطط الاستراتيجية والتنفيذية وتفعيل مبدأ المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار المحلي. لكن القانون منع المجالس المحلية من التمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلالية المالية والإدارية، الأمر الذي رفضه الملك عبد الله الثاني فلم يصادق على القانون وقام بردّه لمجلس الأمة كي يصار إلى تعديله بأسرع ما يمكن.
القانون الذي يؤسس لإقامة مجالس محلية منتخبة في كل محافظة، يقابله مجلس تنفيذي من مدراء الدوائر الحكومية، لا يمنح الحق بالرقابة للمجلس المنتخب على المجلس التنفيذي المعيّن، كما يمنح سلطات كبيرة للمحافظ الذي يرأس المجلس التنفيذي، مما يضفي طابعاً أمنياً على القانون ويضعف من صفته التنموية، وإذا كان حل تلك المجالس المنتخبة بيد وزير البلديات فكيف سيعزز ذلك من صلاحيات السلطات المحلية التي بقيت رهينة للحكومة؟
الرفيق يتنفس الصعداء..لكن ليس طويلاً
وأخيراً ظهر قانون الانتخاب الذي كان وزير الشؤون السياسية والبرلمانية خالد كلالدة يخفيه منذ شهور في خزنته الخاصة بمكتب وزارته. الوزير اليساري كان خائفاً ممن يعارضون الإطاحة بقانون الصوت الواحد والنظام الانتخابي المعمول بهما حالياً، لذلك بقي القانون سرّاً حتّى لحظة إرساله لمجلس النواب للشروع بإقراره عبر المراحل التي ينص عليها الدستور. حالة من الارتياح بدت واضحة على الوزير بعد الإعلان عن القانون، خصوصاً وأنه عانى من هجمات شديدة بسبب تركه لمواقع المعارضة وانضمامه لصفوف الحكومة، الأمر الذي كان يفسّره دوماً برغبته باتّباع طريقة التغيير من الداخل بعد السنوات الطويلة التي قضاها بمحاولات التغيير من الخارج. ارتياح الوزير اليساري يأتي بسبب المديح الذي انهال على القانون الذي يعتمد نظام القائمة النسبية المفتوحة في التصويت بدلاً من الصوت الواحد، والذي يدمج الدوائر الصغيرة معاً لتصبح كل محافظة عبارة عن دائرة انتخابية واحدة، باستثناء اربد والزرقاء والعاصمة كون الكثافة السكانية فيها تفرض أن يكون في كل محافظة منها أكثر من دائرة. لكن المناقشات الأولية للقانون مع الفئات المجتمعية المختلفة توحي بأن القانون لا يحظى بتوافق عام، في حين جرى اعتباره لا يرقى الى المستوى المنشود بعد مطالبات شعبية بقانون انتخاب حضاري منذ عام 2011.
القانون وفقاً للمشاركين بالحوارات الوطنية، يسعى لتفتيت قوة ماكينة جماعة الإخوان المسلمين الانتخابية التي تعتبر الجهة السياسية الأكثر تنظيماً في الساحة الأردنية، والأكثر قدرة على حصد أصوات المقترعين والاستئثار بعدد كبير من مقاعد المجلس. كما تعيد القائمة النسبية المفتوحة قانون الصوت الواحد من الشباك بعد أن تم إخراجه من الباب، فالقوائم سيتم تشكيلها على أساس عشائري مصالحي لا أساس فكري ومواقفي، خاصة وأنه يمنع تشكيل القوائم على أساس حزبي حسب المجلس الأعلى لتفسير الدستور، فكيف ترغب الدولة الأردنية أن تطور منظومة العمل البرلماني للوصول إلى حكومات برلمانية وفقاً لتيارات سياسية على أساس حزبي إذا كانت تمنع الأحزاب من تشكيل قوائم حزبية للمشاركة بالانتخابات البرلمانية؟
ماذا عن ولي العهد
الإجراءات الحكومية التي تسير على قدم وساق وبشكل متسارع، يرافقها في مؤسسة القصر أمور أخرى، متعلقة برسم صورة جديدة ودور جديد لولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله ذي الواحد وعشرين ربيعاً، والذي تولى منصبه عام 2009.
الظهور الإعلامي المكثف للأمير بمحافل محلية وعالمية أمر غير مسبوق. فهو يرعى احتفالات عسكرية ورسمية، كما يلقي خطابات باسم الأردن في مجلس الأمن، وللأمير رايته الخاصة التي تم الإعلان عنها مؤخراً، كما جرى إقرار قانون لمؤسسة خاصة تسمى "مؤسسة ولي العهد"، ويرعى عدداً من المبادرات المتنوعة ويفتتح المشاريع الكبرى ويلتقي شخصيات عالمية كبرى.
كما أن تعديلات دستورية جرت مؤخراً جعلت تعيين قادة الجيش ودائرة المخابرات وإقالتهم وقبول استقالتهم بيد الملك بدلاً من ان تكون بيد الحكومة، الأمر الذي يعني احتفاظ القصر بأهم مؤسستين تضمنان استقراره مهما كانت الجهة المتحكمة بالجهاز التنفيذي.
الترابط بين ما يحدث في القصر وما تقوم فيه الحكومة مردّه تصريحات الملك عبد الله الثاني قبل عامين لمجلة امريكية (ذي اتلانتك) والتي ألمح فيها إلى أن الملكية الدستورية التي سيحكم فيها ابنه عندما يصبح بعمر الحكم مختلفة عن الملكية التي ورثها هو عن والده.
بين النظرية والتطبيق
ظاهرياً، تبدو المملكة أكثر توجّها نحو الدمقرطة، أكثر ميلاً للحريات والانفراج السياسي والعمل المدني الحر، ويبدو نمط الدولة مختلفاً بعدما استفاد الأردن من تجارب الدول المحيطة به حينما عاندت سلطاتها إرادة شعوبها، واستطاع أن يتخطى "الربيع العربي" عبر الإصلاحات التي جرى العمل عليها مؤخراً. لكن بين ثنايا الواقع وفي قراءة الإجراءات الرسمية، يتجلّى السعي المنهجي نحو فرض فترة جديدة من الأحكام العرفية التي خرج منها الأردن قبل 26 عاماً، والتي امتلأت فيها السجون بالمعتقلين السياسيين وقتلت الحريات، لكن بطريقة أكثر نعومة وهدوءا. الإعلام يخاف من الكتابة والانتقاد بسبب التشريعات والقوانين المسلّطة على رقبته، والأحزاب لا تكاد تتجاوز وصف "الهلام السياسي" الذي لا يؤثر في مجريات الأحداث، والحركات الشعبية في الشارع خفتت منذ سنوات، والاعتقالات السياسية مستمرة إلى اليوم، والدولة تسعى إلى الهيمنة على مؤسسات المجتمع المدني إما عبر مؤسسات تابعة لشخصيات ملكية أو عبر الرقابة على التمويل.
لا يعلم الأردنيون ما الذي قد يحدث مستقبلاً، فالأثر المباشر للقوانين المقرة ليس ملموساً حتى الآن، والوضع الإقليمي بعيدٌ كل البعد عن الاستقرار مما يجعل الجميع، معارضة وموالاة، حكومة وشعباً وقيادة، مشدودي الأعصاب في العمل الداخلي الذي قد تتغير معطياته وفقاً للظرف الخارجي الذي يلقي بظلاله دوماً على الحالة الداخلية.