أكثر من 100 ألف طالب أردني من الصفوف الثلاثة الأولى على مقاعد الدراسة لا يجيدون القراءة والكتابة. هذا ما أعلنه وزير التربية والتعليم الأردني نهاية العام الماضي، لتتضح معه أسباب انعدام الثقة بالتعليم الحكومي. وهذا ما يضع الأردنيين في خيار بين نارين: التردي العام للتعليم الحكومي أو جحيم أقساط رسوم المدارس الخاصة.
28 في المئة من سكان الأردن هي نسبة طلاب المدارس، أي بتعداد يقارب المليون والثمانمئة ألف طالب وطالبة. وأهمية التعليم إلى ازدياد بسبب الاعتماد الرئيسي على الموارد البشرية التي تُعتبر "نفط الأردن" في ظل عدم وجود روافد رئيسية أخرى قوية. لهذا تحاول العائلات تأمين الدراسة المناسبة لزيادة فرص أبنائهم بالعمل في وظائف ذات دخل، أو لتأهيلهم لمغادرة البلاد.
كما أنّه، منذ ترك الأردنيون أماكن سكنهم في أطراف البلاد وارتحلوا الى المدن، اختفت رغبتهم بالعمل في الزراعة والرعي أو الصناعة والمهن الحرفية. وسعت الأغلبية للحصول على وظيفة ثابتة سواء في القطاع العام أو الخاص، قد يكون راتبها الشهري أقلّ مما يحصل عليه من الزراعة لكنه يضمن مكانة اجتماعية مختلفة. ولهذا اشتدت المنافسة وارتفعت المتطلبات في سوق العمل خلال الأعوام الأخيرة.
بين الخاصّ والعام.. فروق كثيرة
اختلاف المشهد بين المدارس الحكومية والخاصة ظاهر حتّى عن بُعد: المباني الفارهة والضخمة و"أساطيل" النقل التي تتميز بها غالبية المدارس الخاصة، البالغ عددها 1055 مدرسة في الاردن، في حين يُسمع بين وقت وآخر عن انهيارات لمبان أو تلف في صفوف المدارس الحكومية. وكلّ ما تتمتّع به المدارس الخاصة من مرافق عامة، كالمسابح والمسارح وصالات الرياضة والملاعب الواسعة، يغيب عن المدارس الحكومية.
وفي الوقت الذي خفضت فيه مدارس "كينكز أكاديمي" (ذات المنهج الأميركي) أسوارها كي لا يشعر الطالب أنه مقيّد، رفعت مدرسة "ذكور المدبا" (التابعة لوكالة الغوث) سورها عبر تركيب سلك شائك، فبدا معه منظر المدرسة كالمعتقل، على الرغم من هدفه المرتكز على الحماية.
وتنتصر فوضى الألوان في المدارس الحكومية، حيث لا يُشترط ارتداء زيّ موحّد سوى في مدارس الإناث! بينما تُلزم المدارس الخاصة طلاّبها بأزياء محدّدة، تبيعها بأسعار قد تفوق خمسة أضعاف كلفتها، حسب الحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة "ذبحتونا".
تجارة المعرفة
تقدّر قيمة الاستثمارات في التعليم الخاص في الأردن بـ 600 مليون دينار أردني. وعلى الرغم من الرقم المرتفع إلاّ أن المدارس الخاصة تعمل على سجيّتها ومن دون أي منهج واضح. لا جهات تقيّم أداءها ولا ترتيبها دورياً وبشكل علني، ومع هذا الوضع، تقوم المدارس الخاصة برفع الرسوم المدرسية إيحاء بمستواها المرتفع، وهذا انطلاقاً من المثل الشعبي "الغالي سعره فيه"، ما يخلق اختلالاً يشجع المدارس على رفع أقساطها بعشوائية هادفة إلى تسويق خدماتها على أنها الأفضل، وتحفيز أولياء الأمر لتسجيل أولادهم فيها طلباً للتعليم الأفضل. لكن فعليّاً لا وجود لأي تقييم موضوعي محايد لمستوى المدرسة الخاصة أو أدائها. أقساط المدارس الخاصة تتراوح ما بين 500 دينار إلى 20 ألف دينار سنوياً، وهي شهدت أخيراً هجرةً بنسبة كبيرة إلى المدارس الحكومية بسبب ارتفاع الرسوم. أمّا حجتها في رفع تكاليفها، فهي إلغاء الدعم الحكومي عن المحروقات والكهرباء. ولا تنتهي الرغبة بجني المال عند رفع الأقساط المدرسية، بل تمتدّ إلى رسوم النشاطات اللامنهجية وأسعار الكتب، ومقصف المدرسة الذي هو أيضاً تجارة مركبة على تجارة التعليم في المدارس الخاصة.
ربح لا يخلو من الانتهاكات
يصل جشع المدارس الخاصّة إلى الانتهاكات بحق المعلمين، خاصةً الإناث منهم، حيث تضطر بعضهنّ إلى العمل براتب دون الحدّ الأدنى للأجور البالغ 190 دينارا، بل يصل ما تتقاضاه في بعض الحالات إلى نصف هذا المبلغ.
وانتقد المركز الوطني لحقوق الإنسان في تقرير أصدره نهاية العام الماضي انتهاكات متعددة، منها الحرمان من العطل والإجازات المرضية، والعمل الإضافي. وأضاف التقرير قيام بعض المدارس الخاصّة باقتطاع رسوم شركات الضمان الاجتماعي كاملة من راتب الأستاذ. هذا عدا تأخير إشراكهم في الضمان بعد مباشرتهم العمل، أو عدم إدخالهم في أي تأمين صحي. وتشمل الانتهاكات لجوء بعض المدارس الخاصة إلى دفع رواتب عشرة شهور في السنة فقط، وهذا يعدّ مخالفة صريحة لعقد العمل الموحّد الخاص بعمل معلمي المدارس الخاصة.
كما تخالف شروط الترخيص المتعلقة بأعداد الطلبة من دون الالتزام بالسعة المقرّرة، لهذا أنذرت دائرة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم ما يزيد على أربعين مدرسة خاصة، خلال شهر حزيران/يونيو الجاري، بسبب هذه المخالفات.
غياب الرقابة الحكومية
يعتبر منتقدو نهج الخصخصة أن الدولة انسحبت من القطاعات الأساسية اجتماعياً، وسلمت المهمة للقطاع الخاص الباحث عن الربح، وأن قطاع التعليم في الأردن تحول من قطاع رعاية إلى قطاع استثمار ربحي، ومن قطاع استثمار إنتاجي إلى قطاع استهلاكي. كما يرون أن هجر الدولة لقطاع التعليم زعزع وضع المعلمين، فانتقلوا من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة. أمّا مَن لاذ منهم بالفرار إلى مؤسسات التعليم الخاص، فانتقلوا إلى الطبقة الوسطى المهددة على الدوام والمتأرجحة صعوداً وهبوطاً بين الطبقتين المسماتين "البرجوازية الصغرى" و"الفقيرة".
وتجلّى غياب الرقابة الحكومية عن المدارس الخاصة بعد تسجيل خمس وفيات تسبّب بها الإهمال، إحداها لطفلة (لم تتجاوز السبع سنوات) قضت في مسبح إحدى مدارس عمّان منتصف شهر نيسان/ابريل من العام الجاري، ليتبيّن أن المسبح غير مطابق للمواصفات كما أنه غير مرخص أصلاً، وأخرى لطفلة قضت تحت عجلات باص مدرستها منتصف شهر أيار/مايو الفائت.
"أدلجة" التعليم بحروف طائفية
تعمد بعض التيارات السياسية والدينية إلى اعتماد القطاع التعليمي باباً للسيطرة على عقول الطلاب، عبر إدارتها للمدارس خاصة، التي يسهل فيها بثّ النهج والأيديولوجيا، وذلك عبر التأثير المباشر من المعلمين أو بواسطة النشاطات اللامنهجية. جماعة الإخوان المسلمين مثلاً تمتلك بصورة غير مباشرة مدارس عدَّة. كما تعمد كل طائفة مسيحية إلى فتح مدرستها الخاصة التي تحمل اسمها بشكل صريح كمدارس الروم الأرثوذكس أو دير اللاتين.
الطعن بالتعليم الحكومي
تلقّى التعليم الحكومي ضربة قاسية عندما تم الترويج لفكرة مفادها انه غير قادر على إنتاج الجيل اللازم، ولا يعطي العلم المطلوب، وان فشل القطاع العام وترهله ينسحب عليه. وبدأت أصوات من وزارة التربية والتعليم نفسها تشتكي في الآونة الأخيرة من تفاقم أزمة التعليم، بسبب اللجوء السوري الذي زاد من الأعباء على المدارس الحكومية بشكل كبير، فاق الطاقة الاستيعابية لها. إلا أن نتائج امتحانات الثانوية العامة الأخيرة أثبتت عكس ذلك، حيث حصل على المراكز الأولى في جميع القطاعات أبناء المحافظات من مرتادي المدارس الحكومية، على الرغم من وجود شكاوى دائمة من ضعف التعليم في مدارس المحافظات والأطراف.