عجّت وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية، كما الإعلام، بالأخبار عن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) منذ إعلان أبو بكر البغدادي في شهر نيسان/ أبريل من العام 2013 عن تشكيل التنظيم الجديد، وما استتبع ذلك من قتال بينه وبين جبهة النصرة وباقي فصائل المعارضة في سوريا. وبلغ الحيّز الإعلامي المعطى لـ"داعش" ذروته مع إعلان تنصيب البغدادي أميراً للمؤمنين، وما تبعه من ظهوره لأول مرة في فيديو مصور وهو يلقي خطبة الجمعة في أكبر مسجد في مدينه الموصل العراقية.
القوة على الارض وفي الاعلام يثير الحيز الإعلامي الكبير التساؤل عن مدى قوة "داعش" الفعلية، بمعنى مقدار التناسق بين قوة التنظيم على أرض الواقع وقوته في الإعلام. قد تعطي المواجهات العسكرية التي وقعت بين "داعش" والفصائل المسلحة المختلفة في سوريا في كانون الثاني/ يناير الماضي مؤشراً عن مدى قوة هذا التنظيم الفعلية. فقد استطاعت عدة فصائل من المعارضة طرده من عدد من المناطق السورية وحصرت نفوذه في الرقة بالدرجة الاولى، وفي مدة زمنية سريعة نسبياً. وبدد ذلك المزاعم عن قوة التنظيم وتصدّره للفصائل المقاتلة للنظام السوري.
فشخصيات سياسية تدعي قيادة الحراك العراقي تنفي قيادة "داعش"، بل تسعى الى تقزيم حجمه وإدانته مثلما ورد على لسان الشيخ علي الحاتم، أمير عشائر الدليم، الذي يعزو بدوره الانتصارات العسكرية التي حصلت لثوار العشائر العراقية وضباط الجيش العراقي القديم وغيرهم.
لماذا الانتماء لداعش ما هي الظروف التي تدفع بالشباب للانتماء لتنظيمات جهادية سلفية كـ"داعش" وغيرها؟ يحاجج البعض بأن هذه التنظيمات ليست سوى امتداد لأفكار وتوجهات قديمة تنبع من عمق الإسلام نفسه. ففي رد له على سؤال حول" داعش" وجبهة النصرة، أجاب الدكتور صالح السحيمي، أحد رموز التيار السلفي في المملكة، بأن هذين التنظيمين يعدّان خوارج عن الأمة الإسلامية، من دون الأخذ بالاعتبار أن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد ساهمت في تشكل فكرهما. بينما يرى الليبراليون أن الفكر التكفيري هو نتيجة متوقعة لتعاليم التيارات الإسلامية وتشددها. فكتب الدكتور تركي الحمد، الكاتب الليبرالي السعودي، أن هذين التنظيمين أصبحا ملاذاً للمحبطين واليائسين والعاطلين عن العمل، ليعود ويهاجم الإسلاميين على إنتاج الفكر التكفيري مرة تلو الأخرى، ويختم بعد ذلك بإلاشادة بقمع النظام السعودي لهذه التنظيمات قبل سنوات. ولكن الحمد لم يسأل نفسه عن سبب وجود شباب قادهم يأسهم وإحباطهم إلى تسليم أرواحهم للبغدادي وغيره.
ومن يأخذ تجربة المملكة السعودية مع الفكر التكفيري كمثال، يلاحظ ارتباطه بالقمع وبإلغاء مظاهر الحياة السياسية. وقد أشار إلى ذلك شخصيات بارزة من التيار الإسلامي السعودي نفسه، كعبد الله الحامد وسليمان الرشودي وغيرهم. وهما يوضحان أن منع إنشاء الأحزاب السياسية والتظاهر السلمي وكل ما يتيح للشباب المشاركة في الحياة العامة والسياسية، وطرح أفكارهم وحتى التغيير بالطرق السلمية، يدفعهم إلى حمل السلاح والالتحاق بالتنظيمات التكفيرية. استخدم النظام السعودي الوسائل العنفية مع التكفيريين واستطاع أن يقتل ويعتقل نسبة كبيرة منهم، ثم حاول احتواءهم عن طريق لجان المناصحة وتوظيف من أعلن التوبة لدمجه في المجتمع من جديد. ولكن، وعلى الصعيد السياسي، لم يخلق النظام أي وسيلة تتيح للشباب المشاركة في صنع القرار. وهكذا فهم بقوا يشكلون خزاناً بشرياً مغرياً للتنظيمات الجهادية.
أدى توغل تنظيم "داعش" وأمثاله في الانتفاضات العربية إلى تغير في مساراتها. واستغلت الأنظمة العربية ذلك لتخفيف الضغط الغربي عنها، والاستفادة من الدعم الدولي عبر تقديم نفسها كشريكة في "الحرب على الإرهاب". كما أن المجازر التي ارتكبها تنظيم "داعش" ساهمت بإظهار الأنظمة كمخلّصين أو في أسوأ الحالات كبدلاء أقل خطراً. كل ذلك يأتي على حساب الأهداف التي انطلقت من أجلها الانتفاضات والثورات العربية. وبعد أن كانت الأولوية لشعارات "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية"، أصبحت الأولوية الآن الحرب على الإرهاب.