يرتبط استهلاك المياه في قطاع غزة بنمو السكان، وما يطرأ من تغييرات على خصائصهم الاجتماعية والاقتصادية، إذ تَعرّض معدل النمو السكاني منذ نكبة فلسطين عام 1948 لارتفاع مطرد، وانعكس ذلك في مؤشرات الاعتماد على مخزون المياه الجوفية كمصدر وحيد لتغطية احتياجات سكان القطاع المدنية والتشغيلية من المياه.
وقد لعبت القرصنة الإسرائيلية لمياه الحوض الساحلي الجوفي، وهو حوض يقع الجزء الأكبر منه أسفل القطاع، في تكوين أقبح الصور التي أنتجها إنشاء دولة الاحتلال، من خلال نهب حصة القطاع من المياه الجوفية والسطحية، على مدار عشرات السنين.
احتلال مائي
السرقة الإسرائيلية للمياه في الأرض الفلسطينية تتشابه إلى حد كبير مع النظرية الصهيونية في الإنشاء: إذا ما أردنا أن نبني بيتاً جديداً، فلنهدم البيت القديم أولاً. وكانت كذلك متسقةً مع سياسات السلطات الإسرائيلية، وقوانينها التي فرضتها بالقوة منذ قيام الدولة الإسرائيلية، وإلى ما بعد هزيمة عام 1967، والسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، والتحكم بمفاصل حصول الفلسطينيين على المياه، من حيث الكم والكيف، في سياسة تمييز عنصري واضحة. يبلغ استهلاك الفرد الإسرائيلي نحو 300 لتر يومياً، فيما يستهلك الفلسطيني نحو 80 لتراً. يتم ذلك بموجب الأمر العسكري رقم 158 في تشرين أول/ أكتوبر 1967، والذي قضى بوضع جميع الآبار والينابيع ومشاريع المياه تحت السلطة المباشرة للحاكم العسكري الإسرائيلي.
يوجد ثلاث محطات لتحلية مياه البحر في قطاع غزة، وهي تعمل بنصف طاقتها بسبب النقص في الطاقة الكهربائية، وتنتج 4 ملايين متر مكعب سنوياً. يبلغ ثمن المياه المحلاة عشرين ضعفاً مقارنةً بثمن المياه المستخرجة من الخزان الجوفي، وهذا خارج نطاق القدرة الشرائية لغالبية سكان القطاع، حيث ترتفع معدلات الفقر والبطالة.
كل ما سبق شكّل ضغطاً كبيراً على موارد المياه المحدودة في غزة، وارتفاع العجز السنوي، وتلويث ذلك المخزون للحد الذي بات من غير الممكن استخدامه آدمياً نتيجة ارتفاع نسبة الملوحة، ورداءة خصائصه النوعية.
حقوق مسلوبة
يدفع ثمنَ ذلك، من بين ضحايا الاحتلال المائي لفلسطين، مليونا إنسان يعيشون في قطاع غزة المحاصر منذ حزيران/ يونيو 2007. وقبل تفكيك مستوطناتها وانسحابها من القطاع عام 2005، كانت إسرائيل قد أنهكت الموارد المائية المستديمة، بجانب عملها على حرمان الخزان الجوفي للقطاع من حصته المستحقة بالانسياب الطبيعي لمياه الأمطار والوديان من جبال الخليل ومن النقب الغربي، ومن الينابيع الموسمية التي غيرت مساراتها ووضعت السدود في طريقها، كما هو حاصلٌ الآن في وادي غزة، إلى جانب حفر الآبار الاسترجاعية بأعماق تتراوح بين 400 و600 متر، على تخوم القطاع، واستنزاف الخزان الجوفي عن بعد، حيث كان بداخل المستوطنات نحو 43 بئراً لضخ المياه لصالح المشاريع الزراعية الإسرائيلية فيها، و26 بئراً على طول خط الهدنة الفاصل بين محافظات غزة وإسرائيل، مما يؤثر على الكميات المنسابة داخل الخزان الجوفي من شرقي القطاع.
أُكلنا يوم أُكل الماعز الأسود
16-04-2014
يعتمد التركيب الكيميائي لمياه الآبار على التساقط، والمياه المترسبة في الخزان الجوفي والصخور، وعلى سرعة جريان هذه المياه في الطبقة الحاملة للمياه، وهو ما يحدد الأغراض التي تستعمل فيها المياه. فمعرفة الخواص الكيميائية لمياه الآبار، وما يطرأ عليها من تغيرات ناجمة عن استعمال المياه، وتذبذب مصادر التغذية المائية من شأنها أن توضح أفضل وجه لاستخدام المياه.
تقدر الطاقة الإنتاجية لحوض المياه الساحلي الممتد على طول الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط غرباً وحتى قطاع غزة، بحوالي 578 مليون متر مكعب سنوياً، ويمثل المصدر الوحيد للمياه المستخدمة لمختلف الأغراض في قطاع غزة. ويستهلك القطاع ما يقارب 18 في المئة من مياه هذا الحوض، بينما تستهلك إسرائيل ما تبقّى بنسبة 82 في المئة من مياهه.
كان بداخل المستوطنات المقامة في قطاع غزة نحو 43 بئراً لضخ المياه لصالح المشاريع الزراعية الإسرائيلية فيها، و26 بئراً على طول خط الهدنة الفاصل بين محافظات غزة وإسرائيل، مما يؤثر على الكميات المنسابة داخل الخزان الجوفي من شرقي القطاع.
تم تخفيض العائد السنوي الآمن لقسم غزة من حوض المياه الساحلي بمقدار 55 مليون متر مكعب، بعد أن حالت الخطط الإسرائيلية دون تدفق مياه الأمطار القادمة من وادي غزة، والذي كان يتدفق من الجهة الغربية لمدينة الخليل. كما أدى الإفراط الإسرائيلي في ضخ المياه من حوض المياه الجوفية الساحلي لمناطق أبعد من غزة واستهلاك 10 مليون متر مكعب سنوياً من المياه المخصصة للمستوطنين قبل تنفيذ خطة "الانسحاب" الإسرائيلية عام 2005، إلى خلق مشكلة حادة في نوعية المياه.
يرى منذر شبلاق، مدير عام مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة، أن ما تقوم به إسرائيل يعد خرقاً للتفاهمات الدولية التي تمنع دولة الاحتلال من استغلال مياه الأرض المحتلة، ويؤكد أن الكمية التي يجري الحديث عنها، وتحجزها إسرائيل ضمن المياه السطحية (مياه وادي غزة) تقدر بعشرة إلى 15 مليون متر كعب سنوياً، وهي من أنقى وأجود المياه.
الضخ الجائر: تصحيح الخطأ بالخطأ
بعد تحرره من القيود الإسرائيلية، ما زال الضخ الجائر للمياه الجوفية الذي بدأته إسرائيل في القطاع مستمراً على أيدي أهالي القطاع أنفسهم ، وهو أدى لنضوب مخزون المياه إلى ما دون 19 متراً تحت مستوى سطح البحر، كما أدى إلى تداخل مياه البحر، وترشح مياه الصرف الصحي غير المعالج إلى الخزان الجوفي. ففي عام 2019 وحده، بلغت كمية المياه المستخرجة من "الحوض الساحلي" في القطاع 187.6 مليون متر مكعب، لسد النسبة الأكبر من احتياجات القطاع في الاستخدام البشري والزراعة والصناعة، وذلك في مخالفة لما لا يجب تجاوزه، وهو عند 50-60 مليون متر مكعب في السنة، وفقاً لمعايير الصحة العامة العالمية.
تقدر الطاقة الإنتاجية لحوض المياه الساحلي الممتد على طول الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط غرباً وحتى قطاع غزة، بحوالي 578 مليون متر مكعب سنوياً، ويمثل المصدر الوحيد للمياه المستخدمة لمختلف الأغراض في قطاع غزة. ويستهلك القطاع ما يقارب 18 في المئة من مياه هذا الحوض، بينما تستهلك إسرائيل ما تبقّى بنسبة 82 في المئة من مياهه.
عدد الآبار الجوفية في قطاع غزة تجاوز أكثر من 10 آلاف بئر ماء، 2700 منها فقط ما حصل على ترخيص حكومي، والبقية جرى حفرها بشكل عشوائي. محاولات منع ذلك متكررة، إلا أنها تبوء بالفشل، نتيجة التحايل والالتفاف على الرقابة الرسمية، إلى جانب ضعف الكادر الرقابي لدى الأجهزة الحكومية المناط بها ذلك.
النتيجة هي كما يوضّح القائم بأعمال سلطة المياه في غزة، مازن البنا، من أن الإحصائيات الحالية لمقدرات المياه تبين أن ما نسبته 97 في المئة من المياه في قطاع غزة غير صالحة للاستهلاك البشري وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية، وأن 95 في المئة من سكان القطاع البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة تقريباً لا يحصلون على مياه مأمونة.
ليس الضخ الجائر وحده المسؤول عن تلويث الخزان الجوفي تحت أرض غزة، وإنما تسرب مياه الصرف الصحي إلى الخزان، نتيجةً لعدم وجود بنية تحتية كافية، ولتدمير المرافق الموجودة بفعل العمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة والمتكررة ضد القطاع (مع نهاية عام 2015 كان في قطاع غزة نحو 100 ألف شخص ما زالوا غير موصولين بشبكة المياه العموميّة)، كما أن الاستخدام المفرط للأسمدة النيتروجينية للأغراض الزراعية، وخاصةً في المناطق التي تمتاز بتربة عالية النفاذية، وأيضاً ارتفاع نسبة الفاقد من المياه في شبكات المياه في معظم مناطق القطاع بسبب التسرب من الشبكات والوصلات غير القانونية، يعتبر نمطاً من أنماط التلويث.
عدد الآبار الجوفية في قطاع غزة أكثر من 10 آلاف بئر ماء، 2700 منها فقط ما حصل على ترخيص حكومي، والبقية جرى حفرها بشكل عشوائي. محاولات منع ذلك متكررة، إلا أنها تبوء بالفشل...
تتجاوز مستويات الكلور والنترات في المياه المستخرجة في معظم المناطق نسبةً تصل إلى ثمانية أضعاف المستويات التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية لمياه الشرب.
تتم معالجة المياه في قطاع غزة بإضافة نسبة من الكلور الحر في مياه الشرب للقضاء على البكتيريا التي تسبب أمراضاً للإنسان، في حين لا تتوافر شبكات مجاري للصرف الصحي في جميع مناطق القطاع، حيث تعتمد مدن وقرى قطاع غزة على نظام الحِفَر الامتصاصية وشبكات الصرف المائي المفتوحة، والتخلص من النفايات والمخلفات بنقلها إلى مناطق بعيدة نسبياً عن المناطق المأهولة بالسكان ووضعها إما على سطح التربة، معرضةً للهواء والرطوبة مما يساعد على تحللها عضوياً، أو دفنها في التربة في مناطق رطبة، مثل منطقة وادي غزة، مما يعرضها للتحلل العضوي. وتوقع تقرير للأمم المتحدة صدر في عام 2012 أن يزداد الطلب على المياه في غزة بنسبة 60 في المئة في عام 2020، في حين أن الأضرار التي لحقت بطبقة المياه الجوفية قد يستحيل إصلاحها.
النقص في مواد البناء وقطع الغيار أدى أيضاً إلى تفاقم ظاهرة فقدان المياه من شبكة التزويد في القطاع. قبل بدء الحصار، وصلت نسبة فاقد المياه إلى 30 في المئة من مجموع المياه التي يتم توفيرها للمستهلكين، ويحصل ذلك عادةً بسبب الدلف من أنابيب الشبكة. لكن في العام 2009 وصلت نسبة الفاقد، طبقاً لمعطيات مصلحة مياه بلديات الساحل، إلى 47 في المئة من المياه التي يتم توفيرها لهم.
تفرض إسرائيل منعاً صارماً على الواردات ضمن المواد المصنفة كمواد "مزدوجة الاستخدام" بذريعة استخدامها للتصنيع العسكري من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية. وتم الاتفاق على آلية مراقبة وإنشاء قناة اتصال رسمية مع وزارة الجيش الإسرائيلية لضمان وصول المواد بانتظام، إلا أن ذلك يرتبط بمزاج تلك الوزارة وحالة الهدوء الميدانية. فبعد العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/ مايو 2021، منع جيش الاحتلال إدخال مادة "مانع التكلّس" المطلوبة لتشغيل محطات التحلية التي يستفيد منها نحو 400 ألف إنسان في غزة.
حلول ترقيعية
يوجد ثلاث محطات لتحلية مياه البحر في قطاع غزة، بطاقة إجمالية تصل لحوالي 22 ألف متر مكعب يومياً. وهي تعمل بنصف طاقتها بسبب النقص في الطاقة الكهربائية، بحسب معلومات سلطة المياه في غزة، وتنتج 4 ملايين متر مكعب سنوياً.
تلوث بحر غزّة... أصل الحكاية
18-06-2019
كفن البحر الميّت
24-02-2017
وكانت إسرائيل قد روّجت لـ"الحل التقني" باعتباره الخلاص بالنسبة للأزمة المركبة للمياه في قطاع غزة، من خلال إنشاء مشاريع محطات تحلية المياه، وذلك عوضاً عن عدالة التوزيع. وبالطبع ذلك مجرد ترويج. ويتكفل بتمويل تلك المشاريع، الأمم المتحدة والمانحون، ولكنهم يساهمون فقط بإنشاء المحطات ذات الإنتاجية القليلة بالمقارنة مع الاحتياجات المطلوبة، دون التكفل بتكلفة التشغيل والصيانة وضمان إمدادها بالطاقة اللازمة للتشغيل. هذا من جانب، ومن جانب آخر، يبلغ ثمن المياه المحلاة عشرين ضعفاً مقارنةً بثمن المياه المستخرجة من الخزان الجوفي، وهذا خارج نطاق القدرة الشرائية لغالبية سكان القطاع، حيث ترتفع معدلات الفقر والبطالة.
تواطؤ المجتمع الدولي في تأبيد نظام الفصل العنصري المائي تتم ممارسته في مشاريع تدعي خدمة الفلسطينيين. بحسب رأي عبد الرحمن التميمي، مدير عام جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين لتطوير مصادر المياه والبيئة، فإن مشروع تحلية مياه البحر لمواجهة أزمة المياه في قطاع غزة، والذي يموله الاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي للاستثمار وبنك التطوير الإسلامي والبنك الدولي، "يعمل على تكريس وتعميق الفصل الذي فرضه كيان الاحتلال الإسرائيلي بين الضفة الغربية وقطاع غزة".
ليس الضخ الجائر وحده المسؤول عن تلويث الخزان الجوفي تحت أرض غزة، وإنما تسرب مياه الصرف الصحي، نتيجةً لعدم وجود بنية تحتية كافية، ولتدمير المرافق الموجودة بفعل العمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة والمتكررة ضد القطاع، كما الاستخدام المفرط للأسمدة النيتروجينية للأغراض الزراعية
"إسرائيل هي الرابح الوحيد من مشروع التحلية، وذلك لأن تحلية مياه البحر بحاجة إلى كميات هائلة من الطاقة، وبالتالي سيضطر الفلسطينيون في القطاع إلى شراء تلك الطاقة من اسرائيل، والداعمين لهذا المشروع يساعدون الاحتلال على ترسيخ سياسة الفصل العنصري المائي، وإحكام سيطرته على قطاع غزة".
تزويد قطاع غزة بحصته المائية المستحقة من الحوض الساحلي، أو التعويض من نهر الأردن، بمعدل 200 مليون متر مكعب سنوياً كحد أدنى، سيؤدي إلى حل أزمة المياه في غزة. تلك فكرة تدير إسرائيل الظهر لها كما ترفض الحديث فيها. على الرغم من أن الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، تقر بالحقوق المائية الفلسطينية، إلا أن الوضوح في نصوص المواد ذات العلاقة من الاتفاقية غاب عنها، وما زالت الممارسات الفلسطينية تجاه الاستفادة من الموارد المائية رهينة الموافقة الإسرائيلية في جميع مناطق نفوذ السلطة الفلسطينية المدنية والأمنية.
يضيف التميمي أيضاً أن كيان الاحتلال الإسرائيلي هو الرابح الوحيد من مشروع التحلية، وذلك لأن تحلية مياه البحر بحاجة إلى كميات هائلة من الطاقة التي يملكها الاحتلال، وبالتالي سيضطر الفلسطينيون في القطاع إلى شراء تلك الطاقة منه، ويؤكد أن الداعمين لهذا المشروع يساعدون الاحتلال على ترسيخ سياسة الفصل العنصري المائي، وإحكام سيطرته على قطاع غزة. فإذا كانت الدول الغربية تريد حقاً مساعدة أهالي القطاع لسد نقص المياه، عليها أن تضغط على إسرائيل للسماح لمياه الضفة الغربية بالوصول إلى قطاع غزة، والتي بالطبع تفي بحاجتهم.