تجد الطائفية في المجتمع السعودي أرضاً خصبة وعوامل كثيرة لانتشارها. فالطائفة قبيلة كبيرة بمعنى من المعاني، بل أصبح الصراع المذهبي يشبه الثارات بين "قبيلة" السنة و"قبيلة" الشيعة.. وما يزيد الطين بلة هي المواقف المعارضة للسياسات الحكومية المحفزة للطائفية من قبل المثقفين وقادة الرأي السعودي. فهم لا يدعون لتغيير آليات تنظيم المجتمع، بل يسلمون بالوضع القائم ويدعون إلى تثبيته عن طريق "الدعوة الى التعايش!". لعل ابرز مثال على ذلك هو ما قاله الناشط الإسلامي عبد المحسن العواجي بعد حادثة الدالوة في البرنامج التلفزيوني"حراك". يرى العواجي أن على الشيعة إدراك نسبتهم الصغيرة في المجتمع، وألا يفرضوا على الأكثرية رأيهم. فبالنسبة إليه، الأكثرية وألاقلية تحددهما أعداد المعتنقين للمذهب. هذا لا يدور في خاطر العواجي وحده بل هو رأي عام منتشر.
والقصة انه في مطلع الشهر الماضي، وفي اليوم الموافق لعاشوراء، خرجت مسيرة حسينية بقرية الدالوه الصغيرة في محافظه الإحساء شرق السعودية، هاجمها مسلحون وراح ضحية الهجوم ستة مواطنين اغلبهم أطفال وجُرح ما يقارب الثلاثين. ردت القوى الأمنية على الهجوم بسرعة وكفاءة عالية واعتقلت ما يقارب العشرين شخصا. أتت رده الفعل الشعبية والرسمية مُدينة ورافضة لما حصل.. وكأن لسان الحال يقول نعم للطائفية فكرا وليس ممارسة! فالحادثة هي الأولى من نوعها في المجتمع السعودي، وما يشاهده المواطنون من اقتتال طائفي في سوريا والعراق بدأ يطل عليهم برأسه من شاشات التلفزة وأصبح واقعاً ملموسا في شوارعهم.غذت الدماء التي سالت وحدة وطنية دامت لعده ساعات، قبل أن ينقشع الغبار عن الحقد الطائفي من جديد. وهذا النص لا يتناول الجوانب الفكرية والثقافية للطائفية في السعودية، بل بعض من السياسات الرسمية الداعمة لها.
تحرك وزير الإعلام السعودي عبد العزيز خوجة بعد الحادثة مباشره واصدر أمراً بإقفال قناة "وصال" وهي إحدى القنوات الطائفية بامتياز وتبث من داخل المملكة. لم تنقض اثنا عشر ساعة حتى أصبح خوجة "الوزير السابق" بعد إعفائه من منصبه بمرسوم ملكي. وبالطبع عادت وصال للبث من جديد. ويكفي لمعرفة قناة وصال ومن على شاكلتها ما صرح به مذيعها الشهير خالد الغامدي حينما هدد أهل العوامية في برنامجه بحشد القبائل والزحف للقطيف.. لولا أن قرار ولي الأمر يمنعه من ذلك.
الإصرار على دعم قنوات الفتنة لا بنبع من موقف طائفي تجاه الشيعة ولا من خلاف حول اجتهادات فقهية مذهبية، بل من قناعة رسختها التجربة وهي انه كلما زادت حدت الهجوم على الطائفة الشيعية كلما اتخذ الحراك المطلبي في القطيف صفة الحراك الشيعي كردة فعل طبيعية. وهذا بيت القصيد. فاكتساب الحراك المطلبي في المناطق الشيعية صفه مذهبية يمثل دعاية فاعلة بأقل التكاليف لتعزيز رواية التغلغل الإيراني في الدول العربية، وذلك ما يعزز الاصطفاف حول السلطة و يبعد التركيز عن مشاكل الإصلاح والبطالة والتنمية وغيرها لصالح الوحدة خلف القيادة في وجه "الخطر الإيراني". وحتى الاعتداءات الأخيرة على المسجد الأقصى لم تستطع أن تسحب البساط من التأزم الطائفي. وليست القنوات الفضائية الطائفية الأدوات الوحيدة في المعزوفة الطائفية، بل تشاركها بعض منابر المساجد، والمحاضرات، ودور النشر، فيما تلعب السلطة دور المايسترو وتجيد رفع الإيقاع وخفضه كما تريد.
ويأتي القضاء أحيانا كُثر مكمل للسياسات الإعلامية في التحشيد الطائفي. فبعد الحادثه بيومين، صدر حكم يقضي بالحبس سنتين ومئتي جلدة على الناشط الحقوقي المعرف مخلف بن دهام الشمري. تهمة الشمري هي "مجالسة الشيعة" و"الصلاة في مسجد شيعي" حسب ما نص عليه قرار قضائي صادر عن المحكمة الجزائية في الخُبر. وهكذا وبدلا من سن قانون يجرم الطائفية ويعاقب عليها، يحدث العكس تماما فيجرم التلاحم الوطني ومظاهر الوحدة.
لم يعد هناك وقت لاحتواء الطائفية عن طريق العمل على بناء هوية جامعه للسعوديين تكون الأرض المشتركة للالتقاء بين أبناء الوطن. فذلك يتطلب سنين طويلة من العمل ويحتاج إلى مقرات تعليم ودعاية هائلة وكثير من الوسائل، في حين أن خطر الاقتتال الطائفي بدأ يطل برأسه، وهو اخطر في السعودية من غيرها لأنه على أرضه وبين جمهوره ويملك كل مقومات الانفلات. فلا يغرن احد أن الكلام عن الحادثة بدأ يقل وإنها أصبحت من الماضي. فالانفلات لا يحتاج إلا لحادثة أخرى أو عمليه انتقام في تجمع سني مثلا لتشتعل نار لا تخمد.
الحل المنطقي على المدى القصير هو سن قانون عاجل يقضي بتجريم الطائفية ووضع عقوبات قاسية على من يساهم في التجييش المذهبي.. أما على صعيد الحراك الشيعي، فلا بد ان يندمج قادته في حركات وطنية تطالب بحقوق المواطنين وليس "حقوق الأقلية" التي أصبحت المطالبة باسمها جزء من دعاية ضد جميع المواطنين!
أما الجزء الأهم في الخلاص من المشكلة فهو الانتقال من العالم الافتراضي على الانترنت إلى الشارع. ومن ثقافة الاستجداء والاستعطاف للمسئول إلى الثقافة الحقوقية وثقافة المواجهة. والاعتصام والعصيان هو ما يُسمع وليست مئة وأربعون حرفاً على تويتر. هذا طريق لابد منه، وإن أوجع سالكيه، إلا أن الثمن بدونه لا يحتمل. وإلا فعلينا أن نتحمل المسؤولية: نحن في انتظار المجزرة المقبلة.