لو قصدتَ شارع جمال عبد الناصر في وسط صنعاء، بعد السابعة مساء، فلن تصدّق ما تراه عيناك. لوهلة ظننت أنني أخطأت المكان. شارع جمال عبد الناصر يعادل شارع طلعت حرب في القاهرة، والحمراء في بيروت، والحبيب بورقيبه في تونس. لكنه في هذه الأيام، ومنذ بدء غارات تحالف "عاصفة الحزم" على اليمن قبل أسابيع، بات أكثر سكوناً وكآبة من مقبرة، وأشبه ما يكون بمنطقة مهجورة. جميع المحلات التجارية مقفلة على طول الشارع. لا وجود للباعة المتجولين الذين يعرضون عادة بضائعهم على الرصيف. وحدها بضائعهم في الشارع تنتظر عودة الحياة إلى طبيعتها وقد ودّعها أصحابها مؤقتاً، وتركوها من دون حراسة، ملفوفة بأغطية بلاستيكية ومحزومة بشكل جيّد بالحبال، في مشهد لا سابق له.
لكن تلك الصورة ليست كاملة. أو على الأقل هي ترى المشهد من زاوية واحدة فحسب. على مسافة ليست ببعيدة (أكثر قليلا من كيلومتر) تبدو الحياة شبه اعتيادية في ميدان التحرير وشارع علي عبد المغني وحي المطاعم والعدل. تبدو الحياة شبه اعتيادية في العديد من مناطق وأحياء العاصمة صنعاء وسائر المدن والمحافظات التي شملتها غارات تحالف "عاصفة الحزم"، وبالمجمل، فمظاهر الخوف من الحرب تقلّ، ويمارس السكان حياتهم بشكل روتيني في معظم الأحياء البعيدة عن محيط ثكنات الجيش، أو المقرات الأمنية، أو المؤسسات الحكومية، وتجمعات الحوثيين ومقارهم. يفسّر حالة الهلع السائدة في شارع جمال عبد الناصر وجود القصر الجمهوري وخشية المواطنين من استهدافه بغارة جوية، خاصة أنه استخدم لأسابيع عديدة كمقر لاجتماعات أعضاء اللجنة الثورية، التي شكلتها في وقت سابق جماعة الحوثي (أنصار الله)، إثر ما وصفوه بـ "الإعلان الدستوري". هناك احتمال أن تكون جماعة الحوثي هي من طلبت من الباعة إخلاء الشارع، حيث سبق أن طلبت من الأهالي إخلاء مساكنهم، عبر عُقّال الحارات (المختار) أو عبر توزيع منشورات تحذيرية في العديد من الأحياء كحي الأصبحي مثلاً الكائن في محيط دار الرئاسة وجبل النهدين الذي تتمركز فيه ألوية الحماية الرئاسية والقوات الخاصة.
ذعر في صنعاء..
وحرب شوارع في عدن
توقفت الدراسة في كل المدارس والجامعات ومعاهد اللغة والحاسوب، ومعظم موظفي القطاع الحكومي انقطعوا عن العمل. العديد من المصانع والمنشآت التجارية توقفت عن الإنتاج، في حين نزح عشرات الآلاف من سكان العاصمة نحو قراهم بعيداً عن القصف. ويقضي سكّان صنعاء، أو من تبقى منهم، الليل كله في رعب شديد جراء القصف المكثف لطيران التحالف ودوي الدفاعات الأرضية، وما تتسببان به من ارتجاجات وتهشم لزجاج النوافذ في العديد من أحياء العاصمة.
بالمقابل، يبدو الموقف أكثر كارثية في المحافظات الجنوبية، وبخاصة في مدينة عدن مقارنة بصنعاء. حيث تعيش المدينة أوضاعاً إنسانية وأمنية صعبة وخطرة نتيجة القصف العشوائي، وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى جراء حرب الشوارع الدائرة بضراوة في أحيائها المكتظة بالسكان، ما بين أبناء المدينة ورجال القبائل، ومسلحي الحوثيين، الذين تقدموا عسكرياً نحو عدن قبل نحو شهر، تساندهم وحدات عسكرية موالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح.
المصائب لا تأتي فرادى
يمنيو الخارج ليسوا بأقل سوء حال ممن هم في الداخل. بحسب تقديرات منظمات حقوقية، فإن أكثر من خمسة آلاف يمني عالقون في العديد من المطارات حول العالم جراء توقيف خطوط الملاحة الجوية والبحرية والبرية من وإلى اليمن كلياً من قبل دول تحالف "عاصفة الحزم". لا يسمح لهم بالدخول إلى البلدان التي كانوا فيها لانتهاء الإقامة أو التأشيرة، بلا بديل ولو مؤقت، وبلا تأمين لممر جوي آمن على نحو ما قامت به عند إجلاء ونقل العديد من الجاليات والبعثات الديبلوماسية والرعايا الأجانب العاملين في اليمن.
ويبدو أن المصائب لا تأتي فرادى. فقد أعلنت مصر، المشاركة في تحالف "عاصفة الحزم" عن عدم السماح لليمنيين بدخول أراضيها من دون قطع تأشيرة دخول (فيزا). وهو الإجراء الذي انعكس بشكل مؤثر على اليمنيين بحكم الارتباط الوثيق بمصر، والجالية اليمنية الكبيرة فيها، وهي الثانية بعد السعودية. قرار السلطات المصرية كان بمثابة صدمة نفسية لليمنيين، كون مصر أكثر دولة يقصدها اليمنيون بغرض السياحة والعلاج، بمعدل ثلاث رحلات يومية على الخطوط الجوية اليمنية. ولطالما كانت أكثر البلدان العربية حميمية في علاقتها باليمنيين وانفتاحاً واحتفاءً بهم، وأكثرها تأثيراً على الأوضاع السياسية في اليمن.
ماذا لو استمرت الحرب لشهر إضافي؟
يسود التشاؤم والقلق من استمرار الغارات الجوية على اليمن وبقاء منافذه البحرية والجوية والبرية مغلقة لمدة أطول. وتأمل شرائح واسعة من المجتمع اليمني، وبخاصة في العاصمة ومحافظات شمال الشمال، أن يتم التوصل إلى حل وتسوية سياسية لإنهاء الحرب، حتى لا تقْدم دول التحالف على الدخول بقوات برية إلى البلاد، لما سيترتب على ذلك من معاناة إنسانية وأزمات اقتصادية في دولة هشّة تعاني أوضاعاً صعبة أصلاً قبل بدء الغارات.
ويتوقع أن تنهار الأوضاع الاقتصادية كلياً في حال استمرت الحرب لشهر إضافي.. فكيف أكثر! فالعديد من المصانع والقطاعات التجارية أغلقت وتوقفت جراء الحرب وانقطاع خطوط النقل والملاحة الداخلية والخارجية. كما إن التعاملات والحوالات البنكية توقفت كلياً. وبالتزامن مع موجات نزوح جماعية من العاصمة صنعاء ومدن أخرى، يشهد السوق الاستهلاكي العديد من الأزمات ضمن تداعيات الحرب، ومنها من دون شك ارتفاع أسعار المواد الأساسية وانعدامها واحتكارها والتلاعب بها في السوق السوداء، وارتفاع سعر صرف الريال اليمني مقابل سعر الدولار المنعدم أصلاً في الأسواق. إضافة إلى أزمة خانقة في وفرة المشتقات النفطية والغاز المنزلي وارتفاع أسعارها في العديد من المدن، إلى درجة مشاهدة طوابير السيارات تقف بالأيام وليس بالساعات، أمام محطات التزود بالوقود، في صفوف طويلة تصل إلى نصف كيلومتر في بعض مناطق العاصمة.
وحدها تجارة القات وأسواق بيعه في المدن تعمل بشكل منتظم، رغم ارتفاع أسعاره نتيجة انقطاع الطرق الرابطة بين المحافظات اليمنية، وارتفاع مخاطر السفر بين المحافظات. لكون معظم أنواع القات، والنسبة الكبرى مما يتم استهلاكه في داخل العاصمة وسائر المدن، يتم نقلها يومياً عبر البر وتأتي من محافظات أخرى أو على الأقل من القرى والأرياف وضواحي المدن.
بالنسبة لـ "علي محمد" بائع الفاكهة ذي الأربعين عاماً لا شيء تغيّر على مستوى سلوكه اليومي منذ بدء الغارات الجوية، باستثناء أنه بات أكثر تجهماً، وأن دخله اليومي قلّ بشكل كبير نتيجة ظروف الحرب. الأمر الذي انعكس بشكل سلبي وكارثي على القدرة الشرائية لدى المواطن وأمنه المعيشي ونفسيته.
"الراجع"
لدى اليمنيين قدرة هائلة على التكيف مع الحروب والنزاعات المسلحة. يقول علي محمد، وهو صاحب دكان في صنعاء يسعى للمحافظة على ما اعتاد عليه في برنامجه اليومي: "سبق أن مررنا بما هو أسوأ"، قاصداً مواجهات أيلول 2011 بين قوات الحرس الجمهوري والقوات المنشقة عن النظام والمنضمة إلى الثورة (الفرقة أولى مدرع)، التي أخذت طابع مواجهات الشوارع وحروب العصابات كما هي الحال في مدينة عدن منذ أسابيع. وقتها انقسمت العاصمة إلى نصفين متحاربين، وقطعت الشوارع وشلت الحركة، ونصب الجنود متاريسهم في داخل الحارات والأزقة، وتحولت العديد من الأحياء الرئيسية الضاجة بالحياة، كشوارع الزبيري أو هائل أو قاع اليهود، إلى مناطق مهجورة خالية من الحركة كلياً. وهذا ما يخشاه السكان المحليون في حال تطورت الحرب إلى مواجهات برية.
الشيء الوحيد الذي تغير بالنسبة لعلي محمد أنه بات مضطراً إلى إقفال محله، والعودة إلى منزله في الثامنة مساء، وهو وقت أبكر مما يفعل عادة في الأوضاع الاعتيادية.
شأن كثير من اليمنيين، تخلو شوارع صنعاء من الحركة مع حلول المساء، لكون النسبة الكبرى من الغارات الجوية لطيران التحالف تتركز وتبلغ ذروتها بين السابعة مساء حتى الساعات الأولى من شروق الشمس. ورغم شدة الانفجارات التي تهز العاصمة بشكل يومي منذ بدء غارات التحالف، ورغم سقوط ضحايا مدنيين وأبرياء بينهم نحو مئة طفل وامرأة حسب إحصائية لمنظمة اليونيسيف جراء عدد من الغارات "الخاطئة"، إلا أن المفاجئ، والصادم نوعاً ما، أن أكثر ما يخيف سُكان المدن، وبخاصة العاصمة صنعاء، التي يقطنها ثلاثة ملايين نسمة، علاوة على قصف طيران التحالف، ما يرتد من السماء من أعيرة المضادات الدفاعية الأرضية التي لا تنفجر في الجو وتتساقط على رؤوس المواطنين ومساكنهم، مما يسمّيه المجتمع الصنعاني بـ "الراجع".