اليمن: نراجيل علي وجمرات عمر

في مشهد شبه سينمائي، صعد شاب ثلاثيني إلى منصة ساحة الاعتصام المطالِب بالانفصال في قلب مدينة عدن، أخذ الميكرفون وقال بلهجة شمالية صافية: "الناس اللي عندهم شيش حق علي رجاءً يرجعوها". بالنسبة لعلي كصاحب محلّ بسيط، فإن فقدان نرجيلتين يعني "خراب بيت"، فهو ما زال يسدّد أثمانها بأقساط شهرية. توجه علي إلى المنصة وعرض بشجاعة مظلمته على الملأ. لم يمض وقت حتى أعاد منظمو الاحتجاج
2014-12-03

محمد العبسي

كاتب صحفي من اليمن


شارك
هاتف فرحان - العراق

في مشهد شبه سينمائي، صعد شاب ثلاثيني إلى منصة ساحة الاعتصام المطالِب بالانفصال في قلب مدينة عدن، أخذ الميكرفون وقال بلهجة شمالية صافية: "الناس اللي عندهم شيش حق علي رجاءً يرجعوها". بالنسبة لعلي كصاحب محلّ بسيط، فإن فقدان نرجيلتين يعني "خراب بيت"، فهو ما زال يسدّد أثمانها بأقساط شهرية. توجه علي إلى المنصة وعرض بشجاعة مظلمته على الملأ. لم يمض وقت حتى أعاد منظمو الاحتجاج النرجيلتين المفقودتين إلى محله القريب من ساحة الاعتصام، واعتذروا منه.
ينتمي علي، شأن شريحة واسعة من الطبقة العمالية، إلى المحافظات الشمالية (تعز وإب خاصة). وهو يعمل منذ سنوات في عدن بمقهى للنراجيل مطل على ساحة العروض، أشهر ساحات المدينة، المكان الذي احتشد فيه آلاف الجنوبيين بذكرى الثورة على الاحتلال البريطاني (14 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت)، ونصبوا الخيام معلنين اعتصاماً مفتوحاً حتى يتحقق مطلب الانفصال والاستقلال، في خطوة تصعيدية شجّع عليها، بشكل غير مباشر، إسقاط جماعة الحوثي (أنصار الله) العاصمة صنعاء في 21 ايلول/ سبتمبر، وتوسعها عسكرياً في محافظات الشمال.
تعرّض علي في الأسابيع الأخيرة لبعض المضايقات، كالامتناع عن دفع الحساب مثلاً، وتعمد بعض السائقين القادمين من خارج عدن إيقاف سياراتهم أمام محله الذي يمتلئ في الليل بالمُدخنين وطاولات النراجيل. وما إن يطلب منهم صفّ السيارة في مكان آخر من الساحة الواسعة، بلهجته التي يسهل تمييزها، حتى يسمع تعليقات كـ"دحباشي" وهو لفظ تمييزي انتقاصي يُطلق على الشماليين كمرادف للتخلف والاحتيال والتشاطر، انتشر إثر مسلسل كوميدي شهير في أواخر التسعينيات، بطله يحمل اسم "دحباش".
لكن علي قلّل من خطورة الأفعال قائلا: "الأمر ليس بهذا السوء"، ومشيداً باللجنة المنظمة للاعتصام وببعض قياديي الحراك الذين يعرفهم ويتصدون بحزم لكل سلوك مناطقي أو بلطجي.
 

هل أبدو كمحتلّ أو مستعمر؟
 

جرى اختيار موعد لاختبار فعالية الاعتصام هو 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، الذي يصادف ذكرى رحيل آخر جندي بريطاني لعدن قبل خمسين عاماً، علاوة على دعوة رئيس حزب "رابطة الجنوب العربي" عبد الرحمن الجفري، الشركات النفطية في الجنوب إلى التوقف عن أعمالها وعدم التعامل مع السلطة المركزية بصنعاء، وتلويح قيادي آخر أن نضالهم "لن يستمر اعتصاماً وتظاهرات فقط". وقبل أيام، بدأ منع ترديد النشيد الوطني في بعض مدارس عدن.
ويخشى العمّال الشماليون وأصحاب المحلات من أعمال انتقامية أو الاستيلاء على ممتلكاتهم وتهجيرهم، خاصة مع إعلان الحراك مهلة 45 يوماً أمام أبناء المحافظات الشمالية (على وجه التعميم) لمغادرة المحافظات الجنوبية.
وقال لنا بائع ملابس على الرصيف: "هل أبدو كمحتلّ أو مستعمِر؟ أنا طالب الله وضحية بالشمال والجنوب". ورغم قلة التقارير الميدانية حول الانتهاكات المرتكَبة ضد المواطنين الشماليين، إلا أن هناك العديد من الحالات الموثقة يمكن فرزها إلى نوعين. الأولى اعتداءات تحركها دوافع الجريمة المنظمة وليس النزعات الانفصالية، ترتكبها مجموعات مسلحة وبلطجية، تستغل نبرة الشارع العالية للقيام بعمليات سطو ونهب. وأما الأخرى فهي مزيج مشوّه من هذه وتلك، وتتمثل في سرقة بعض المحال وحرقها (أدانها أحد فصائل الحراك)، كما سُجّلت حالات "قتل على الهوية"، لكن أعنف الجرائم حدثت (في صيف 2013) في الحوطة عاصمة لحج الجنوبية، وشهدت تهديد وتهجير العديد من الباعة الشماليين بطريقة إجرامية. كانت تلك المرة الأولى التي تخرج الدولة عن صمتها، فعقد مسؤولان حكوميان (جنوبيان) هما محافظ لحج وقائد المنطقة العسكرية الخامسة (وقد اصبح وزير الدفاع الحالي) مؤتمراً صحافياً أدانا فيه تلك الجرائم وتوعدا بملاحقة مرتكبيها وعقابهم.
 

نظرية "المؤامرة"
 

في صنعاء، يميل الشارع إلى الاعتقاد بدور الرئيس هادي في تمويل وتشجيع فصائل متطرفة داخل الحراك الجنوبي. و"نظرية المؤامرة" التي قد تسمعها من سائق تاكسي بصنعاء، أو عامل بناء بعمران، هي ذاتها طريقة تفكير النخب السياسية شمالاً وجنوباً. فالبرلماني والقيادي الحراكي ناصر الخبجي حتى وهو يدين، على استحياء، الاعتداءات ضد "الشماليين"، فإنه يتهم السلطة (الشمالية) بالوقوف وراءها للإساءة إلى الحراك الجنوبي!
أثناء الاحتجاجات الشعبية على الرئيس السابق علي صالح، كانت أحزاب اللقاء المشترك تتهم نائب محافظ عدن بافتعال وتمويل الحراك المسلح لتخويف المجتمع المحلي والدولي من انفلات الأمور في حال تنحّي الرئيس عن السلطة. لكن الاحتجاجات زادت، بخلاف ما هو متوقع، مع انتقال السلطة لرئيس جنوبي، وباتت المسيرات التي كانت بالمئات والآلاف تخرج بأعداد مضاعفة.
وبدلاً من المقاربة التحليلية والموضوعية للمشهد في جنوب اليمن، تتصدر نظريات المؤامرة. قيادي بالحراك اتهم مؤخراً قطر وتركيا بـ"دعم قوى حراكية لإزاحة قوى الحراك الحقيقي" ، بينما اتهمت صحيفة مقربة من الرئيس السابق الرئيس هادي بتمويل اعتصام ساحة العروض (ضمن مخطط.. بريطاني!). وهذه الانطباعات لم تأت من فراغ، خاصة بعد ظهور نائب رئيس البرلمان المقرب من هادي، وترؤسه فعاليةً تدرس خيار الانفصال عن صنعاء وتشكيل مجلس نواب جنوبي. الفاجع أن الرجل الذي بات "انفصالياً" هو نفسه "الوحدوي" الذي طاف قبل شهرين فقط عواصم خليجية في مهمة رئاسية لإقناع القيادات الجنوبية في الخارج "بالمشاركة في بناء الدولة الاتحادية اليمنية الحديثة" حسب تصريحاته للصحف آنذاك.
الحدث الأبرز والأكثر دراماتيكية كان عودة عبد الرحمن الجفري (رئيس "رابطة الجنوب العربي") المقرّب من السعودية، وتبشيره بـ"الحسم الثوري واستعادة دولة الجنوب". وقد سبقتْ عودته وصاحبها تنامي تياره الذي كان حتى وقت قريب أقلية، بينما كان تيار الرئيس الأسبق علي سالم البيض، المقرّب من إيران، الأكثر حضوراً واحتكاراً للقضية.
وفق هذه المتغيرات المُربكة، لم يعد الصراع تنافساً بين أفكار ومشاريع (فيدرالية، فك ارتباط الخ..) أو بين زعامات سياسية وأتباعهم، أو بين تحالفات واصطفافات مناطقية قديمة تشكّلت قبل وبعد أحداث 1986 الدامية، بقدر ما هو جولة جديدة، وربما عنيفة، من الصراع السعودي ـ الإيراني الذي حُسم لصالح الأخيرة في صنعاء، ويبدو أنه في طريقه للحسم لصالح حلفاء الأولى في عدن.
 

جنوب داعشي.. شمال رافضي
 

الباحث السياسي ماجد المذحجي قال لنا إن عودة الجفري لا يمكن أن تُقرأ إلا بوصفها تحركاً سعودياً لإعادة موضعة القوى في الجنوب واحتكار التمثيل السياسي وتمكين طرف على حساب آخر ضمن صيغة تسوية تحظى بموافقة ضمنية خليجية، عنوانها العريض: قيام دولة "سنية" جنوبية في مواجهة دولة "شيعية" شمالية بحكم سيطرة الحوثي.
أبعد من ذلك، عبّر الشاعر والناشط والمعتقل السابق كريم الحنكي عن تخوفه من مسار الأحداث في الجنوب، فقال لنا: "قبل عام، كنت لأصوّت دون تردد لصالح الانفصال. أما الآن فلا".

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

محمد العبسي.. كيف كان يرى اليمن؟

"لو أن 99 في المئة من الشعب اليمني تطبعوا بأسوأ الصفات الطارئة التي حفّزتها الحرب، مثل المناطقية والعنصرية والكراهية والعنف اللفظي والمادي، سأظل مؤمناً بـ1 في المئة المتبقية من اليمنيين...

صحافي يمني.. مع الأسف الشديد

  بين الاختطاف والإخفاء القسري والتهديد بالقتل والشروع به، يبدو التوقف عن العمل وفقدان الوظيفة، أو الهجرة، أقل الخسائر وأكثرها شيوعاً! فما إن يتم الإفراج عن صحافي حتى يعتقل آخر،...

بين الوحش والإنسان

كان أحد الإعلاميين اليمنيين يصرخ، بانفعال متصنِّع، أثناء مداخلته في أحد البرامج اليومية في إذاعة تابعة لجماعة الحوثيين، مُديناً صمت الدول العربية تجاه ما تتعرض له اليمن وفلسطين! البرنامج كان...