يتوجب على اليمني الانتظار لمدة أسبوعين حتى يحصل على تأشيرة السفر إلى أوروبا أو أميركا. وقد لا يحصل عليها. لكنه لا يحتاج سوى إلى لحظات حتى ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، ومن فوق الأرض إلى تحتها، من دون تأشيرة أو طلب أو انتظار. رصاصة طائشة من مسلح أو حفل عرس تفي بالغرض. موكب شيخ أو نزاع على قطعة أرض أثناء مرورك بالصدفة. سيارة مسرعة أو حادث مروري أو انزلاق صخري.. كلها حالات شائعة في اليمن بل وحتى طائرة عسكرية تسقط فجأة من الجو. أما في قصة محمد حميد العقاب (13 سنة)، فكان ثمة قاتل وحشي عديم الإنسانية يطلب ثأراً من فتى صغير لم يجرح "لحاء شجرة" أو يؤذي مخلوقاً.
كان محمد ذاهباً إلى المدرسة عندما اعترضت طريقه رصاصة غير طائشة، غيرت وجهته. هذا الصباح لن يُردد محمد النشيد الوطني ولن يسمع ثانية جرس الصباح. الأرجح أن صوت الطلقة الصادرة من الكلاشينكوف هي آخر صوت سمعه محمد في حياته القصيرة.
كان كل شيء مفاجئاً. رصاصة من الخلف استقرت في رأس الطفل. هوى على الأرض دون أن يدري من قاتله، ولا سبب قتله. وظل على الرصيف الذي اعتاد السير فيه، كأنه يرفض مغادرته. ألا ترونه يقاوم الملائكة؟ ألا يشعر ناقلو الأرواح بالحرج؟
لا تكاد تميز ملامح هذا الصبي. وسوف يزف إلى العالم السفلي مثل "هيكتور" في إلياذة هوميروس أعمى أبكم، بلا عينين بلا وجه، مع أنه لم يقاتل دفاعاً عن شرف طروادة ولم يسقط تحت ضربات سيف أخيليس العظيم. كأني به الآن متذمر من تشوه ملامح وجهه كون الرصاصة أصابت جمجمته وليس أي منطقة أخرى من جسده!
هل أقلب ورقة التقويم الحائطي:
لم يأخذوا رأيه كما لم يسأله أحد عما يحتاجه تحت. وحده. بماذا كان يحلم؟ أن يكون طياراً أم طبيباً أم بائع قات؟ من حسن حظ محمد أنه شهيد والشهيد لا يكفّن بذلك القماش الضيق الملفوف على الجسد. لكن شهيد ماذا؟ ألا تتعب هذه البلاد من تصدير الشهداء؟
كان ذاهباً إلى المدرسة وفي ذهنه أسئلة الرياضيات والعلوم والنحو. الآن عليه الإجابة عن أسئلة المَلكين الدينية ومن ربك وما دينك والجنة والنار وفق المعتقد الإسلامي.
أحاول تخيل المشهد. أحاول تخيل سخطه واحتجاجه تحت. هناك في قبره الصغير الذي يشبه قرص رغيف. لدي إحساس أنه سيرفض الإجابة على أسئلتهم:
- ما اسمك؟
على أية حال هم يعرفون الاسم.
بم سيردُّ إن سأله الملكان، كما تروي كتب الحديث:
- وعمرك، فيما أفنيته؟
- أي عمر؟ أظنه رد عليهما.
أو ربما قال ثلاث كلمات:
- في قضية ثأر!
أخي عسكري في جهاز الدولة ضمن مصلحة الضرائب. في العادة يستقوي محصلو الضرائب على بائعي القات والبسطاء من أصحاب العربات المدفوعة، بينما الأغنياء ورجال الأعمال أقل اليمنيين دفعاً للضرائب. يروي محمد: حدث أن تشاجر أخي مع أحد الباعة في السوق. كلمة بكلمة. ليس لدي فكرة كاملة عن الموضوع. يقال أن البائع أشهر "جنبته" (الخنجر اليمني) فأطلق أخي النار عليه وأرداه قتيلاً. غاب أخي عن المنزل فترة. أودعته السلطات المحلية في السجن بضعة شهور ريثما تسكن نفوس أهل القتيل وتهدأ القضية، وليس لتطبيق العدالة.
يقول: بشكل أو بآخر، بتواطؤ أو من دونه، بعلم وصلات أبي أو من دونها، أطلق سراح أخي فجأة بدلاً من إحالته إلى المحكمة، واختفى. لم يعد إلى البيت وإنما فر إلى مكان مجهول. يقال أنه في صنعاء.
في الزمن السابق كان الرجل يصبر على ثأره ويطلبه حتى بعد عشرين سنة. في زمني هذا لا شيء ينتظر، وكما يقول المثل الشعبي "الطارف غريم"!
لقد قرر أهل البائع قتلي بدلاً عن أخي. ما ذنبي؟
شخصياً لا أدري من أكره أكثر من الآخر: أخوه أم قاتله؟ المجرم الفار أم القاتل الطليق؟ أجهزة الدولة الفاسدة أم ثقافة الثأر، أم القدر؟
ولئن قتل هذا الطفل في بلدة يريم التابعة لمحافظة إب، على بعد 200 كيلومتر من العاصمة صنعاء، لم يتحمس الرأي العام لقضيته، ومرت كأنها حادثة اعتيادية مثل انقطاع التيار الكهربائي أو ضرب أنبوب النفط!
لكان محمد العقاب حديث الشارع اليمني لو كان ضحية من الممكن استثماره سياسياً من خصوم القتلة، أو يصلح لتدعيم فكرة فك ارتباط الشمال عن الجنوب مثلاً، أو كان القاتل ينتمي لحزب الإصلاح فيتحمس المؤتمريون والحوثيون تلقائياً للقضية.. والعكس. أما هكذا، فقضيته غير مغرية وبعيدة عن الاستقطاب وتصفية الحسابات بين الثوار والفلول، واليسار واليمين. وكلها أمور تحدد مسبقاً، درجة اهتمام أو خذلان الرأي العام للقضية.
لم أتمكن من تأمل صورتك طويلاً يا محمد. كل معرفتي بك هي هذه الصورة. ولم اسمع باسمك إلا قبل ساعات عندما قرأت الخبر. كدت أتقيأ وأنا أراك ملقى على رصيف أحد شوارع مدينة يريم. لكنك حررت كمية هائلة من دموعي المكبوتة. ولو كانت أوضاع البلد والناس أفضل، لكان مجتمع فيسبوك وتويتر عمل الكثير لأجلك، أنت وجميع ضحايا انتشار السلاح. توجد طريقة دوائية مجربة، ومضمونة النتائج، في أوروبا.لما لا تقوم بعمل نصب تذكاري، أو لوحة، أو صورة مسورة بالزهور لكل ضحية في المكان الذي قتل فيه. ولنبدأ بك. هناك في الرصيف الذي أريق عليه دمك. إنه احتجاج بصري. تذكير قاس وتأنيب مصمت. ورسالة للمجتمع المتساهل والممجد لثقافة السلاح وانتشاره.
• في الذكرى السنوية الأولى للحادثة، وبينما نُسيت تماما وما زال كل شيء على حاله: القاتل طليق والأخ فار والسلاح إلى ازدياد والقتل هو القاعدة.