الإنترنت في اليمن ليوناردو دافينشي أخطر من تنظيم القاعدة

كان محمد ع. (22 سنة) في أحد مقاهي الانترنت يتصفّح مواقع إباحية عندما داهم المحلّ ضابطا أمن، بحجة شكاوى وصلتهم من بعض الآباء في المنطقة، فاقتاداه وآخرين، في ساعة متأخرة من الليل إلى أحد أقسام شرطة حي السُّنَيْنة، أحد أكثر الأحياء الشعبية عشوائية واكتظاظاً بالسكّان في العاصمة صنعاء. روى محمد كيف أمضى ليلته يقاوم رغبته في الذهاب إلى دورة المياه. أودع في غرفة احتجاز روائحها كريهة، وفراشها
2014-08-20

محمد العبسي

كاتب صحفي من اليمن


شارك
من الانترنت

كان محمد ع. (22 سنة) في أحد مقاهي الانترنت يتصفّح مواقع إباحية عندما داهم المحلّ ضابطا أمن، بحجة شكاوى وصلتهم من بعض الآباء في المنطقة، فاقتاداه وآخرين، في ساعة متأخرة من الليل إلى أحد أقسام شرطة حي السُّنَيْنة، أحد أكثر الأحياء الشعبية عشوائية واكتظاظاً بالسكّان في العاصمة صنعاء. روى محمد كيف أمضى ليلته يقاوم رغبته في الذهاب إلى دورة المياه. أودع في غرفة احتجاز روائحها كريهة، وفراشها الوحيد متّسخ، وجدرانها مليئة بتوقيعات وأسماء مُحتجزين سبقوه إليها... وثمة ثقوب موزعة بلُؤم على باب حمّامها الصغير، يمكن منها اختلاس النظر بسهولة.
في الصباح أُخلي سبيله ورفيقيه دون فتح محضر أو إبلاغ أسرهم. واكتفى الضابط، «الطيب» حسب قوله، بنصحهم وحصوله على تعهدهم شفهياً بعدم ارتياد مقاهي الانترنت في وقت متأخر. ففي مجتمع محافظ يشيع الاعتقاد أن معظم مرتادي المقاهي ليلاً مدمنو مُشاهدة إباحية بالضرورة. لهذا السبب تغلق مقاهي الانترنت في الغالب أبوابها قبل الواحدة بعد منتصف الليل على الأكثر، باستثناء تلك التي لدى مُلاكها نفوذ، أو علاقة ما بـ«عاقل الحارة» (المختار) أو قسم الشرطة، وهؤلاء قادرون على تذليل الصعاب (أو افتعالها)، بمعزل عن جهة الاختصاص (وزارة الثقافة).

السلحفاة.. شعار الانترنت في اليمن

دخلت خدمة الانترنت اليمن عام 1996. وتزايد الإقبال عليها مع الانتفاضات في العام 2011 نتيجة الدور الاستثنائي لوسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) في الثورات، وظهور ما عرف بالمواطن الصحافي. ارتفع عدد مستخدمي الانترنت إلى مليونين ونصف مليون مستخدم عام 2013، بزيادة 43 في المئة عن العام السابق. في حين يقدّر مشتركو الشبكة عبر خدمة EDSL بـ 240 ألف مشترك، حسب آخر تقرير حكومي. وتحتكر خدمة الانترنت في اليمن شركتان فقط: «تيليمن» وهي شراكة بين الحكومة وشركة «كيبل أند وايرلس البريطانية»، و«يمن نت» وهي تابعة لمؤسسة الاتصالات الحكومية، أنشئت عام 2001 وصارت المزود الرئيس للخدمة. وفي وقت سابق، قالت منظمة هيومان رايتس ووتش إن الحكومة «استعاضت عن الرقابة المباشرة بتقييد الاستخدام بصورة غير مباشرة عن طريق احتكار تقديم الخدمة والإبقاء على أسعارها مرتفعة للغاية لدرجة يعجز الكثير من المواطنين عن استخدامها». فعلياً، لم تنخفض الأسعار بشكل ملحوظ إلا عام 2012. ويتهكّم اليمنيون في مواقع التواصل الاجتماعي على رداءة وبطء الانترنت، فيستبدلون شعار شركة يمن نت، مزوّد الخدمة، بصورة سلحفاة ويحرّفون عبارتها التسويقية إلى «معنا اتصالك أبطأ» بدلاً من أسرع. ولكن، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، مع زيادة ساعات انقطاع الكهرباء وانعدام الوقود المشغّل للمولدات الكهربائية نتيجة الأزمة المالية وارتفاع عجز موازنة الدولة لخمسة مليارات دولار... باتت العيوب التقنية للخدمة، وبطء سرعة الانترنت من الأمور الترفية والثانوية. ومما يزيد الأمور سوءاً ويتسبّب في تعطل الانترنت لساعات أحياناً، هو تعرض كابلات الألياف الضوئية لأعمال تخريب منظم من مجاميع مسلحة، حتى أن السلطات أعلنت عن 180 حالة اعتداء خلال عام واحد.

حَلْق الرأس عقوبة متصفح المواقع الإباحية

مثل شريحة واسعة من الشباب، يفضّل محمد الاتصال بالشبكة عبر مقاهي الانترنت، لا هرباً من رقابة العائلة فحسب، وإنما لعدم امتلاكه كمبيوتراً محمولاً كطالب ينتمي لأسرة محدودة الدخل. ورغم الطفرة التقنية الهائلة التي سهّلت الاتصال بالانترنت بفضل الهواتف الذكية، لا تزال أسر محافظة تمتنع عن إدخال خدمة الاشتراك المنزلي خشية إفساد سلوك أبنائها أو إلهائهم عن واجباتهم الدراسية. وليست الأُسر وحدها من يمارس الرقابة أو الحظر، ففي العام 2006، أمرت الحكومة، استجابةً لضغوط رجال دين، بإزالة الحواجز العازلة بين المستخدمين في مقاهي الانترنت، وكشف شاشات الكمبيوتر إلى الخارج باتجاه باب المقهى، منتهكةً الحرية الفردية وخصوصية المتصفحين.
وعلى الرغم من أن مؤتمر الحوار الوطني شهد نقاشاً مفتوحاً حول قضايا كتغيير شكل الدولة من بسيطة إلى مركبة، وتوزيع عائدات النفط بنسب معينة بين المركز والأقاليم، وتحديد سنّ الزواج، وشارك فيه مثقفون وحقوقيون وقوى يسارية وليبرالية، إلا أن خصوصية تصفّح الانترنت، كجزء من الحرية الفردية، لم تكن ضمن تلك النقاشات. بينما تشغل هذه القضية حيزاً من النقاش الجانبي في المجتمع لدرجة أن مجلس الوزراء همّ، منذ سنوات بإصدار قرار يقضي بـ«منع الأطفال دون سِنّ الثانية عشرة من ارتياد مقاهي الإنترنت وسحب تصاريح العمل من مراكز الإنترنت المخالفة للقانون». كما طالب بعض أعضاء البرلمان لا بصدور قانون ينظم تجارة وحيازة السلاح الذي تعاني من انتشاره البلد، وإنما بسنّ عقوبة تعزيرية تقضي بـ«حلق رأس من يتصفح المواقع الإباحية في الانترنت"!

"محتوى هذا الفيديو محظور في بلدك"

خلافاً للدستور الذي يحرّم «التدخل في الحياة الخاصة»، تتم مراقبة الهواتف والحسابات الالكترونية دون إذن قضائي. لدى الحكومة اليمنية سجل حافل في حجب المواقع الإخبارية الحزبية والمستقلة. لكن قائمة ممنوعات «يمن نت» لا تقتصر على مواقع المعارضة السياسية. فإلى جانب مواقع الجنس والمثلية ومواقع كسر الحجب المعروفة، يُحجب أيضاً عدد من المواقع الثقافية والفكرية. حتى المقالات العربية والأجنبية القليلة التي انتقدت سياسة الحظر في اليمن تعرضت للحجب. تؤكد «يمن نت»، بلغة تعميمية فضفاضة، أنها تقوم «بحجب ما لا يتفق مع العقيدة والعادات والتقاليد، ومع السيادة الوطنية»، أو «يتنافى مع الأخلاق والدين والعادات الاجتماعية»، أو ما من شأنه الإضرار بـ«الوحدة الوطنية». ومقابل سياسة الحظر المتشددة تجاه النقد والحريات الشخصية ومواقع المعارضة والأديان والإباحية، تبدو «يمن نت» أكثر تسامحاً مع منتديات ومقاطع فيديو تنظيم القاعدة.
قبل أيام حاولتُ مشاهدة إحدى حلقات مسلسل شياطين دافينشي (Da Vinci’s Demons من إنتاج قناة Starz الأميركية)، في موقع youtub، فصُدمت إذ ظهرت أمامي عبارة: «محتوى هذا الفيديو محظور في بلدك». بينما، في وسعي بنقرة زرّ، ودون برامج كسر، مشاهدة عمليات تنظيم القاعدة ضد مواقع عسكرية، أو إعدام جنود، أو معارك الحوثيين والسلفيين في دماج، وأية مشاهد أخرى مشجعة على العنف والاقتتال. وهذا مثالٌ واحد من ألف. إن حكومة تحظر مسلسل دافينشي العالِم والرسام، ، بينما لا تتحفظ، أو تضع قيوداً على مشاهدة مقاطع فيديو مثل تلك، تبدو داعمةً للإرهاب أكثر منها محاربة له. ربما لهذا السبب سَمِع العالم باليمن من خلال أخبار عمليات القاعدة، ولم يسمع بحضارته وجمال طبيعته وفنانيه، ولا بالرسّام الراحل هاشم علي.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

محمد العبسي.. كيف كان يرى اليمن؟

"لو أن 99 في المئة من الشعب اليمني تطبعوا بأسوأ الصفات الطارئة التي حفّزتها الحرب، مثل المناطقية والعنصرية والكراهية والعنف اللفظي والمادي، سأظل مؤمناً بـ1 في المئة المتبقية من اليمنيين...

صحافي يمني.. مع الأسف الشديد

  بين الاختطاف والإخفاء القسري والتهديد بالقتل والشروع به، يبدو التوقف عن العمل وفقدان الوظيفة، أو الهجرة، أقل الخسائر وأكثرها شيوعاً! فما إن يتم الإفراج عن صحافي حتى يعتقل آخر،...

بين الوحش والإنسان

كان أحد الإعلاميين اليمنيين يصرخ، بانفعال متصنِّع، أثناء مداخلته في أحد البرامج اليومية في إذاعة تابعة لجماعة الحوثيين، مُديناً صمت الدول العربية تجاه ما تتعرض له اليمن وفلسطين! البرنامج كان...