كانوا يعدّون الفيدرالية كوجبة، لكنهم لم يتوقعوا أن تأتي أصناف وتنويعات أخرى على وجبتهم، أو ربما سعوا لأجل ذلك بحسب نظرية المؤامرة. فإعلان الفيدرالية لم يواجه برفض هنا أو هناك فقط، لكنه عاد بالبلد إلى عهد السلطنات التي كان التاريخ طواها منذ أربعة عقود.
في العام 1886 أصبحت سلطنة المهرة محمية بريطانية، وألحقت فيما بعد بمحمية عدن، ثمَّ رفضت الانضمام إلى اتحاد الجنوب العربي. وعقب جلاء البريطانيين في العام 1967 ألغيت السلطنة، وأصبحت محافظة سادسة في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية التي اتحدت العام 1990 مع الجمهورية العربية اليمنية وكوّنتا الجمهورية اليمنية. وقبل أيام عاد عيسى آل عفرار سليل سلاطين المهرة إلى عاصمة المحافظة، رافضاً التقسيم الفيدرالي الذي جعلها وسقطرى جزءاً من الإقليم الشرقي، مع محافظتي حضرموت وشبوة.
اعادة انتاج العصبيات
تعيش اليمن شرخاً اجتماعياً يتوسع كل يوم، وجاء التقسيم الفيدرالي ليعزز من الانقسام المجتمعي. واعتمدت لجنة تحديد الأقاليم على الانقسام المجتمعي في توزيع البلد إلى مجموعة أقاليم متمايزة على أسس ومعايير طائفية وجهوية. فإقليم أزال يضم في غالبية سكانه الطائفة الزيدية التي لا تتواجد خارج هذا الإقليم إلا في مديريتين في إقليم الجند، الذي بدوره ضم محافظتي تعز وإب، وهما الأكثر سكاناً والأقل مساحة وموارد طبيعية. وبدا أن اختيار هاتين المحافظتين ضمن هذا الإقليم تعزيز لقضية تمييز جهوية مستمرة منذ عقود طويلة، تتغذى بالنزعات المذهبية، في الوقت الذي تم توزيع أراضي ومحافظات ما كان يُعرف بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية إلى إقليمين يضم كل منهما أربع محافظات، ويمثل الإقليم الشرقي منهما نصف مساحة البلاد وأقلها سكاناً، ويعاني الثاني الذي تمت تسميته بإقليم عدن من أزمات مجتمعية وصراعات جهوية واستقطابات قبلية حادة. وكان الجنوب توحد أواخر ستينيات القرن الماضي بقوة وسطوة الدولة الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفياتي، بعد أن كان موزعاً على 24 سلطنة ومشيخة.
أعاد التقسيم الفيدرالي المعلن لليمن إنتاج العديد من العصبيات. وتسبب فشل الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط النظام في العام 2011 في تحقيق الوحدة الوطنية المنشودة، في تعزيز هذه الانقسامات وتعبئتها بالنزعات الجهوية والمذهبية. فعلى أراضي إقليم أزال ذي الأغلبية الزيدية، تتوسع حركة الحوثي التي تسمي نفسها أنصار الله، وتسيطر عسكرياً على مناطق كان بعضها تحت سيطرة الدولة، وغالبيتها تخضع لنفوذ الجماعات السلفية وحزب الإصلاح الإخواني والقبائل الموالية له. وتم إخلاء منطقة دماج في قلب محافظة صعدة الحدودية من كافة السلفيين المقيمين فيها والذين يتجمعون من مختلف مناطق اليمن، وبينهم مئات الأجانب لدراسة العلوم الدينية، وجاء هذا الإخلاء بعد معارك استمرت لأشهر مع حركة أنصار الله الحوثية الزيدية، وهو ما يوحي بتحويل الإقليم إلى منطقة زيدية خالصة.
ترى العديد من النخب السياسية أن التقسيم الفيدرالي لليمن سيعمل على امتصاص الانقسام المجتمعي الحاصل أصلاً، وأن هذا التقسيم هو البديل والحل الممكن لتجنب الصراعات التي بدأت بعضها، وتلوح بوادر أخرى في الأفق، وإن منح الجغرافيات المتعددة لليمن، والثقافات المتباينة استقلالاً فيدراليا عن السلطة المركزية، سيمنع نشوب حرب أهلية أو تفكيك البلد. إلا أن نخباً سياسية وثقافية أخرى ترى أن التقسيم الذي أقرته لجنة تحديد الأقاليم يعزز من هذه الشروخ المجتمعية، ويعمل على تكريس الحواجز والقطيعة بين اليمنيين.
لا يوجد راضٍ!
لم ينتظر أبناء مديريات وصابيَن وعتمة طويلاً. كانوا يعيشون على أمل لم يتحقق، وبمجرد أن أصدرت لجنة تحديد الأقاليم التي أنشأها الرئيس عبد ربه منصور هادي قرارها بتقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، كان أهالي المديريات الواقعة وسط اليمن يعقدون اجتماعاً موسعاً لرفض ضم المديريات الثلاث لإقليم آزال، واستمرار بقائهم تابعين لمحافظة ذمار التي ستتبع بدورها الى هذا الإقليم الممتدُّ من صعدة شمالاً حتى وسط البلاد. وبعدها بخمسة أيام، كانوا ينفذون وقفة احتجاجية في ميدان التغيير وسط العاصمة صنعاء للمطالبة باعتماد المديريات الثلاث كمحافظة ضمن إقليم تهامة الأقرب لهم، حيث لا تبعد هذه المديريات أكثر من 20 كيلومتراً عن الحديدة عاصمته، إضافة إلى أن تعداد سكانها يصل إلى المليون نسمة. ووصابين (وصاب العالي ووصاب السافل) وعتمة ثلاث مديريات تنتمي جغرافياً إلى السهل الغربي من اليمن والمعروف باسم تهامة، لكنها أُلحقت طوال العقود الماضية بمحافظة ذمار الجبلية، وهو ما تسبب لها بأضرار بالغة تمثلت في التهميش والحرمان من الخدمات والبنى التحتية كما عبر عن ذلك أهالي هذه المديريات الثلاث.
لم يكن أهالي وصابين وعتمة وحدهم من تضرروا من قرار لجنة تحديد الأقاليم. فالتقسيم الذي اختارته اللجنة لم يأخذ برأي أحد من خارجها، وقد ترأسها الرئيس هادي نفسه، وقام بتوزيع محافظات البلاد الـ21 على ستة أقاليم. وبرغم أن اللجنة أكَّدت أنها اطلعت على عدد من الدراسات قبل الاتفاق على التوزيع، إلا أن المدة التي شُكلت خلالها اللجنة ومن ثم باشرت أعمالها فيها، وأصدرت قرارها لم تتجاوز الأسبوعين.
وبمثل ما رفض أهالي مديريات وصاب وعتمة إلحاقهم بإقليم أزال، رفضت قيادات مجتمعية من محافظة ذمار إلحاقها هي الأخرى بهذا الإقليم. وأشارت تلك القيادات في بيان لها بعد أربعة أيام من صدور قرار التقسيم إلى أن محافظتهم «تمتلك مقومات اعلانها اقليم مستقل»، ودعوا «القيادة السياسة الى عدم إجبار أبناء المحافظة إلى اللجوء إلى أي إجراءات تصعيدية في حال عدم الالتفات لمطالبهم».
وجاء هذا الرفض كرد فعل على مظاهرات ومطالبات في محافظتي مأرب والبيضاء من إقليم سبأ لرفض ضم محافظات ذمار إلى هذا الإقليم، وهو الرفض الذي لم تفسر أو تعلن أسبابه. إلا أنه يمكن التكهن بتلك الأسباب وفقاً للفرز المذهبي والمناطقي الذي تشهده البلاد. فذمار محافظة زيدية وذات تعداد سكاني كبير، وتندر فيها الموارد والثروات الطبيعية، وتعتمد على زراعة الخضروات، على عكس إقليم سبأ الذي يضم ثلاث محافظات تنتمي إلى المذهب الشافعي، قليلة السكان، وتتوفر على ثروات نفطية وغازية يتم استغلالها منذ سنين طويلة، وتقول الحكومة إنها تعد بالمزيد من هذه الثروات.
يتوسط إقليم الجند الذي يضم محافظتي تعز وإب اليمن، ويحاذي أربعة أقاليم من بين الخمسة أقاليم الأخرى، ويتميز بأنه الإقليم الأكبر من حيث عدد السكان (حوالي 9 مليون نسمة على الأقل)، والأقل مساحة جغرافية (لا تتعدى مساحته 15 ألف كيلو متر مربع)، والأقل أيضاً في الموارد الطبيعية، ويعاني من شح في المياه، ويعرف سكان هذا الإقليم، وتحديداً محافظة تعز بأنهم أكثر اليمنيين انتشاراً في بقية المحافظات، وأكثرهم ممارسة لمختلف المهن والأعمال، ويعلن سكان هذا الإقليم باستمرار عن تهميش وإقصاء متعمدين يتعرضون له. لكن التقسيم الفيدرالي الجديد يزيد من معاناتهم.
وعلى الجانب الآخر، يقف الجنوب الذي كان دولة مستقلة قبل العام 1990 موقفاً آخر من الفيدرالية المزمع تطبيقها، حيث ترفض الفعاليات الجماهيرية والشعبية، التي يمثلها ما يعرف بالحراك الجنوب، الفيدرالية تماماً وتطالب بالانفصال، وإعادة الدولة التي اتحدت مع الشمال سلمياً عام 1990، وعسكرياً بعد ذلك بأربعة أعوام، لحقتها إجراءات ممنهجة من التهميش والإقصاء السياسي والاقتصادي وسلب الهوية ونهب الثروات والأراضي.
ويرفض الحزب الاشتراكي اليمني التقسيم الفيدرالي من ستة أقاليم، ويرى فيه حلاً غير عادل للقضية الجنوبية «بقدر ما يمثل هروبا من استحقاقات الحل العادل للقضية الجنوبية، وإعادة استنباتها كمشكله صراعية جنوبية ـ جنوبية، عبر استحضار واقع التجزئة الاستعمارية لما قبل الثورة والاستقلال الوطني، وحذر من «مخاطر فرض خيار التقسيم القسري للجنوب خلافا لإرادة الناس والقوى الحية والفاعلة «. وقدم الحزب الاشتراكي رؤية ومقترحاً للفيدرالية، رأى فيهما أن تقسم البلاد إلى إقليمين شمالي وجنوبي وفقاً لحدود ما قبل الوحدة، وكان الحزب حكم الجنوب منذ ستينيات القرن الماضي وحتى العام 1994 عندما تم إقصائه بحرب شنها نظام الحكم في الشمال. ويرى الحزب الاشتراكي أن تقسيم الجنوب إلى إقليمين يعيد الجنوب إلى ما قبل جلاء الاستعمار، ويعيد إنتاج السلطنات والمشيخات التي انتهى وجودها بفعل إجراءات توحيدية نفذتها الجبهة القومية، إحدى الفصائل التي كونت الحزب نفسه لاحقاً، وحكمت الجنوب حينها. ورجحت عودة السلطان بن عفرار هذه المخاوف.
ويعدّ إقليم عدن الذي يضم محافظات عدن ولحج وأبين والضالع أحد أكثر المناطق سخونة، حيث يضم القوة البشرية للحراك المطالب بالانفصال، وتنتشر فيه الجماعات التكفيرية والإرهابية التي خاضت حروباً عديدة ضد النظام السياسي وأسقطت مناطق عديدة، بالإضافة إلى أنه يضم منطقتين خاضتا في ثمانينيات القرن الماضي صراعاً جهوياً لم تزل آثاره وتبعاته قائمة إلى الآن. وإلى جانب ذلك، يقع فيه ميناء عدن المهم، بما يوفره من فرص واعدة بحاجة إلى بنية تحتية واستقرار سياسي.
وفي مدينة الحديدة الساحلية الغربية، والتي ستكون عاصمة لإقليم تهامة، ينشط حراك آخر يسمى بالحراك التهامي، ويحمل قضية تهامة التي يرى ناشطوه أنها تعرضت للتهميش والإقصاء والنهب طوال العقود الماضية. ويطالب ناشطو هذا الحراك بإعادة المديريات والمناطق التي يرون أنا استقطعت من السهل التهامي وضمت إلى محافظات أخرى خلال العقود الماضية، بحيث يتم الحفاظ على وحدة هذا السهل، وهو ما يعني حرمان بقية الأقاليم، خصوصاً إقليم الجند، من المنافذ البحرية على البحر الأحمر.
يبدو حال اليمن حالياً كحال يوغسلافيا السابقة، انتفض الجميع هناك ضد سيطرة واستحواذ الصرب على السلطة، وكانت النتيجة حروباً طويلة، ومآس بلا حدود. وفي اليمن يرفض الجميع سيطرة القوى السياسية والاجتماعية في المركز المتمثل بصنعاء وما جاورها من المحافظات التي سيضمها إقليم ازال، واستحواذها على السلطة والثروة، وهذا الأمر ينتج بالمقابل رفض اليمنيين لبعضهم البعض وفق الانتماءات المذهبية والجهوية، والمصالح الاقتصادية، وجاء التقسيم الفيدرالي ليعزز من هذه النزعات، أو ليوجد لها مبررات أكثر.