الصعيد المصري أنهكه النسيان

تعتمد الدولة المصرية الحديثة الحكم المركزي منذ تأسيسها على يد محمد علي باشا، وتتجدد تلك الحالة مع كل ملك ثمّ رئيس. وبمقتضى هذه المركزية، كان على الصعيد تحمّل الكلفة الأكبر من فاتورة سوء الخدمات العامة، ورداءة البنية التحتية، وقلة معدلات التشغيل، وعورات اقتصادية عديدة.
2021-09-07

منى يسري

صحافية من مصر


شارك
عبد الهادي الجزار - مصر

أطلقت السلطات المصرية عام 2018، مشروع تنمية الصعيد بالتعاون مع البنك الدولي. وحسب وسائل الإعلام المحليّة، فإنّ ثمار هذا المشروع حتّى حزيران/ يونيو 2021، كانت تنفيذ 3707 مشاريعَ في قطاعات مياه الشرب والصرف الصحي والطرق والنقل وتغطية الترع وتدعيم الوحدات المحليّة. تجاوزت كلفة تلك المشاريع 12 مليار جنيه، فيما وفرّت 203 آلاف فرصة عمل. وعلى ذلك، تمضي السلطات في رفع الدعم عن الخدمات الأساسية منذ عدّة سنوات، وحتّى بعد بلوغ نسب الفقر وفق الأرقام الرسمية 32.5 في المئة، وقد جرت زيادة أسعار الكهرباء مطلع تموز/ يوليو 2021، في وقت يرتفع فيه معدل استهلاك الكهرباء بسبب درجات الحرارة الشديدة.

يعيش أكثر من 50 في المئة من فقراء مصر في محافظات الصعيد، في قرًى تنعدم فيها الخدمات الأساسية، من مياه صالحة للشرب وكهرباء وصرف صحي. وهناك أسر لا تجد سقفاً يقيها قيظ الصيف وبرد الشتاء..

بؤس الأطراف

أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مبادرة "حياة كريمة" قبل أكثر من عامين، بهدف التخفيف عن أهالي القرى والمناطق الأكثر فقراً، وفي مقدمتها الصعيد. وعلى الرغم من ذلك، ترسل السلطة خطابات متناقضة حول الوضع المزري الذي وصل إليه الجنوب، متهمةً أهله بابتلاع كل جهودها في التنمية بسبب الزيادة السكانية الكبيرة، بل وتشن حملات إعلامية موجهّة لهم بهدف التوعية بأضرار الزيادة السكانية... علماً أن الكثير من قرى الصعيد ونجوعه بلا إمدادات كهرباء وشبكات إنترنت مما يحول دون اطلاعهم على هذه البيانات!

وقد أشار تقرير الدخل والاستهلاك الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2020، أنّ هناك ما يقرب من 46 قريةً في محافظتي أسيوط وسوهاج، تتراوح نسبة الفقر فيها بين 80 إلى 100 في المئة، والتقدير أن هناك ألف قرية فقيرة.

تمضي السلطات في رفع الدعم عن الخدمات الأساسية منذ عدّة سنوات، وحتّى بعد بلوغ نسب الفقر وفق الأرقام الرسمية 32.5 في المئة. وقد زيدت أسعار الكهرباء مطلع تموز/ يوليو 2021، في وقت يرتفع فيه معدل استهلاك الكهرباء بسبب درجات الحرارة الشديدة.

في لقاء جمع بين الرئيس السيسي، وطلاب كشف الهيئة المتقدمين للالتحاق بكلية الشرطة، أواخر العام 2020، طلب الرئيس سماع آرائهم عن إنجازات الدولة في مجال التنمية، ليتحدث أحد شباب الصعيد عن تردّي الخدمات العامة في المدن والقرى، وافتقار أغلب مناطق الصعيد للطرق، والبنية التحتيّة، طالباً من الرئيس المزيد من الاهتمام بالجنوب، الذي يكافح أهله للحصول على شربة ماء. كما تطرق لإنشاء الطرق والكباري، وهي أمور متوفرة في العاصمة، إلا أنّ الصعيد ما زال محروماً منها حتّى الآن. وعلى الرغم من جرأة الشاب أمام حاكم يخشاه الجميع، استطاع السيسي أن يفلت من الحديث، مطالباً الشاب أن يرى ما تمّ من إنجازات خلال السنوات السبع الماضية.

مقالات ذات صلة

تركز السلطة الحالية على بناء العاصمة الجديدة، مع إجراء بعض الإصلاحات السطحيّة لتجميل ما آلت إليه الأطراف القديمة. والحقيقة أنّ الأنظمة المتعاقبة على مصر، تتبع النهج ذاته في مسألة الصعيد. فعلى الرغم من السعي المحموم خلف الاستثمارات الأجنبية، غير أنّ نصيب الجنوب منها يبقى ضئيلاً للغاية، مع افتراض أن يتم توزيعه وفقاً للكثافة السكانية لكل محافظة..

جذور التهميش

عبر تاريخه الممتد، كان الصعيد مملكةً مستقلّة، محكومةً من قبل أبنائها حكماً ذاتياً، كما كان مركزاً للسلطة والثروة وفائض الإنتاج. وخلال محطات عديدة، كان أشبه بدولة مستقلة، آخر حكامها شيخ العرب همام بن يوسف، الذي حكم مملكة جرجا أوائل القرن الثامن العشر، قبل أن يأتي محمد علي باشا، مسطّراً آخر عصر لصعيد مستقّل يحكمه أبناؤه، مصادراً ثروات تلك المناطق الممتدة على ضفاف النيل، فكتب تاريخاً لدولة جديدة، تحكمها أسرته أبداً.

ترسل السلطة الحالية خطابات متناقضة حول الوضع المزري الذي وصل إليه الجنوب، متهمةً أهله بابتلاع كل جهودها في التنمية بسبب الزيادة السكانية الكبيرة، بل وتشن حملات إعلامية موجهّة لهم بهدف التوعية بأضرار الزيادة السكانية... علماً أن الكثير من قرى الصعيد ونجوعه بلا إمدادات كهرباء وشبكات إنترنت، مما يحول دون اطلاعهم على هذه البيانات!

أدرك محمد علي الأهمية الاقتصادية لمملكة الجنوب، كإمبراطورية تجارية وزراعية يجب السطو عليها وإخضاع أهلها، مستخدماً أكثر الطرق دموية لتسهل مهمتّه. في ذلك الوقت كانت التجارة عبر ميناء القصير المطل على البحر الأحمر، متنفساً اقتصادياً وثقافياً للصعيد، الذي فاض إنتاجه من القمح والشعير والعدس وغلال أخرى، فكانت تصدّر إلى الجزيرة العربية واليمن وعُمان.

____________
من دفاتر السفير العربي
تعال معي إلى الصعيد
____________

بعد أن استتب الحكم للباشا، بدأ بإرسال حملات عسكرية إلى الصعيد، تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا، فمنع زراعة القمح في بعض المقاطعات، مقابل إجبار الفلاحين على زراعة القطن، وهو ما تسبب في أضرار اقتصادية كبيرة وقعت على المزارعين بشكل مباشر، وأضرار بيئية خلفها التغيير في طبيعة الأرض. لم يرق حكم محمد علي لسكان الصعيد، الذين اعتادوا على استقلاليتهم الاقتصادية على الأقل، فقاوموا ذلك بالثورات التي خرجت تباعاً، لكنّها ووجِهت بأشرس أنواع القمع من قبل عسكر الباشا.

عانى الصعيد، منذ مطلع القرن التاسع عشر، من ظاهرة التطور اللامتكافئ والمركزية في الحكم، وقد تمّ استلاب ثرواته. أسس محمد علي لأسرته ولمحاسيبه من الأتراك إقطاعات في الجنوب، سُلبت من أصحابها عنوةً. وضربت الجنوب موجات متتالية من الطاعون والكوليرا، جاءتهم بها قوات الباشا، فانتشرت العدوى، وأودت بحياة الآف، وأنهكت قوى من بقي منهم حياً. وعلى الرغم من ذلك، لم يتوانَ أهل الصعيد عن الخروج في وجه الباشا، ومن خلَفَه من أسرته. كانت ثورة الفؤوس التي خرجت في وجه العسكر، محطةً فارقة في تاريخ الصعيد، بعدما خرج الثوار رافعين فؤوسهم ضد النظام الإقطاعي لمحمد علي، وأما العنف الذي ووجِهوا به، فقد وصل إلى حد قصف قرًى كاملة، ما أدى إلى هروب أهلها بلا عودة.

مفارقة الجنوب

تعتمد الدولة المصرية الحكم المركزي منذ تأسيسها على يد محمد علي باشا، وتتجدد تلك الحالة مع كل ملك ثمّ رئيس يخلف الآخر. وبمقتضى هذه المركزية، كان على الصعيد تحمّل الكلفة الأكبر من فاتورة سوء الخدمات العامة، ورداءة البنية التحتية، وقلة معدلات التشغيل، وعورات اقتصادية عديدة، وكلها أعراض جانبية لمرض المركزية على الرغم من تبعاته الجسيمة على مصر.

هناك ما يقرب من 46 قريةً في محافظتي أسيوط وسوهاج، تتراوح نسبة الفقر فيها بين 80 إلى 100 في المئة، والتقدير أن هناك ألف قرية فقيرة.

كان الأمل معقوداً على نظام ثورة يوليو 1952، في رفع الحصار الوجودي المفروض على الصعيد من قبل أسرة محمد علي، بعدما انتهى حكمها على يد مجموعة من الضباط، في مقدمتهم أول رئيس مصري خرج من قلب الصعيد. فعبد الناصر، ابن محافظة أسيوط، إحدى أفقر مدن مصر والشرق الأوسط برمتّه.

وقد انتهج نظام عبد الناصر سياسات اقتصادية، كانت في ظاهرها تنمية وصناعة ولكنها في باطنها أدت إلى تعزيز الفجوة المتسعّة بين الشمال والجنوب، إذ اتبع سياسة التصنيع السريع، وهو أمر يحتاج لبنية تحتيّة موجودة بالفعل، ومن غير الممكن أن يتكبّد عناء وتكلفة إنشائها من الصفر في جنوب البلاد، فاستغّل ما هو قائم بالفعل في القاهرة والإسكندرية. وكانت أسوان الاستثناء الوحيد، حيث حظيت باهتمام عالٍ بعد إنشاء السّد العالي وسد أسوان. ويعكس مؤشر التنمية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، الفجوة الكبيرة التي خلفّتها تلك السياسات. فتشير الأرقام بين عامي 1957 – 1965، إلى أنّ مؤشر التنمية في الصعيد لم يتخطَ نسبة 15.3 في المئة، كان لأسوان منها 9 في المئة، ووزعت البقيّة على سائر أنحاء الجنوب.

تركز السلطة الحالية على بناء العاصمة الجديدة، مع إجراء بعض الإصلاحات السطحيّة لتجميل ما آلت إليه الأطراف القديمة.  

ولم يختلف الأمر كثيراً مع السادات. لكن تسعينيات القرن الماضي، كانت مرحلةً فارقة في مآلات الصعيد، بعد صعود مبارك وانتشار الجماعات الإسلامية في الجنوب، واعتبارها أول ثمار الإهمال والتهميش، وبداية تغييرات اجتماعية كبرى، خشي النظام أن تكون أول مسمار يدق في نعشه.

ماذا تغير؟

بقتل الرئيس السادات 1981، كان المّد الإسلامي قد وصل إلى ذروته، وتسلّمت دولة مبارك سالمةً راية مجابهة التيارات الاسلامية، دون الالتفات للبعد الإقليمي للمسألة، ودون التطرق لنشأة هذه الجماعات وخروجها من الصعيد، ومن قلب مدينته الأفقر، "أسيوط".

بعدما وصلت الأمور في الصعيد إلى ذلك الحد من البؤس، حاول مبارك خلال سنوات حكمه، ضخ الاستثمارات فيه، عن طريق تقديم تسهيلات للمستثمرين، بهدف القضاء على "البطالة" بوصفها المعزز الأول لارتماء الشباب في أحضان الجماعات الإرهابية. لكن السلطة تعثرّت كثيراً، إذ أنّ معدلات فقر الجنوب كانت في زيادة مضطردة، بسبب السياسات الاقتصادية التي ذهبت ثمارها إلى طبقة بعينها في الصعيد. والمثال الأكبر على ذلك أيضاً هو "أسيوط"، التي تجمع بين الفئات الأكثر ثراءً والأكثر فقراً!

منذ اندلاع "ثورة يناير 2011" وحتّى اللحظة، يتسارع معدل نمو الفقر في الصعيد، مقارنةً بباقي أقاليم مصر. بل إنّ الأرقام الرسمية تشير إلى زيادة الفجوة الطبقية داخل إقليم الصعيد نفسه، عن نظيرتها في القاهرة وفي مدن الدلتا.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه