الحفاظ على وضع يتيح النفوذ والتأثير في منطقة الخليج ثابتة من الثوابت التاريخية في الإستراتيجية الأميركية. وسواء تعلق الأمر بظروف احتواء القوة الكبرى الأخرى خلال فترة الحرب الباردة، أو بالظرف الحالي الذي يتطلب استباق نفوذ الفاعلين الصاعدين، أو عودة الروس، فقد سعت الولايات المتحدة دوماً للحد من عوامل «منع الوصول» (anti- access بحسب التعبير المستخدم في البنتاغون، والذي عمل مركز RAND عليه كثيراً). وهكذا، فإن الصراع ضد كل ما من شأنه الحد من وصول الأميركان إلى المنطقة (أو حتى منعهم من الوصول) هو ما يتحكم بالأساليب والأدوات: العمليات والوجود العسكري، تموضع أدوات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR)، إستراتيجيات الهندسة الاجتماعية والسياسية،... وذلك في الميدان أو بطريقة غير مباشرة. ويدخل ضمن هذا النطاق ما يقال له «مشاريع الإصلاح في الشرق الاوسط الكبير». العراق هو الحالة الأكثر تقدماً للإستراتيجية الإقليمية العائدة للولايات المتحدة، وهو يقدم إيضاحات لمختلف صيغ وأنماط هذه الإستراتيجية.
«حرية الوصول»
«الوصول» هو إذاً المعطى الثابت في الإستراتيجية الأميركية حيال العراق والمنطقة. الوصول إلى منطقة المحروقات الأولى مخزوناً وتصديراً، والى الطرق البحرية الإستراتيجية العائدة للتجارة العالمية، والى منطقة قريبة أو محاذية لكل من روسيا والصين وأوروبا، والى منطقة تواصل بين أوروبا وآسيا، والى منطقة مستوردة بقوة للسلاح، والى أسواق ناهضة. إن النظام الإستراتيجي الذي وضعته الولايات المتحدة منذ مطلع الثمانينيات (في ظروف الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفياتي لأفغانستان) ما زال هو نفسه. وهو يتلخص بتحالف رسمي مع إسرائيل، ومع مصر (بفضل وضعية مقننة اسمها «الحليف الأساسي من خارج الناتو» الذي حصلت عليه عام 1989)، والمساعدات في المجال الدفاعي (مساعدات سنوية للبلدين، بقيمة 3 و2 مليار دولار تباعاً، وتعاون تكنولوجي متقدم مع إسرائيل)، وتطور التعاون العسكري والتحالف المقنن مع السعودية والأردن («حليف رئيسي من خارج الناتو» منذ 1996) وباكستان (الصفة نفسها منذ 2004 )، وبلدان مجلس التعاون الخليجي (البحرين والكويت حصلتا على تلك الصفة تباعاً عامي 2002 و2004). للسياسة الحالية أصولٌ تعود إلى زمن الحرب الباردة، وهي لم تكن وقتها تهدف إلى احتواء الاتحاد السوفياتي وحده وحلفاءه، ولكن أيضاً احتواء إيران كقوة إقليمية غير منحازة. تلك السياسة أعلنها الرئيس جيمي كارتر في كانون الثاني/يناير 1980 وعرفت مذّاك بـ«عقيدة كارتر».تقوم الإستراتيجية الجديدة على إيجاد منطقة - محيط اسمها جنوب غرب أسيا، تبدأ من مصر وتنتهي في أفغانستان، وهي مغطاة لوجستياً بالقواعد العسكرية والتموضع المسبق لمنظومات السلاح، ولمنظومات «الاتصالات والاستخبارات والاستطلاع» (ISR) التي تقودها قيادة موحدة (القيادة المركزية أو CENTCOM) منذ أول 1983. منطقة «سانتكوم» هذه تشمل البلدان المتشاطئة على الخليج وشبه الجزيرة العربية، وباكستان، أفغانستان، مصر، الأردن، السودان، إثيوبيا، جيبوتي، الصومال وكينيا (وقد ادرجت البلدان الأفريقية ضمن منطقة «أفريكوم» منذ 2007). وفي العام 1998 أدرجت بلدان آسيا الوسطى ضمن صلاحيات قيادة «سانتكوم» وفي العام 2004 ضُمت إليها سوريا ولبنان. بعد غزو الكويت من قبل العراق العام 1990، فتشت دول الخليج عن الحماية من قبل الولايات المتحدة، ومنحت هذه الأخيرة وجوداً على أراضيها. وبعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، رأت بلدان الخليج في «الحرب الشاملة على الإرهاب» فرصة لشرعنة سياساتها القمعية بدعاوى أمنية، وفي الوقت نفسه شد أواصر العلاقة مع واشنطن.إن أهداف الحرب و«تغيير النظام»( كان regim change ، الهدف الإستراتيجي المعلن للحرب في العراق، ولكنه كان أقل حضوراً إعلامياً من الهدف الثانوي، أي أسلحة الدمار الشامل)، وهي تعود اذاً وبالمقدار نفسه الى الرغبة في تجنب ظهور نظام معاد لمصالح الولايات المتحدة، وإلى تعزيز الحضور الإقليمي الأميركي بهدف السيطرة على عوامل «منع الوصول». فلو أن نظام صدام حسين سقط بسبب ثورة إسلامية عراقية تساندها ايران، أو حرب أهلية على الطريقة السورية التي تتضمن خطر الانفجار غير القابل للادارة، لكانت الولايات المتحدة عجزت عن بناء نظام النفوذ الذي أنشأته بعد 2003. نظام بغداد ليس عميلا للأميركان، ولكنه ينتهج شراكة ثنائية حقيقية، كما أن المكاسب الإستراتيجية الموضوعية للحرب في العراق لا يمكن نقض اتجاهها في المدى المتوسط. يتعلق الأمر بـ:- نزع سلاح دولة كانت معتبرة قبل غزو الكويت التهديد العسكري الأول في المنطقة (بما ان ايران ضعفت كثيرا بسبب الحرب العراقية الايرانية).- تطبيق لا مركزية (وإضعاف) الدولة العراقية بواسطة الفدرالية «الناعمة» (soft federalism ) بل والمناطقية، كوسيلة لتأبيد ادوات الضغط على المركز بواسطة «تقاسم السلطة» او المحاصصة (powersharing)، بالحد من مفهوم المواطَنة الذي يستند الى الوحدة الوطنية، (بغض النظر عن الاختلافات الإثنية والمذهبية).- السيطرة على البنية التحتية الإدارية العراقية في قطاعات هامة بفضل التأطير التكنوقراطي، وأيضاً عبر تأسيس مجمل قطاع الإعلام (البنى التقنية للإعلام والاتصالات).- زرع منظومة «الاتصالات والاستخبارات والاستطلاع» في السفارة الأميركية في بغداد والقنصليات والمواقع العسكرية الستة العائدة لـ«مكتب الأمن والتعاون - العراق» ( Office of Security Cooperation Iraq/ OSC-I)، وهي الهيئة العسكرية الأميركية التي اجيز لها البقاء في العراق بعد انسحاب كانون الأول /ديسمبر 2011).- تعزيز قوات الانتشار السريع الأميركية في دول الجوار (الكويت، قطر، البحرين، الإمارات وفي الخليج)، مع إمكان التدخل في العراق إذا ما طلبت الحكومة العراقية ذلك.- إمكانات ردع الدول المعادية في المنطقة انطلاقاً من العراق بفضل نفوذها والوجود العسكري /الاستخباراتي والعلاقات المباشرة مع المسؤولين العراقيين، وغير المباشرة بمختلف الشبكات.كما يستمر الهدف المتعلق بالطاقة حاسماً حتى بعدما أعلنت الولايات المتحدة عن اكتشافاتها التكنولوجية الجديدة للاستخراج (طورت الولايات المتحدة استخراج النفط الخام بنسبة 50 في المئة بين 2005 و2013، فانتقل من5 ملايين الى عشرة ملايين برميل في اليوم)، ما يجعل الولايات المتحدة اكبر منتج للنفط من خارج الاوبك. ويضاف إلى ذلك تطوير استخراج الغاز الحجري. ولكن الهدف الجيو - سياسي المتعلق ببترول الخليج بقي وسيستمر جزءا من الإستراتيجية الأميركية لسببين رئيسيين: بترول المنطقة ما زال يحدد سوق الطاقة وبالتالي توازن الاقتصاد العالمي، والحلفاء كما المنافسين، وبالتحديد الصين، ما زالوا مرتهنين بالتزوّد من المنطقة، وبالتالي، فإن خيار الضمان الأمني لتدفق الطاقة ولمصادرها يبقى هدفاً إستراتيجياً بالنسبة للولايات المتحدة.وبفضل إنتاج حالي يصل إلى 3 ملايين برميل في اليوم، وما يفترض أن يصل إلى 4.5 ملايين برميل في 2015، فالعراق هو عاشر أكبر منتج للنفط في العالم، ويمكنه أن يبقي جزءاً من إنتاجه في الاحتياط. وهذه الطاقة الاحتياطية هي ما يمنح العراق دوراً إستراتيجياً في السوق، كمنافس مباشر للسعودية التي يمكنها أن تعوض أي نقص أو انقطاع في التدفق في السوق. وعلى المدى البعيد، فإن تطوير الإنتاج العراقي من النفط يمكن أن يوفر ثباتاً في سوق الطاقة العالمي وإذاً في الاقتصاد العالمي. وبدون البترول العراقي يمكن للأسعار ان تلتهب ارتفاعاً.المصلحة الأميركية الأولى حيال النفط العراقي تكمن إذاً في ضمان ثبات السوق بواسطة الوصول الى الاحتياطيات العراقية، وهي نظرية مكررة منذ الثمانينيات. وبهذا المعنى، فإن حربي الخليج كانتا من اجل ضمان «الوصول» (بمعناه كحرية تحرك وتدخل)، وإنما وأيضا كانتا حروباً نفطية.
الحضور العسكري الأميركي في المنطقة
لطالما اعتبر الخليج العربي «بحيرة أميركية». وهذا تغير لمصلحة الوجود في منطقة آسيا الباسيفيكي (اليابان، كوريا والفيليبين). ولكن ومنذ بدء العمليات في العراق، و«الحرب الشاملة على الإرهاب» اصبح الخليج كثيف العسكرة، مع وجود شبه دائم لحاملتي طائرات أميركيتين (ما يعني 30 سفينة و22 ألف بحّار) ووجود دولي في إطار «القوة المشتركة وقوة محاربة الارهاب» (CJTF150). وقد أعلنت الولايات المتحدة بوضوح أن الـ40 ألف جندي الموجودين في الخليج يمكنهم التدخل السريع في حال وقوع مجابهة كبرى في العراق. وبناء على الاتفاق الثنائي للأمن في 2008، غادرت القوات الأميركية الأراضي العراقية في آخر 2011، ولكن عدداً غير معلن (طالما ظلت الوضعية القانونية لهم غير محسومة وفق اتفاقية تحدد حقوق وامتيازات أفراد القوات الأميركية خارج بلادهم وحصانتهم القضائية خصوصاً، ما يقال له Status of Forces Agreement )، بقوا كمدربين ومستشارين ومشغلين لنظام ISR ومنظومات السلاح الأميركي. ويقدر أن الوجود الأميركي بعد الانسحاب مكون من 17 ألف شخص، أغلبهم متعاقدون من القطاع الخاص، من بينهم 5500 موظف في شركات الأمن الخاصة. وهناك فحسب 650 دبلوماسياً وبضعة مئات من الإداريين، وبالأخص من الوكالات المتخصصة كـ USAID .أما البعثة العسكرية فمكونة من 150 الى 260 عسكرياً، ومدنيين مرتبطين بالبنتاغون (ومجموعهم 8900 شخص) ويستفيد العراق من مساعدة أميركية لتمويل الحصول على السلاح قيمتها 11.9 مليار دولار. وتبرر واشنطن استمرار هذا الوجود بضعف قدرات الجيش العراقي وبأن سلاح الطيران العراقي لم يمكنه تنفيذ طلعات إلا من وقت قريب . ويقول رئيس الأركان العراقي إن جيشه لن يمكنه تحقيق الاستقلال الذاتي الكافي قبل 2020.
إدارة الانتقال؟
ينبغي النظر الى الإستراتيجية الأميركية حيال العراق بوصفها جزءا من الإطار الأشمل لمنطقة «الشرق الأوسط الكبير» التي تهدف، وبطريقة وقائية واستباقية، الى وضع منظومات وتدابير للسيطرة والتطبيع والاقتصاد و«المجتمع المدني» (ومنها المنظمات غير الحكومية الخ) بموازاة المنظومات العسكرية التي يمكنها حماية موقع قوة للفاعلين الأميركان في المستقبل.المبادرات الأميركية التي أطلقت بعد 11 أيلول وبعد حروب أفغانستان والعراق هي إذاً منظومات القوة الناعمة المرتبطة باستراتيجيات التدخل العسكري ضد الإرهاب وضد كل عوامل «منع الوصول». بعد خطاب اوباما في القاهرة 2009، الذي دعا فيه إلى انطلاق إصلاح ديموقراطي في العالم العربي، طلب الرئيس من الكونغرس زيادة ميزانية دعم الدمقرطة التي انتقلت من 800 مليون دولار الى مليار ونصف المليار دولار، 86 في المئة منها تصرف في العراق وأفغانستان وباكستان.إن سقوط نظام حليف يتضمن مخاطر إستراتيجية مؤكدة للولايات المتحدة، وهو ما يفسر الدعوة الى سياسة الانفتاح السياسي الحذر. وفي الأمر مفارقة. فإن نظاماً أوتوقراطياً يُقْدِم على بعض الإصلاحات لا يصبح نظاماً ديموقراطياً، بل نظاماً نصف أوتوقراطي هش حيال التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية. وبالمقابل فإن قوى المعارضة التي تصل إلى السلطة السياسية بعد سقوط جزئي لنظام أوتوقراطي ليست بالضرورة مؤيدة لاستمرار علاقة إستراتيجية قوية مع الولايات المتحدة. وأما الحل المقترح للتخفيف من فعل مفارقة الأنظمة نصف الأوتوقراطية التي تضعفها الإصلاحات وتخلي المجال لقوى معادية للولايات المتحدة فيقوم على مفهوم تقاسم السلطة (power sharing). ترى الإدارة الأميركية أن خيار توزيع السلطة أو تقاسمها بين قوى سياسية متعددة على المستويين الوطني والمحلي هي وسيلة للخروج من أزمات شرعية الأنظمة الأوتوقراطية، ووسيلة لتهدئة الاستياء الشعبي حيال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، و«مرحلة نحو الدمقرطة». وهي أيضاً طريقة لإنهاء الدول المركزية القوية لمصلحة صيغ من الفدرالية المرنة. وهي في جانب منها تتيح للفاعلين الأميركيين (الرسميين والخاصين وأجهزة الاستخبارات ) إنشاء شبكات للنفوذ داخل البنى الاجتماعية التي تكتسب بفضل المحاصصة وزناً في القرارات السياسية، وتحديداً القبائل والأقليات والسلطات المحلية والناشطين من المجتمع المدني.. وبهذا المعنى فمن الواضح أن العراق استخدم كحقل تجارب.
*النص بالعربية منشور مختصراً (بالاتفاق مع فصلية «نقد» الجزائرية.
*النص كاملاً بالفرنسية على الموقع