في العدوان الأخير على غزة، والذي تلا حضورًا فلسطينيًا كبيرًا وجديدًا في الفضاءات الرقمية حول قضايا الشيخ جراح والأحياء الفلسطينية الأخرى التي كانت، وما زالت، مهدّدة بتطهيرها عرقيًا من سكانها لاستبدالهم بصهاينة من كل مكان، ظهرت للعالم وبأشكال عدة الترجمة البصرية للهوية الفلسطينية. وإلى جانب صور عديدة من أراشيف قديمة لفلسطين، ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي ملصق ألفبائية فلسطين الصادر عن دار الفتى العربي، وبرز بقوة في هذه الفضاءات، معيدًا إلى الأذهان أعمال هذه الدار.
دار الفتى العربي هي أول دار نشر عربية للأطفال، أنشئت عام 1974 في العاصمة اللبنانية بيروت، واستمرّت حتى عام 1994. وخلال هذه السنوات أصدرت الدار 178 عملًا للأطفال، توزّعت على 17 سلسلةً لمختلف الفئات العمرية، منها «سلسلة قوس قزح» و«سلسلة الأفق الجديد» و«سلسلة من حكايات الشعوب».[1] نشأت الدار، التي مولها أكثر من 15 رجل أعمال فلسطينيين، عن مركز البحث والتخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. ورغم هذا الارتباط بالمنظمة، إلّا أن الفنانة نوال الطرابلسي، والتي عملت في الدار خلال سنواتها الأولى، تقول إن منشورات الدار كانت مجرّد برنامج ثقافي صادر عنها ولم يكن هناك توجيه سياسي واضح للمنشورات من قبل المنظمة، على الأقل في سنواتها الأولى.
بعد أبحاث علميّة كثيفة في المجالات الاجتماعية والنفسية والتعليمية، أُسسّت الدار بمبادرة من نبيل شعث، عضو المجلس الثوري لحركة فتح ومدير مركز التخطيط الفلسطيني حينها، ومحجوب عمر، الطبيب والشاعر المصري الذي التحق بالثورة الفلسطينية، إلى جانب باسم سرحان، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس القسم التربوي في مركز التخطيط الفلسطيني. ضمّت الدار عددًا كبيرًا من المنخرطين في مجالات العلوم النفسية والتربوية والأدبية، فشغل الكاتب زكريا تامر منصب المدير الفني، أمّا كمال بلاطة فكُلّف بوضع التصور العام الفني لسلاسل الدار المختلفة وإخراجها، إلّا أنه بعد ستة أشهر من عمل بلاطة في الدار، استكمل أعماله الفنان المصري محيي الدين اللباد. كما شارك في أعمال الدار صنع الله إبراهيم وغسان كنفاني وبرهان كركوتلي وحلمي التوني.
يذكر اللباد أن الدار كانت تهدف في بداياتها إلى نشر 67 كتابًا للأطفال قبل نهاية العام 1974، أي خلال سبعة أشهر فقط. ويعلّق على هذا الهدف بالقول إن ذلك «لم يكن هدفًا منطقيًا ولكن بطريقة ما وبأعجوبة، حققنا هدفنا». إلا أن ذلك أدى، بحسب اللباد، إلى فشل ذريع في إدارة الدار وفي توزيع إنتاجها، ما دفعه لاقتراح فصل العملية الفنية عن العملية الإنتاجية في الدار، مفضّلًا أن تركز الدار على إنتاج المحتوى فقط، عوضًا عن الإنتاج والنشر. لم يعجب هذا المقترح شعث، فعاد اللباد من لبنان إلى مصر بعد السنة الثانية وبقي على عمله مع الدار من هناك.
شارك صنع الله إبراهيم في إنتاج المحتوى العلمي للدار، ومن بين ذلك الإنتاج «سلسلة الحكايات العلمية للصغار». وإلى جانب هذا المحتوى نَشرت الدار سلاسل لفئات عمرية مختلفة مثل «سلسلة قوس قزح» للأطفال بين ثلاث وست سنوات، و«سلسلة أتوماتيك» للأطفال بين أربع وسبع سنوات، لتعليمهم عن الأشكال والألوان. ذلك إلى جانب «سلسلة حكايات الوطن» و«الأرقام» و«سلسلة مستقبل الأطفال» التي تستهدف الأطفال من عمر ست إلى تسع سنوات، و«سلسلة الأفق الجديد» للأطفال بين سبع و12 سنة، والتي تضمّ قصصًا مثل «القنديل الصغير»، و«السمكة الصغيرة السوداء» و«قالت لي الحجارة». أصدرت الدار سلاسل شعرية أيضًا ضمت قصائد لمحمود درويش وأمل دنقل وغيرهما. كما شملت إصداراتها الملصقات الفنية والطوابع وقصصًا من التراث العربي والحكايا الشعبية العربية والعالمية المترجمة.
عمدت الدار، منذ أول أيامها، إلى تشكيل هوية بصرية جديدة للأطفال العرب. وعلى ذلك يعلق اللباد، في مقابلة مع مجلّة «بدون» عام 2010 بالقول: «تخلصنا من رسومات ميكي ماوس وتوم وجيري. وكانت الفكرة تتمثّل في تقديم جماليات جديدة وفي الوقت نفسه قوية بصريًا وكاملة من الناحية الفنية». إلى جانب الهوية البصرية للدار، فإن من أهم الركائز التي أسست عليها هي القضية الفلسطينية وأهمية الالتزام بها، إلى جانب السعي إلى تخليص المجتمعات العربية من عوامل التخلف، وهو ما عنى الحدّ من الاعتماد الزائد على الثقافات الأجنبية واستدخالها، بدلًا من الثقافات العربية وقدراتها التحريرية.
*بقية التقرير على موقع "حبر".