السجون المصرية تعمّق جراح الفقراء

ولا يمكن فصل ما يحدث داخل السجون، من مشاريع ربحية وبيع السلع بأسعار جنونية للسجناء، عن السياق العام والتوجه الاقتصادي للدولة، وسياسة التعويم وأثارها على المواطن الفقير. وفي هذا المناخ الاقتصادي الخانق، وعدم تحمل أهالي السجناء تكاليف وأعباء الزيارة، فهناك من السجناء من قلّت أو انقطعت عنهم الزيارة، وخصوصاً ممن طالت فترات حبسهم.
2021-08-29

إسلام ضيف

كاتب صحافي


شارك
محمود العبيدي - العراق

لا مجال للمفاضلة، فالانتهاكات جميعها داخل السجون موغلةٌ، جميعها تجرف الروح وتنخر الجسد. وعلى الرغم من هذا، يمكن القول إن الانتهاكات القائمة على الاستغلال الاقتصادي تمثل ما هو أبعد من الأذى، بل هي تتيح قراءةً كاملة للواقع الاجتماعي من خلف القضبان.

 إنه جرح الفقر الذي لا يندمل داخل الأسوار، بل يتم تعميقه من خلال الأعراف المتبعة، والنهج الإداري والواقع الذي تفرضه السلطات القائمة على السجون وأماكن الاحتجاز في مصر.

غرف احتجاز أم غرف تجارية

هي المحطة الأولى التي يمر بها السجين خلال تجربته: إيداع المتهم داخل غرف الاحتجاز التابعة لأقسام الشرطة لحين ترحيله إلى سجن عمومي، باعتباره في فترة تحقيق على ذمة قضية، مع العلم أنه في كثير من الأحيان لم تكن تلك هي المحطة الأولى. فكما عودتنا السلطات المصرية في القضايا السياسية على سبيل المثال، فهي تتبع سياسة الإخفاء القسري بمقرات الاحتجاز السرية التابعة لجهاز الأمن الوطني، وقد يمتد الاحتجاز فيها لفترات طويلة.

تأخذ غرف الاحتجاز التابعة لأقسام الشرطة في مصر سمةً "تجارية". فهناك غرف متكدسة بلا تهوية يستحيل السير فيها دون الاحتكاك بأجساد المحتجزين، تقاس المساحة فيها للشخص الواحد بـ "شبر وقبضة يد"، وهناك الغرف التي تتوفر فيها بعض الخدمات، ويستطيع المحتجًز أن يحصل على مساحة تكفيه للجلوس والنوم على الأقل، ويقطنها فقط من يملك ثمن ذلك. قد تجد هذا التفاوت أيضاً داخل الغرفة الواحدة فتنقسم إلى قسمين: قسم يملك ثمن الاستحواذ على المساحة الأكبر من الغرفة، وبعض التسهيلات من السجان والامتيازات الأخرى، وآخر لا يملك إلا أن ينغمس في وحل غرف الاحتجاز، وتلقّي الإهانات من القائمين على الغرفة، أو من السجّان ذاته باعتباره المستفيد الأول من هذا الوضع.

كيف تدار تلك التجارة - التجارة في الحد الأدنى لحقوق المحتجزين - لصالح السجّان؟

بعكس السجون، لا توجد قوانين أو لوائح تنظم أماكن الاحتجاز التابعة لأقسام الشرطة في مصر، مما يمنح أفراد الشرطة القائمين على القسم حريةً في التصرف، وصلاحيات تصل إلى هذا الحد من الاستغلال، والتصرف بشأن أماكن الاحتجاز باعتبارها ملكيتهم الخاصة ولهم حق الاستفادة منها. يعيّن على كل غرفة احتجاز مسؤولٌ خاص بالغرفة، في أغلب الأحيان يكون هذا الشخص هو أكثر المحتجزين سيطرةً وصاحب كلمة مسموعة، يعرف باسم "النباطشي"، ويتم تعيينه بالتنسيق مع أمناء الشرطة. تكمن وظيفة هذا الشخص في إدارة الغرفة، وجمع المبالغ المالية يومياً من المحتجزين، ثم يقوم بتسليمها لأمناء الشرطة، ويمكنه الاستفادة بنسب مالية مستخدماً طبيعة سلطته على باقي المحتجزين. وعلى هذا الأساس يقوم بتوزيع مساحات الجلوس والنوم على أفراد الغرفة، فيؤدي دور المندوب الوسيط المخوّل التعامل مع الأمناء من جهة، والمحتجزين من جهة أخرى. فهو أداة بيد السجّان يعمل على ترسيخ قواعد وأعراف وضعها أصحاب الزي الميري بغاية الربح، بالطرق التي تجعل مصير محتجز فقير هو النوم يومياً بجانب دورة المياه على أرضية تفوح منها روائح عفنة. لم يصل الأمر إلى هذا الحد وحسب، بل يتم استغلال هؤلاء عن طريق إجبارهم على القيام بأعمال خدمية كجمع القمامة في الصباح، وإخراجها خارج الغرفة، أو القيام بأعمال نظافة لصالح من أنقذه ماله وخفف من معاناة حبسه.

تأخذ غرف الاحتجاز التابعة لأقسام الشرطة في مصر سمةً "تجارية". فهناك غرف متكدسة بلا تهوية يستحيل السير فيها دون الاحتكاك بأجساد المحتجزين، تقاس المساحة فيها للشخص الواحد بـ "شبر وقبضة يد"، وهناك الغرف التي تتوفر فيها بعض الخدمات، ويستطيع المحتجًز أن يحصل على مساحة تكفيه للجلوس والنوم على الأقل، ويقطنها فقط من يملك ثمن ذلك.

وفي ظل عدم التزام الكثير من أقسام الشرطة بتقديم "طعام التعيين" - وهو الطعام الذي تقدمه وزارة الداخلية - إلى المحتجزين داخل أماكن الاحتجاز، يلجأ المحتجز إلى الاعتماد على الوجبات الغذائية التي من الممكن شراؤها من الخارج، أو الطعام القادم من الأهالي عن طريق الزيارة. أما من انقطعت عنه الزيارة، ونفذ رصيده المالي، فتخالطه مشاعر الحرج والبؤس والشعور بالعطف عليه من قبل الآخرين، مما يضيف المزيد من القهر، بل من أشد أنواع القهر إلى تقييد حريته.

نزلاء السجون.. بين "الميري" و"الملكي"

"السجون دار إصلاح تنفذ بها العقوبات السالبة للحرية طبقاً لأحكام القانون، وتخضع للإشراف القضائي، وتهدف إلى رعاية وتأهيل المحكوم عليهم اجتماعياً وثقافياً". المادة 1 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956

على الرغم من وجود لوائح تنظم السجون، إلا أن واقع المعاناة الاجتماعية والاقتصادية للسجناء لا يختلف كثيراً عن الواقع المعاش للمحتجزين. 

للفقر تداعياتٌ سلبية على الفرد والمجتمع، وقد يقود الإنسان إلى التجاوز وارتكاب الجريمة، فكيف لمجتمع كمجتمع السجن في مصر أن يرتقي بالسجناء، ويعمل على تأهيلهم، وهو في حقيقة الأمر يبتزهم بتعزيزه للفوارق الاجتماعية يومياً؟ لقد تم نقل طبقيّة الخارج إلى الداخل، وانتقل معها شعور العوز والحاجة الذي أصبح يطارد هؤلاء السجناء، ويحول بينهم وبين التأهيل الاجتماعي والثقافي الذي نصّت عليه تلك اللوائح الموضوعة منذ عشرات السنوات. وكالعادة توجد مسافة طويلة بين النص القانوني، وبين الواقع المنافي له.

"الميري" بلغة السجون، هو أحد المصطلحات التي يستخدمها السجناء لتدل على رسمية الشيء وارتباطه بنطاق السجن فقط. فعلى سبيل المثال، يتم وصف طعام "التعيين" بالطعام "الميري"، وعلى العكس يوصف الطعام القادم من خارج السجن، أو الذي يتم شراؤه من منافذ البيع داخل السجن ("الكانتين") بالطعام "الملكي". ودائماً يرتبط الميري بالشيء الرديء منخفض الجودة، يُقبل عليه الفقراء من المساجين. أما "الملكي" فأعلى في الجودة كثيراً، ورواده الدائمون هم من طبقة الأقلية الثرية المعروفة داخل السجون باسم طبقة "البكايتة" التي لا تخلو حقائبهم من البونات الورقية، أو من السجائر كعملة شائعة مستخدمة داخل السجون. وهم يرتدون الزي الملكي الذي تختلف خاماته عن الخامات الرديئة للزي المعتاد، ويتشابهان في اللون فقط.

لا توجد قوانين أو لوائح تنظم أماكن الاحتجاز التابعة لأقسام الشرطة في مصر، مما يمنح أفراد الشرطة القائمين على القسم حريةً في التصرف، وصلاحيات تصل إلى هذا الحد من الاستغلال، والتصرف بشأن أماكن الاحتجاز باعتبارها ملكيتهم الخاصة ولهم حق الاستفادة منها.

"يجوز للمحبوسين احتياطياً استحضار ما يلزمهم من الغذاء من خارج السجن أو شراؤه من السجن بالثمن المحدد له، فإن لم يرغبوا في ذلك أو لم يستطيعوا صُرف لهم الغذاء المقرر". المادة 16 من قانون تنظيم السجون

يروي لنا أحد السجناء السابقين على ذمة قضية سياسية، والذي تم اعتقاله لعامين، بأن ما يقدم من كمية طعام مقرر غير كافية، وتكون غالبيته رديئةً، فالأرز من الدرجات المتدنية، واللحم الذي يتم تقديمه مرتين أسبوعياً غير مطهي بشكل جيد، وذَكر أن السجناء كانوا لا يستطيعون تناول الطعام لقذارته.

"الكانتين".. أرباح على حساب الأرواح السجينة

منافذ بيع تجارية تفتتحها السلطات داخل السجون، تهدف إلى الربح من وراء معاناة السجناء وذويهم المترددين على السجون لزيارتهم. تباع السلع الأساسية وأدوات النظافة الشخصية داخل "الكانتين" بأسعار باهظة، حيث تبلغ الزيادة في أسعارها في بعض السجون 25 في المئة أكثر من السعر المعتاد في السوق، لتصل في سجون أخرى إلى 100 في المئة أو الضعف. ومعظم المتوفر في "الكانتين" هي السلع الأساسية، مثل السكر، والأرز، والملح، والزيت، والشاي، ولذلك تقوم إدارة السجون، في سبيل تعظيم أرباحها، بمنع دخول هذه السلع في الزيارات، لإجبار السجناء على الشراء من "الكانتين" بأسعار مضاعفة، وبالتالي إجبار الأهالي على إيداع مبالغ مالية باسم السجناء بأمانات السجن ليتم صرفها على هيئة بونات ورقية تستخدم في التعاملات مع الكانتين، مما يخلق عبئاً اقتصادياً كبيراً لا يمكن للكثير من العائلات تحمله.

"الميري" بلغة السجون، هو أحد المصطلحات التي يستخدمها السجناء لتدل على رسمية الشيء وارتباطه بنطاق السجن فقط. فعلى سبيل المثال، يتم وصف طعام "التعيين" بالطعام "الميري"، وعلى العكس يوصف الطعام القادم من خارج السجن، أو الذي يتم شراؤه من منافذ البيع داخل السجن ("الكانتين") بالطعام "الملكي". ودائماً يرتبط الميري بالشيء الرديء منخفض الجودة، يُقبل عليه الفقراء من المساجين.

ولا يمكن فصل ما يحدث داخل السجون، من مشاريع ربحية وبيع السلع بأسعار جنونية للسجناء، عن السياق العام والتوجه الاقتصادي للدولة، وسياسة التعويم وأثارها على المواطن الفقير. فتش عن أحكام الاستعمار أو "صندوق النقد الدولي"! ومع هذا المناخ الاقتصادي الخانق، وعدم تحمل أهالي السجناء تكاليف وأعباء الزيارة، فهناك من السجناء من قلت أو انقطعت عنهم الزيارة، وخصوصاً ممن طالت فترات حبسهم. لقد شق الكثيرون منهم طريقهم، ودفعتهم الظروف إلى العمل مقابل أجر داخل السجون في خدمة سجناء آخرين. على سبيل المثال، منهم من يجمع الثياب المتسخة كي يقوم بغسلها مقابل أجر، ومنهم من لجأ للعمل في "الكانتين" أو في تيسير بعض المهمات التنظيمية الخاصة بالعنابر.

***

تمضي السلطات المصرية في طريقها لإنشاء المزيد من السجون. صدرت أربعة قرارات جديدة في شهر حزيران/ يونيو 2021، من قبل اللواء وزير الداخلية، بإنشاء 8 سجون مركزية جديدة في 4 محافظات. يحدث ذلك في ظل أوضاع كارثية للسجون، وقمع للمعارضين، ومعاقبتهم بالحبس، بينما تعصف ظروف اقتصادية صعبة بالطبقة العاملة المصرية. 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه