المعطى الجيوستراتيجي الجديد في المغرب والمشرق

تنشر السفير العربي تباعاً، بالاتفاق مع مجلة "نقد" الصادرة في الجزائر، مجموعة من النصوص البحثية حول الموضوع. تقول "نقد" في تقديمها للعدد 31 (خريف 2013 وشتاء 2014) الذي يحمل النصوص المشار اليها: "... من الجلي أن موازين القوى على المستوى العالمي قد بدأت تتغير جذرياً. أصبحت الحدود الموروثة عن القرنين التاسع عشر والعشرين حدوداً متحركة بل قابلة للاختراق، وفي الوقت ذاته بدأت السيادات الإقليمية
2014-01-29

سليم شنة

باحث من الجزائر، مؤلف كتاب "حركات العبور الهجرية في الجزائر المعاصرة"، الصادر بالفرنسية، 2016.


شارك
صحراء "الهقار" (الأحجار) ـ الجزائر

تنشر السفير العربي تباعاً، بالاتفاق مع مجلة "نقد" الصادرة في الجزائر، مجموعة من النصوص البحثية حول الموضوع. تقول "نقد" في تقديمها للعدد 31 (خريف 2013 وشتاء 2014) الذي يحمل النصوص المشار اليها: "... من الجلي أن موازين القوى على المستوى العالمي قد بدأت تتغير جذرياً. أصبحت الحدود الموروثة عن القرنين التاسع عشر والعشرين حدوداً متحركة بل قابلة للاختراق، وفي الوقت ذاته بدأت السيادات الإقليمية والوطنية تتبخر. كما أن الإحالة إلى الإقليم في العلاقات الدولية بدأت تختفي.
وهكذا نلاحظ تعدد الفضاءات التي لم تعد الدولة تتدخل فيها، إذ توارت سيطرتها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدولة تواجه منافسة من قبل منظمات أخرى غير تابعة للدولة (المنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات) بينما قراراتها تؤثر بشدة في قرارات الدولة وفي العلاقات التي تربطها بالدول الأجنبية.
بدأ بظهر، خلسة في بادىء الأمر، ثم أكثر وضوحاً من بعد، نوع من "تجريد الدولة من الجنسية" (وفق تعبير ساسن سوكند). لقد أضعفت العولمة أقساماً كاملة من الدولة، إذ لم تعد هذه الأخيرة، في العديد من الحالات، إلا "حارسة البوابة" التي تجرّد تدريجياً من سيادتها من دون أن تختفي مؤسسياً، وتتنازل تدريجياً عما يشكل وظيفتها: الدفاع عن مصالح الأمة والحفاظ عليها. وهكذا، تنهار مؤسسات، وتواجه أخرى أزمات، أو تفقد معناها وتتخلى عن مهامها...".
وبانتظار إتمام ترجمة نص سعيدة بدار: "استراتيجية الولايات المتحدة في العراق وفي منطقة الخليج"، نبدأ بنص سليم شنة: "الدولة في العلاقات العابرة للأوطان، حالة الفضاء الصحراوي. الساحلي"، يليه نص مانليو دينوتشي: "تمزيق أوصال ليبيا"، ثم رافائيل غرانفو "من الجيش الاستعماري إلى الجيش الاستعماري الجديد". وتلك بعض من نصوص "نقد" فحسب، وأما الأخرى فلا تقل أهمية عن هذه التي اخترناها.

****************************

 الدولة في العلاقات العابرة للأوطان
حالة الفضاء الصحراوي – الساحلي
يغطي الفضاء الصحراوي – الساحلي منطقة جنوب المغرب والساحل، وهو في الوقت الحاضر أحد النقاط الساخنة في السياسة الدولية في إفريقيا. فبعد انتفاضة الطوارق في مالي  (كانون الثاني/يناير  2012) التي ساعد وقوعها على سقوط نظام معمر القذافي، ثم هجوم الحركات الإسلامية بعد ذلك بعام (في شمال مالي)، أُعدّ لتدخل أجنبي في تلك المنطقة بمشاركة فرنسا وتشاد وبعض أعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
وبهذا تحولت تدريجيا صورة هذه المنطقة الصحراوية الواسعة، ذات الثقافة المعقدة والتاريخ الثري، من "منطقة معرضة للخطر" بسبب المشاكل البيئية والسوسيو- اقتصادية، إلى "منطقة خطِرة" مكوَّنة من دول ذات سيادة محدودة وتعرف حركة تهريب واسعة. وصاحَب الخطاب حول الخطر في منطقة الساحل (منذ اختطاف ثلاثين سائحا أوروبيا في 2003 )، وبرّر تطوير برامج تعاون وتدريب عسكري تحت الوصاية الأمريكية، كان قد شُرع فيها فعلياً خلال التسعينيات من القرن الماضي.
وبالتوازي، زاد الحضور الدائم للجماعات الإرهابية، وشراكتهم مع الجريمة المنظمة العابرة للأوطان، في إضعاف سيادة الدول المحلية القائمة في المجال الصحراوي – الساحلي. وهي سيادة كان قد مُس بها أساسا من قِبل السياسات التي تتبعها المؤسسات المالية الدولية، وممارسات النهب والفساد من قبل النخب المحلية.
من جهة أخرى، حدّ التعدّد الثقافي والعرقي لهذه البلدان، بالإضافة إلى صورتها المتمثلة في مجموعة مناطق استوائية" ("مفيدة")  ومناطق صحراوية جرداء  ("غير مفيدة")، حدّ من بروز أمم منسجمة تقودها دول تمثيلية تضمن توازنا تنمويا داخليا، وساعد على ظهور خطاب وتصورات سوسيو – سياسية متنافسة.
تَظهر حالة الصحراء ـ الساحل كمثال على الأهمية المتزايدة للعلاقات العابرة للأوطان في السياسة الدولية: فإذا كانت السياسة الدولية تساهم فيها دول ذات سيادة، فإن الموقف يحيل إلى فاعلين من غير الدُّول، بل يمكنهم أن يكونوا أحيانا معادين لها. لكن "الدولة"مع ذلك لم تختف من الفضاء الصحراوي ـ الساحلي.  
فالدول هي التي قادت الهجوم في شمال مالي، وتقوم" الشركات العابرة للأوطان" بالتفاوض مع الدول حول استثماراتها، وهناك موظفون ومسؤولون في الدول متواطئون على ما يبدو في الاتجار والتهريب السائدين في المنطقة...

***

النزعة العابرة للأوطان في العلاقات الدولية
يبدو أن مصطلح "العابر للأوطان"  قد استُعمِل لأول مرة من قبل الكاتب التقدمي الأمريكي راندولف بورن في مقال تحت عنوان:"Trans-National America" الذي نُشِر بمجلة "ذي أتلانتيك مونثلي" The Atlantic Monthly  في  1916. يشير بورن بهذا المصطلح إلى ظواهر الانتماء المتعدّد للمهاجرين بالولايات المتحدة ردا على المذاهب الاستيعابية الأنجلو – ساكسونية.
ففي سياق الحرب العالمية الأولى، كان يَنظر إلى هذه الظاهرة نظرة إيجابية لأنه كان يمكن لأمريكا عندها أن تخلق كوزموبوليات جديدة تدعم النمو الأخلاقي والاقتصادي للبلد، وتدعم، على وجه الخصوص، وحدتها الوطنية من خلال تعلم تدريجي للمهاجرين لقوانين وقواعد السياسة الأمريكية والذين سيحتفظون مع ذلك بخصوصياتهم الثقافية. أما في المجال الأكاديمي، فقد اشتهر مصطلح "العابر للأوطان" لأول مرة سنة 1971 عندما ظهر أحد أعداد المجلة الأمريكية InternationalOrganisation تحت عنوان Transnational relations and world politics  الذي حلل فيه باحثون في مجال العلاقات الدولية المكانة المتنامية التي كان قد احتلها الفاعلون من غير الدولة في السياسة العالمية: الشركات متعددة الجنسيات، المنظمات غير الحكومية، حركات الكفاح المسلح، حركات العمال ... ولقد جاء روبرت كيوهان وجوزيف ناي بنظرية النزعة العابرة للأوطان التي ترفض نموذج تفسير العلاقات الدولية المتمحورة حول الدول، وحول المكانة البارزة الممنوحة للعلاقات القائمة على القوة، وعلى الفصل المفتعل بين السياسة الداخلية والخارجية.. وقام ناي، بالمناسبة، بنشر مفهوم "القوة الناعمة" Soft Power فيما بعد، وهو مفهوم يصف مختلف الوسائل غير القسرية لتأثير الدولة في العلاقات الدولية.  وفي المستوى النظري، يساير التيار الداعم للنزعة العابرة للقارات، التغييرات التي طرأت على الساحة الدولية: فاعلون جدد، إشكاليات جديدة، ظهور الأقطاب المتعدّدة ...  التي أضعفت التفسيرات التقليدية. فمن جهة تعتبر السياسة الخارجية، حسب الواقعيين، من صنع الدولة /الأمة ويقودها، بصورة عقلانية، رئيس دولة بهدف تلبية مصالح موضوعية مستقرة نسبيا في الزمن.
من جهة أخرى، تضع النظرة الليبرالية الفرد واختياراته وحقوقه في قلب العلاقات الدولية، وتقدّر أن المنافسات بين الدول يمكنها أن تُخَفَّف من خلال التعاون والمُبادلات، وتدافع عن مواقف تطوّرية للنظام الدولي. فمنذ حرب الفيتنام، والإخلاء المحموم للسفارة الأمريكية بسايغون في 1975، والأهمية المتصاعدة للمؤسسات المالية الدولية والشركات العابرة للأوطان في تحديد السياسات الاقتصادية للدول، وصولا إلى اعتداءات 11 سبتمبر 2001، والتنقلات البشرية المعاصرة المهمة، وهيمنة رأي المال المالي على الاقتصاد.. يبدو أن النموذج العابر للأوطان يصف على نحو ملائم حقيقة عالمية زعزعها تطور الاقتصاد السياسي العالمي وتفريد المؤسسات، ونهاية النظام ثنائي القطبية، وتطور الحروب اللامتماثلة.
يبدو أن الفضاء الصحراوي – الساحلي يرمز الآن إلى هذا التموضع القسري للدولة في مواجهة الفاعلين من غير الدول والعلاقات العابرة للأوطان. وحالة مالي هي في هذا الصدد نموذجية: فهي منطقة تجاوزتها مطالب الطوارق الإقليمية والمتعلقة بالهوية، وتعاني من العجز في مواجهة الجماعات الإرهابية والإجرامية، وتملك شرعية هشة وسيادة محلّ تفاوض مستمر. فالوضعية الحالية لدولة مالي تجسد ذروة الظروف غير المستقرة السائدة في المنطقة منذ عقود.
تشكل تاريخية الدولة وثقافتها السياسية، وعلاقاتها مع شعوبها وتصورها للأمة، والطابع الشكلي للسيادة والحدود المتعارضة مع الاستراتيجيات المتناقضة لموظفي الدولة والجماعات الاجتماعية، كلها تشكل عوامل تساهم في توجيه عملية إعادة رسم دور الدولة وممارساتها تجاه الفاعلين المنافسين أو المُوَازين. ويمكن من خلال ثلاثة أمثلة: الصحراء الجزائرية وشمال مالي والمُبادلات بالصحراء والساحل، اعتبار دور الدول في أزمة الفضاء الصحراوي الساحلي تتمثل في الدفاع عن تصورات ومصالح واختيارات المجموعات السوسيو- سياسية التي تقودها.

***

الحدود الصحراوية بالجزائر
من المؤكد أن الثقافة السياسية الجزائرية قد ورثت من الاستعمار الفرنسي ومن حرب التحرير، معاً، فكرة مركزية السلطة، والطابع الوحدوي للأمة، وحماية الأراضي، والاستقلال الوطني. وكانت  الصحراء الجزائرية قد احتلت مكانة هامة في الغزو الاستعماري الفرنسي لإفريقيا منذ أن شُكِّلت السرايا الصحراوية "المهارية" (العام 1855 من أبناء منطقة الصحراء، بحكم معرفتهم الكبيرة بها وقدرتهم على التعايش مع ظروفها الطبيعية القاسية) تحت قيادة الجنرال الفرنسي لوبْرن، ومشاريع إعادة تنظيم الصحراء على المستوى الإداري والعسكري ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكانت إرادة فرنسا خلال حرب الجزائر المتمثلة في عزل الصحراء عن المغرب العربي وإفريقيا الوسطى والغربية، قد عادت للظهور بعد الاكتشافات الأولى لمناجم الطاقة في 1956، من خلال "المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية" (1957). أرادت المنظمة وضع الصحراء الجزائرية والمناطق الصحراوية بموريتانيا ومالي والنيجر وتشاد تحت الوصاية السياسية والعسكرية نفسها. لم تدم هذه المنظمة بعد استقلال الجزائر( فقد رفض مفاوضو جبهة التحرير الوطني أي اقتطاع للأراضي)، إلا أنها كانت تمثل الرمز الأخير ل "الصحراء الفرنسية"  وللقيمة التي كانت تُنسب لها من حيث الموارد الغازية والنفطية والمعدنية، وإمكانية إجراء تجارب عسكرية فيها. وأظهرت التنازلات السرية التي منحتها جبهة التحرير الوطني الجزائري  لفرنسا، والمتمثلة في السماح لهذه الأخيرة باستعمال بعض القواعد العسكرية من أجل إجراء تجارب نووية وكيميائية ( حتى 1967 في قاعدة كولومب بشار، على بعد حوالي ألف كيلومتر جنوب غرب العاصمة)، أظهرت الطابع الاستراتيجي للصحراء بالنسبة للقوى الإقليمية والخارج ـ إقليمية.  وفيما يخص المحروقات، ضمنت اتفاقيات إفيان أولوية المؤسسات الفرنسية لمدة ثلاث سنوات في استثمارها، والدفع بالفرنك الفرنسي، والتمتع بمزايا ضريبية من شأنها أن تشجع الاستثمار والتنقيب. وكما كان متوقعا، أعيد النظر في الاتفاقيات في 29 تموز/يوليه 1965، بعد شهر من وصول الرئيس بومدين إلى سدة الحكم.  وعندها، كان همّ فرنسا ضمان هيمنتها في استثمار البترول الجزائري، ولذلك تنازلت عن استثمار الغاز للجزائر وحدها، وقبلت برفع الضريبة التي تؤديها،  واستجابت إلى طلب الجزائر في التعاون الصناعي، وقبلت التمويل لإنشاء معهد البترول لتكوين كادرات جزائرية.وفي المقابل، حصلت فرنسا على عقود إضافية للاستثمار. وقد نصت الاتفاقيات على قابلية إعادة التفاوض حول السعر المرجعي للنفط الجزائري الخام انطلاقا من1968.

وفي الوقت نفسه، انضمت الجزائر إلى "الأوبك" ،وبدأت تفكر في برامج تنميتها للسنوات العشر التالية، كما وقعت عقودا مع شركات أمريكية وفرنسية تنص على حيازة الجزائر لأغلبية الحصص. لكن الحصيلة  لم تُرض الجزائريين الذين طالبوا بمزيد من رفع الضريبة. وانتهت المفاوضات بإعلان تأميم الموارد الطبيعية في 24 شباط/فبراير1971.تحققت إذن السيادة الجزائرية على المناطق الصحراوية تدريجيا، وبحسب التطورات الظرفية:  من ضرورة الحصول على الاستقلال من خلال اتفاقيات إفيان، إلى ضرورة ضمان التنمية الوطنية والدفاع عن سياسة خارجية وطنية عند تأميم المحروقات.
وتَظهر كذلك أهمية الصحراء بالنسبة للحكومة المركزية للجزائر العاصمة بالنظر إلى الرهانات السياسية الداخلية. فبعد دخول قوات" الجيش الخارجي"(التابع لجبهة التحرير الوطني) إلى الجزائر (والذي خلف مئة قتيل) وانقلاب صيف  1962، رفض بعض القادة السياسيين والمجاهدين الموافقة على سيطرة بن بلة وبومدين على الدولة الجديدة، وهو ما أدى إلى اندلاع التمرد في بعض الولايات. في الجنوب، كان المتمردون تحت قيادة العقيد شعباني. وسرعان ما ندّد النظام الجديد ب"رغبة البعض في تقسيم البلاد"، واتُهم العقيد بأنه يريد إقامة "سلطنة الصحراء" وبعث " نظام إقطاعي" تجاوزه الزمن على حد قول بن بلة. ثم حوكِم شعباني في محاكمة عسكرية استثنائية وأُعدِم في العام  1964.
لكن، وخلا رفض الائتلاف الحاكم، لم يكن شعباني، برفقة حسين آيت أحمد بمنطقة القبائل، ومحمد بوضياف بالأوراس، يُنكر الوحدة الترابية بقدر ما كان يندّد باختيارات وتصورات الجماعات الحاكمة فيما يخص إنشاء القوات المسلحة الجديدة، والاتجاه التسلطي. وهو بهذا كان يعترض على شكل أو طبيعة الدولة الناشئة لا على حدودها.في الآونة الأخيرة، أثار القانون المتعلق بالمحروقات، الذي صُوِّت عليه في 2005 لكنه لم يُطبَق أبدا، المخاوف لجهة خطر فقدان الدولة لسيادتها على الأراضي الجزائرية. وهنا كذلك، وُجدت عوامل خاصة دفعت إلى التصويت على القانون ثم إلى إلغائه الفعلي. في بادئ الأمر، كان هذا القانون نتاج مشروع اشتركت في بنائه الدولة الجزائرية والبنك الدولي والعديد من الشركات الاستشارية العابرة للأوطان.
وهكذا، فهو  لم يكن  يُعبّر عن تفكير سيادي  بغاية إدخال إصلاحات على السياسة الوطنية في مجال الطاقة، وإنما كان بالأحرى نتاج الإجماع الاقتصادي المهيمن الموجود بين المؤسسات المالية الدولية الرئيسية والفاعلين الخاصين والنخب الجزائرية. فيما بعد، كشفت شخصية شكيب خليل، الذي كان كادرا سابقا في البنك الدولي، وفي مجال صناعة النفط بتكساس، كما اشتغل في جامعة تكساس للزراعة والمناجم الأمريكية، كشفت دور التصور الاقتصادي المهيمن في وضع هذا القانون.علاوة على ذلك، فالرجل الذي كان وزير الطاقة والمناجم من 1999 إلى 2010، هو صديق الرئيس بوتفليقة منذ الطفولة. وفي نهاية المطاف، كان قانون عام 2005  ينص على وضع حد لسيطرة الشركة العمومية "سوناطراك" على الأغلبية المطلقة في مجال الاستكشاف والاستثمار.
لكن هذه الأخيرة هي، أولا وقبل كل شيء، أداة سيادة تخدم الدولة ،أو الجماعات التي تحكمها، في السيطرة على الموارد الطبيعية الباطنية للأراضي الجزائرية، والتي تمثل فعلياً المصدر الوحيد للواردات ولاحتياطي الصرف. ولذلك، وبما أن المراسيم التنفيذية تلك كانت  تعارض التصورات التقليدية لسيادة الدولة في الجزائر، ومبادئها السياسية التاريخية، ومصالحها، فلم يتم التوقيع عليها. وليس من المستبعد أنه تم التخلي عنها نهائياً، لأنها كانت ستحدّ إلى درجة كبيرة من سيطرة جزء من النخب السياسية والعسكرية الجزائرية على الريع.
تحيل مخاطر التقسيم الإقليمي التي يتحدث عنها بعض المختصين والرسميين، إلى المستوى الدفين من  المخيال السياسي الوطني، وإلى مصالح الطبقات الحاكمة على حد سواء.
وكمثال عن هذا الإشكال، اتُهمت "اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل"،التي ظهرت انطلاقا من مدن الجنوب، واتُّهم المتظاهرون الشباب، بنوايا استقلالية، فأجاب هؤلاء على ذلك برفعهم العلم الجزائري وترديدهم النشيد الوطني: إن مسألة سيادة الدولة الجزائرية على ضواحيها الصحراوية تخدم أيضا أهدافا مرتبطة بالسياسة الداخلية وبإعادة إنتاج النظام القائم.

***


شمال مالي أو مشهد السيادة

 إذا كان يمكن للثقافات السياسية الوطنية وللأوضاع السياسية الداخلية والخارجية أن تحدد استراتيجيات الدول بخصوص بناء السيادة، فالأمر مشابه بالنسبة لتصورات الدولة والأمة التي تؤدي إلى تجسيدها. وتُوضح الإشكالية الاجتماعية والاقتصادية، وإشكالية الهوية الخاصة بشمال مالي، ثقل ما يطلق عليه أشيل مبامبي ب "الدولة اللاهوتية". تحاول هذه الأخيرة فرض "مبدأ رؤية شرعية" أي، بعبارة أخرى، طريقة الفاعلين الاجتماعيين في "النظر إلى أنفسهم وتفسير أنفسهم والعالم".
ففي حين تتمتع مالي بتنوع ثقافي مثالي، إلا أن الدولة حاولت توحيد الأمة متجاوزة الخصوصيات الإثنية والدينية والثقافية من خلال طمسها. وأمام الأهداف السياسية والثقافية لجماعات الطوارق، وفيما بعد، للجماعات الإسلامية الإرهابية، لم تجد دولة مالي من خيار آخر أمامها غير استعادة سيادتها الرمزية في الشمال باستخدام القوة. ولقد قام طوارق شمال مالي، في مواجهة الدولة اللاهوتية بباماكو، بالمطالبة بشيء من الاستقلالية منذ تمرّد  1963 و1964، وارتكز هذا الأخير على خصوصيات ثقافية ولسانية، وعلى ثقافة استقلالية مرتبطة بالبداوة وبتنظيم اجتماعي خصوصي . وهكذا، استعادت الجمهورية الفتية السيطرة على مناطق الشمال بالقوة:  إدارة المنطقة عسكريا وعدم السماح للأجانب بدخول أراضيها واللجوء إلى التهميش السياسي والاقتصادي .
وجاءت سياسة عزل الطوارق هذه مصحوبة بانتهاكات عديدة لحقوق الإنسان، التي تجسّدت في شخص المسؤول العسكري القاسي ديبي سيلاس ديارا . Diby Silas Diara ولقد اندلعت الانتفاضات بشكل متقطع في بداية 1990 وفي  2006، إلى غاية انتفاضة  2012، وهي انتفاضات سويت برعاية الجزائر. ولتبرير مطالبهم، قام الطوارق بإعادة بناء الصورة الاجتماعية والسياسية لمنطقتهم وأطلقوا عليها اسم أزواد. وإذا كان صحيحا أن هذا المخيال السوسيو – إقليمي هو بناء حديث العهد ويدخل أساسا في سياق معاصر، إلا أن مصطلح "أزواد" Azoad كان قد ظهر منذ عام 1550 في كتاب Description de L’Afrique لليون الإفريقي  Léon L’Africain، أما مصطلح "أَزُهاد" Azohad فيشير إلى المناطق الصحراوية بشمال تمبكتو على خريطة آبرس Appers وويت Wit لسنة 1651 .والنزاع الرمزي لتسمية وتمثيل شمال مالي هو في صلب النزاع بين باماكو ومناطقها الشمالية. وبهذا، رُبطت صورة مالي ب"غير مفيد"، حيث الإمكانات الزراعية محدودة والموارد الطبيعية تعتبر غير كافية (على الأقل حتى وقت قريب)، رُبطت بمناطق كيدال وغاو وتامبكتو. إن التصور المركزي والتوحيدي للدولة هو إذن مصدر التعارض القائم بين المعاني المعطاة للإقليم، وهو تصور مستورد في معظمه. منذ بداية القرم ال21 ، استقر الإرهابيون الإسلاميون المنحدرون من الحرب الأهلية الجزائرية،بشمال مالي وفي مجمل المنطقة الصحراوية - الساحلية، وانخرطوا هم بدورهم في صراع رمزي حول تصور هذه المنطقة وسيادتها.وكانت تسمية بلاد السودان، في التقليد الإسلامي، تجعل من هذه الشعوب المُسلِمة أعضاء من "الأمة " بأتم معنى الكلمة، وهي لذلك خاضعة لتطبيق ما تعتبره هذه الجماعات وإيديولوجيتها التنظيم السياسي الوحيد الذي يتماشى مع نظرتهم الإسلام.
ولهذا، بعد سيطرتهم على شمال مالي، في آذارـ نيسان /مارس ـأبريل  2012، استعجلت هذه الجماعات في وضع تصورها للشريعة قيد التطبيق بممارستها للحدود  (أي لعقوبات جسدية: بتر وجلد)، وبتدميرها للتراث الثقافي الإسلامي الذي تعتبره من قبيل الحرام مثلا:  أضرحة الأولياء الصالحين بتامبكتو. وكانت هذه الإستراتيجية تسمح لهذه الجماعات بأن تقدم نفسها باعتبارها السلطة السيادية الوحيدة التي تملك حق ممارسة العنف الشرعي، والمبررة، في هذه الحالة، من قبل بعض التصورات اللاهوتية – السياسية . ولقد سمح تنصيب هذه الإمارات المحلية المؤقتة – على منوال المناطق الخاضعة للحكم الذاتي المؤقت للفوضويين – باستعراض للقوة يهدف إلى إرساء شرعية وسيادة هذه الجماعات على هذه الأراضي في المخيال.  وتندرج الأقلمة الإثنية لشمال مالي حول مسألة الطوارق من جهة، وسياسة الاستقامة الأخلاقية التي يدافع عنها الإسلاميون من جهة أخرى، تندرج إذن في "شبكة إقليمية" جديدة تنضاف إلى و تتراكب  مع مناطق الاتجار بالمخدرات العابر للأوطان ، تترابط معها أو تستبعد بعضها البعض.
إن صورة السيادة، بشكل رئيسي، هي المعنية هنا وليس تطبيقها في الواقع كما أظهر ذلك فشل اتفاقيات تامنراست والجزائر العاصمة، وهي الاتفاقيات التي وضعت حدا، على التوالي، لتمردات عام 1991 و2006 التي كانت تنص بحصول شمال مالي على درجة من الحكم الذاتي دون المساس بوحدة الأراضي المالية. ويكمن وراء النزاع السياسي بين الإسلاميين والطوارق ودولة مالي الى حرب تتعلق بالتصورات السوسيو- سياسية ونشر هذه التصورات في شمال مالي. فبعد الدعاية التي قام بها الإسلاميون لسياستهم بشمال مالي والمتمثلة في سياسة التطهير الأخلاقي، قامت باماكو بالدعاية الاستعراضية لنجاح الانتخابات السياسية التي أُجريت في صيف  2013، حتى وإن كانت المشاركة ضعيفة جدا في مناطق الشمال بسبب امتناع سكانها عن التصويت وعدم حصول اللاجئين على بطاقات تصويت.
إن إعادة تشكيل دولة مالي موحدة وديمقراطية، ومن ثم إرجاع شرعية السيادة الوطنية لباماكو، تتم كذلك في المستوى الاستعاري، وفي مستوى الرموز والصور.  وتكون بذلك الكلمات والرسائل والدلائل السياسية هي أسلحة القتال التي تنشرها مختلف وسائل الإعلام عبر البلاد والعالم. إن مشهد السيادة، بحسب المصطلح الوضعي، لا يولي اهتماما للواقع وإنما يحاول إحداثه من خلال الصورة.  وبالطريقة نفسها، فإن العرض المشهدي للحرب على الإرهاب بشمال مالي – تجنيد المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ومنظمة الأمم المتحدة وشركاء إقليميون والمجتمع المدني المالي من جهة، واستحضار التهديد الإرهابي وانفصال الطوارق من جهة أخرى – ترتبط كلها بصراع رمزي وحرب حقيقية بالدرجة نفسها، والتي يعرض عنها كل من الفرقاء صورا إلى الجمهور، مختارة بإتقان ليظهروا قوتهم وشرعيتهم، الحقيقية أو المفترضة.

***

المبادلات في الفضاء الصحراوي- الساحلي
خفية عن الدول أم تحت حمايتها؟ إن سيادة الدولة، فيما وراء الإقليم والمخيال، تتجلى كذلك في السيطرة على الحدود وعلى علاقاتها مع الشركات الأجنبية العابرة للأوطان. إن العديد من التبادلات تتم في الفضاء الصحراوي الساحلي، ومنها ما هو شرعي ومنها ما هو غير شرعي.  وتربط هذه المبادلات بين المغرب العربي والساحل وغرب لإفريقيا. وإذا كانت تبدو اليوم كشكل من أشكال العولمة من الأسفل التي يمكنها أن تولّد كوزموبولية جديدة، فذلك يعود خاصة إلى أن تاريخها قد حُجب خلال الفترة الاستعمارية التي رسمت حدودا صورية فصلت، بطريقة مفتعلة، المغرب العربي عن ضواحيه الجنوبية. وهكذا يمكن، ابتداء من حركات الهجرة المعاصرة إلى المبادلات غير الرسمية، ملاحظة إعادة إحياء طرق القوافل التي تعود إلى عصور موغلة في القدم والتي كانت تجوب هذه المناطق وتساهم في نشر المنتجات الثقافية أو الاستهلاكية.وبصورة أعم، يسمح الاقتصاد السياسي العالمي، في الظروف الحالية، بالتقريب بين المناطق الجغرافية البعيدة وتداخل القطاعات الاقتصادية الشرعية وغير الشرعية وغير الخاضعة للرقابة (الملاذات الضريبية، غرف المُقاصة غير الشفافة ...).
فعلى سبيل المثال، تُستغل الموارد الطبيعية لجمهورية الكونغو الديمقراطية بطريقة غير شرعية من قبل الجيش الرسمي أو الجماعات المسلحة، ثم تصدر خارج البلاد إلى مناطق إنتاج أدوات التكنولوجيات الجديدة) الهواتف والحواسيب النقالة واللوحات اللمسية ...). هذه التجارة غير الشرعية، التي تعتبر النزاع الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي يعاد إدراجها وتبييضها في التبادلات القانونية للعولمة النيو - ليبيرالية، هي محرك الحرب بجمهورية الكونغو الديمقراطية وتتم تحت رعاية القوى الإقليمية وأطراف من الدولة الكونغولية وسماسرة محليين ودوليين وشركات عابرة للأوطان منخرطة كلها في هذه المبادلات.وهكذا، لا يصبح الفاعلون الدوليون وعملاء الدول فاعلين متنافسين ومتعادين وإنما يعملون معا لتلبية مصالحهم واختياراتهم. إن تعدين اليورانيوم النيجيري، في حال الموارد الطبيعية في الفضاء الصحراوي – الساحلي، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال إبرام اتفاقيات مع الدولة النيجيرية.
ولقد كانت فرنسا تحتكر، لفترة طويلة، احتكارا فعليا استغلال اليورانيوم في النيجر، لكن الرئيس مامادو تانجا Mammadou Tandja  كان قد بدأ يمنح امتيازات لشركات أمريكية أو انجليزية أو كندية أو صينية في عام 2007، قبل أن يتعرض لانقلاب عسكري في 2010 اعترض على طموحاته في تولي الرئاسة مدى الحياة. وإذا كان تنوع شركاء الدولة النيجيرية الطاقويين الخواص متوقفا على اختيارات مامادو تانجا (البحث عن الدعم الخارجي، زيادة الموارد المستخرجة من استغلال اليورانيوم، تطوير الجهاز الإنتاجي النيجيري ...) فإن تطوير قطاع الطاقة النووية لتوليد الكهرباء مع فرنسا جاء ليلبي رغبة في الاستقلال في مجال الطاقة، والواقع أن العلاقات بين الموظفين السياسيين لسنوات 1960 و1970 مع فاعلين صناعيين خواص هي التي تفسر هذا الخيار بغض النظر عن الرهانات الاستراتيجية. وهكذا، كانت تربط الرئيس جيسكار ديستان Giscard d’Estaing علاقة نسب مع وريثة مجموعة أمبان – شنايدر Empain – Schneider، التي تملك شركتها الفرعية براءات اختراع المفاعلات النووية الفرنسية التي كانت تستغل في فترة رئاسته، وكان ابن عمه جاك يترأس مؤسسة آيير للتعدين (SOMAÏR) التي كانت تستغل معادن أرليت، والتي لازالت مجموعة أريفا تملك، إلى يومنا هذا، أكبر أسهم بها. والأمر نفسه بالنسبة لتصدير فائض الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء الذي يتم عبر بنك التجارة الخارجية الفرنسي والذي يرأسه كذلك أحد أقاربه.وبهذا، شارك فاعلون خواص وقادة سياسيون ومؤسسات عمومية – وعلاقاتهم المتبادلة – شاركوا في تحديد سياسة البلد في مجال الطاقة بحجة ارتفاع أسعار البترول المفاجئ في تلك الفترة.
أما في الوقت الحاضر، فيعود سبب عسكرة المنطقة إلى حماية مصالح فرنسا الطاقوية والجيوسياسية إذ تخشى هذه الأخيرة أن يتزعزع استقرار النيجر.ولهذا، حصل هذا البلد على أولى إجراءات الدعم من قبل الاتحاد الأوروبي من خلال وضع برنامج تكوين عسكري، انطلاقا من منتصف 2012، في إطار مهمة "هيئة العمل الخارجي الأوروبي – الساحل – نيجر ."EUCAP- Sahel – Niger فعلى إثر اختطاف موظفين فرنسيين وإفريقيين يعملون بأحد فروع شركة أريفا بالنيجر في خريف  2010، ارسلت قوات خاصة فرنسية لتساهم في حماية بعض المواقع رفقة الجيش النيجيري وشركات أمن خاصة، وفي هذه الحالة شركة الاستشارات في الاستخبارات الاستراتيجية والاقتصادية الفرنسية EPEE وبصورة أوسع، تَدخُل عملية "سابر" Sabre لقيادة العمليات الخاصة ( COS ) التي تم توجيهها انطلاقا من تامبكتو، تدخل في إطار مكافحة الإرهاب في المنطقة، لإرسال قوات إلى موريتانيا وأيضا إلى النيجر ومالي.لكن هذه العسْكَرة تنم كذلك عن استراتيجيات تموضع وإخلاء في مجال استغلال موارد هذه المناطق: وهو الأمر نفسه بالنسبة لحوض تاودنّي، الواقع بين الجزائر ومالي وموريتانيا، وبصورة أعم بالنسبة للبترول الماليّ بمناطق غاو وموبتي (صدع نارا) والحدود المالية – النيجيرية  )حوض تامسنة(، وهذه المناطق التي توجد بها شركات فرنسية وإنجليزية وأمريكية وهندية وكندية وقطرية وإيطالية وجزائرية، وقد تحدّد إعادة رسم امتيازاتها، جراء النزاع، الاستراتيجيات المتبعة.  وفيما يخص الاتجار بالمواد المحرّمة، فإن العلاقة بين الجماعات المسلحة والجماعات الإجرامية العابرة للأوطان وأطراف فاسدة من أجهزة الدولة أظهرت بأنه يمكن جعل سيادة الدول تنحرف عن مبتغاها الأول من جهة، وبأنه يمكن لهذه الأخيرة أن تشتغل من خلال عملاء اجتماعيين وليس من خلال دولة خيالية ووحدوية. ينقل الكوكايين انطلاقا من كولومبيا عن طريق فنزويلا ثم يوزع على مختلف بلدان إفريقيا الغربية ليرسل إلى أوروبا والشرق الأوسط، وهو ينقل في الفضاء الصحراوي – الساحلي في قوافل تحميها جماعات إرهابية إسلامية تجد من خلال هذا موارد لتمول نفسها.  بالإضافة إلى هذا، فالرشوة واستراتيجيات النهب تظهر كآداة يُعاد من خلالها تحديد ممارسة السيادة على هذه الأراضي بتقليص السيادة الرسمية والشكلية للدولة.
والأمر نفسه بالنسبة لتهريب المنتجات الاستهلاكية أو شتى أنواع البضائع  المزوّرة التي تعبر المنطقة، باستثناء أن جزءا من هذه المنتجات قانوني وأن تصديرها غير المشروع أو غير المبلغ عنه هو الذي يجعل منها نشاطا غير قانوني يقع تحت طائلة العقوبات الدولية.
وهكذا، من الصعب تصور أكشاك سوق آسيهار بتامنراست أو بائعي السجائر بالمغرب أو مضخات الوقود الموجودة بالمنطقة، دون هذه التجارة غير الرسمية التي تعيد تشكيل روابط تجارية وإنسانية حُجِبت لوقت طويل:  فطابعها غير الشرعي أو المنتجات المتبادلة لا يحدّدان إلا من خلال المعطيات السوسيو- اقتصادية لبلدان المنطقة، ومن خلال الفرص التي تخلقها الحدود، ومن خلال عدم ملاءمة القانون لطرق ممارسة المبادلات التي تحدّدها الإجراءات الاجتماعية والمكانية للمجموعات القاطنة بالمنطقة...  وفي الأخير، من المهم إثارة مساأة الهجرة في سياق مراقبة الحدود في الفضاء الصحراي – الساحلي.  فهذه التنقلات البشرية عبر الصحراء التي تبني فضاء اجتماعيا مشتركا، لا تصبح في الواقع غير قانونية إلا عندما يدخل المنفيون إلى المغرب العربي، لأن الاتفاقيات الموجودة بإفريقيا الغربية تسمح لهم بالترحال فيها بحرية وهذه الهجرات على العموم التي تحرّم وتجرّم تحت تأثير الضغوط الأوروبية، تؤدي إلى شكل من أشكال السيادة يتجاوز تأثيرها الحدود الإقليمية .
هنا كذلك تقوم استراتيجيات النهب التي يمارسها عملاء الدولة، الذين يعتبرون إرسالهم إلى المناطق الصحراوية بمثابة تنزيل في الرتبة، إن لم يكن عقاباً. فعلى سبيل المثال، يوجد بين نيامي والحدود الليبية على الأقل اثنتا عشرة نقطة مراقبة تؤدي إلى ابتزازات وعنف في حق المهاجرين وتزوّد قوات الأمن المحلية بدخل إضافي. نرى إذاً  أن سيادة الدولة لا تتوقف على الوسائل التي تملكها هذه الأخيرة لتطبيقها وعلى التصورات التي توجهها فحسب، وإنما تتوقف كذلك على مصالح واختيارات موظفي الدولة الذين يمكنهم أن يضعوا استراتيجيات تتناقض مع السياسة الرسمية، أو الذين يمكنهم الاستفادة من التحايل على قواعد القانون الرسمية لصالحهم .  وهكذا، تجري هذه المبادلات  بحماية من الدول، أي، بعبارة أخرى، تحت حماية بعض موظفي الدولة وبتواطؤ ضمني معهم، وليس خفية عنهم، أي في فضاءات جغرافية ومن خلال شبكات ممارسة لا يمكن للدولة أن تطالها.
فالدولة ليست إذن فاعلا وحدويا ، بعكس موظفي الدولة، الذين تكون مقاصدهم نتاج إجماع مشترك، يرتكز على تصورات ومبادئ تحدّده. إن متاهات البيروقراطية والتنافس بين الإدارات وتعايش تصورات متناقضة يحملها أفراد أو جماعات داخل الدولة، ينبغي أن تساعد في تسليط الضوء على استراتيجيات متناقضة يتّبعها موظفوها بداخلها على مستويات مختلفة.  ولذلك، فالدولة ليست بالتأكيد شخصا واحدا، وإنما من الأنسب وصفها على أنها شخص يعاني من انفصام عقلي. ويُشير هذا الأخير إلى عدم تناسق في التصريحات والمواقف
.

***

الخاتمة
 
إن سيادة الدول على أراضيها تُبنى إذن حول تصورات ومصالح واختيارات. إذا كان مفهوم السيادة عبارة عن وهم يخدم الهيمنة المشروعة للدول ، فإن هذه الأخيرة هي بناء اجتماعي وسياسي وثقافي يسمح بممارسة هيمنة بعض أطراف الدولة من خلال موظفيها. ولهذا، فليست مفاهيم السيادة والحدود والسياسة هي التي تثير الجدل وإنما الصياغة المفهومية نفسها للدولة التي تضعها موضع التطبيق. فالحدود السياسية هي كذلك حدود اجتماعية، وتوجد هذه الأخيرة إذن داخل الدول، ولكن يمكن أن تتجاوزها كذلك. هذه الحدود تقام حول صور سوسيو – سياسية تفصل أفرادا وجماعات عن بقية البشر، مشكلة بذلك مجموعات محصورة غير عالمية.
 في المقابل، توجد هذه الأخيرة تحت سيطرة سلطة محددة تكون فيما بعد في وضعية تعاون أو تنافس أو نزاع مع نظرائها. ولذلك، فإن التفكير في كوزموبوليتية تربط بين المجموعات البشرية بفعالية أكبر وتستجيب لتوقعاتهم دون تمييز قد يتراءى كفرضية مستقبلية . يبدو أن الصياغة المفهومية للدولة كفاعل وحدوي وقصدي واع لا تصمد أمام الملاحظات المستندة الى الواقع، والأمر نفسه بالنسبة لفكرة الضعف المحتوم الذي يعتقد أنها ستقع ضحية له.  فالسيادة على أراض تحدها حدود، لا يمكنها أن تكون لعبة محصلتها صفر.
إن أشكال الأقلمة الجديدة المرتبطة بالعولمة داخل الدول، من خلال فاعلين خارجيين – شركات، دول، أفراد – تعيد رسم الخرائط السوسيو-  سياسية وتعيد تحديد أدوار الدول في سياق لم يأخذ فيه القانون – الوطني أو الدولي  –بعين الاعتبار الأثر الديمقراطي لهذه التحوّلات، على غرار الأراضي الصالحة للزراعة المستأجرة أو المشتراة من قِبل كيانات، عمومية أو خاصة، خارج حدودها.وإذا كانت التصورات التقليدية للدولة وللأراضي وللسيادة هي نتاج مصالح واختيارات موظفي الدولة، فإنّ إعادة تحديد دور الدولة أو انمحائها الزائف يتوقف على الأمر نفسه إذن: ألم يقم قادة الدول أنفسهم بالتخلي عن قدراتهم في التأثير على الاقتصاد وذلك برفع القيود، مطلقين العنان لفاعلين من القطاع الخاص، ما أدى إلى هيمنة رأس المال المالي على الاقتصاد الدولي، في حين كانت الدول هي الملاذ الوحيد للفاعلين الخواص في حال حدوث أزمات؟  وبهذا، لا يمكن أن تكون عودة الدولة إلا من صنع أفراد وجماعات تحكمها أو يمكنها أن تؤثر فيها، ولا يمكن أن يحدث هذا الأمر إلا وفقا لمصالحها واختياراتها وقدرتها على التجنيد.

(ترجمة سناء بوزيدة)

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه