كيف تتمكّن السلطات من شرعنة الفساد والسرقة والامتيازات وانعدام المساواة، بنصوص قانونية موضوعة على قياس حكومة ورئيس جمهورية تارةً، ورجال أعمال تارةً أخرى؟ لا شكّ في أنّ الفساد والمحسوبيات والسرقة المقونَنة هي من بين أسباب الانتفاضات الشعبية. لكن سؤال «الملموس» يبقى كاملاً. وسعياً وراء هذا الغاية، أصدر «مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية» «دراسة في القوانين الاقتصادية المفسدة ـ كيف نعيد بناء المنظومة التشريعية في مصر»، أعدّه مدير المركز عبد الخالق فاروق، وكل من رضا عيسى وسيد عابدين. تتطرق الدراسة (65 صفحة) إلى 18 قانوناً اقتصادياً صدرت في عهد مبارك، وعدِّلت في حقبته، خصوصاً بعد إحكام طبقة رجال الأعمال سيطرتها على مفاصل الدولة، بزعامة أسماء باتت تختصر النظام من زاوية الاقتصاد والخصخصة ونهب البلد ومحو المصلحة العامة على حساب تلك الخاصة: جمال مبارك وأحمد عز وطلعت مصطفى ونجيب سويرس وحسين سالم...
يسعى المركز من خلال اقتحامه التفصيلي لهذا الميدان الهام، والمتروك غالباً، الى بناء رأي عام يضع نصب عينيه المطالبة بإلغاء وتعديل قوانين لا تزال مطبّقة. فضلاً عن التنبيه لمخاطر قيام السلطة الجديدة، أو أي سلطة عموماً، بإضفاء الطابع التشريعي على مشاريع نهب جماعية. مهمة يريد منها فاروق وعيسى وعابدين أن تساهم «مع المتخصصين ورجال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في تصحيح وإعادة بناء المنظومة القانونية وتطهيرها من المواد الفاسدة والمفسدة»، بما أن الفساد في مصر (مثلما في أماكن أخرى)، يتأسس على قوانين وروحية تشريعية هي نفسها فاسدة.
تتضمّن الدراسة مقارنات بين القوانين القديمة وتلك الحالية (التي لا تزال مطبقة) للكشف عن المسار الذي اتخذه التعديل بما يخدم الفئة المسيطرة في كل مرحلة من المراحل. هناك خيط جامع بين القوانين «المباركية» يجعلها بشكل عام أسوأ من سابقاتها: همّ تحرير السلطة التنفيذية (الرئاسة والحكومة) من قيود كانت موجودة بالفعل على عملها وحركتها من قبل السلطات التشريعية والقضائية الرقابية الإدارية. وسيلاحظ القارئ المرات الكثيرة التي يرد فيها مصطلح رئيس الجمهورية خصوصاً، وبعده رئيس الوزراء والوزراء، عند ذكر السلطة المختصة بتأليف تلك اللجنة أو بإصدار ذلك القرار.
تبدأ دراسة القوانين بالتشريع المتعلق بالمناقصات والمزايدات (1998) وتعديلاته. وهو قانون يُعتبر من بين التشريعات «المفسدة والفاسدة» بامتياز، لتعلقه مباشرة بالعائدات المالية العامة. وبصدده يمكن ملاحظة معظم مصادر التجاوزات المزروعة في القوانين موضوع البحث: تقويض السلطة التشريعية وترك القرار الفعلي بيد رئيسي الجمهورية والحكومة من خلال سلطتهما بتلزيم المشاريع العامة عبر «الأمر المباشر» من دون اللجوء إلى الأصول المتبعة في المناقصات والمزايدات، وهو ما يهمّش بدوره السلطتين التشريعية والقضائية، ويلغي المنافسة في المناقصات والتلزيمات، ويفتح أبواباً كثيرة للتلاعب والتواطؤ في ظل «حماية القانون». تُرجم ذلك بحصول بعض المحظوظين على ملايين الأمتار المربعة من الأراضي بـ«الأمر المباشر» في المدن الجديدة وعلى الشواطئ. قانون «لاقانوني» أفرز جرائم مالية بحق الموازنة العامة للدولة المصرية، منها استفادة شركة «أوراسكوم» المملوكة لعائلة ساويرس الشهيرة، وشريكها الإسباني، من مشروع محطة الصرف الصحي في القاهرة الجديدة. يشرح معدو الدراسة أن تعديلات هذا القانون العام 2009 جاءت بسبب رغبة رجال الأعمال، الموجودين في الحكومة ومجلس الشعب والحزب الحاكم في حينها، بإيجاد حل لأزمة أراضٍ سبق للقضاء الإداري أن حكم ببطلان عقد بيعها لهشام طلعت مصطفى، القيادي في الحزب الحاكم آنذاك.
أما «قانون المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة» للعام 2002، فقد اقتُطعت بموجبه عشرات الملايين من الأمتار المربعة في شمال غرب خليج السويس، ومُنحت لبعض رجال الأعمال المقرّبين من النظام. ومن آثار هذا القانون أنه تم إعفاء هذه المنطقة الشاسعة من تطبيق الكثير من القوانين المصرية، واعتماد قوانين خاصة بها في مجالات الضرائب والجمارك والعمل والسجل التجاري. وقد يكون هذا المشروع من بنات أفكار مهندسي التوريث الذي كان جارياً العمل لتطبيقه آنذاك، بما أن القانون فوّض رئيس الجمهورية حصراً، تفويضاً مطلقاً بأن ينشئ وحده مثل تلك المناطق الاقتصادية الخاصة، مع احتكاره تحديد كل التفاصيل المتعلقة بها. وتم إرضاء رجال الأعمال بشكل مذهل، فخفضت الضريبة على أرباح الشركات العاملة في هذه المناطق الخاصة لتصبح 10 في المئة فقط بدلاً من 32 في المئة.
ويستمرّ مسلسل عرض القوانين الصارخة في ظلمها، كتعديل قانون «فرض الحراسة وتأمين سلامة الشعب» العام 2000، وقد صدر تعديلان عليه في اليوم نفسه، قضيا بتوزيع الأموال المصادرة من تهريب المخدرات على وزارتين فقط من وزارات الدولة (الداخلية والدفاع)، مع منع أي رقابة للسلطات التشريعية على هذا التوزيع. كذلك حال تعديل «قانون مكافحة غسل الأموال» للعام 2002 الذي حصر أيضاً صلاحية تأليف وحدة مكافحة غسيل الأموال ونظام إدارتها والعاملين فيها بيد الرئيس وحده، بعيداً عن موازنة الدولة وأجهزتها. ومن القوانين الغريبة جداً، «التشريع الخاص بقانون مكتبة الاسكندرية» (2001) الذي يديرها ويتصرف بأموالها شخص واحد هو رئيس الجمهورية من دون أي قواعد أو قيود. ويشرح معدّو دراسة «مركز النيل» أن ذلك قد يفسر وجود مبلغ 145 مليون دولار باسم المكتبة بإدارة مبارك في أحد المصارف التجارية في مصر الجديدة، تحت إشراف وتصرُّف زوجته سوزان. حال مماثلة يمكن اكتشافها في فساد قانون «مشاركة القطاع الخاص في مشروعات البنية الأساسية» للعام 2010، الذي يتسبب بإجراء خصخصة جزئية للإدارة الحكومية عبر خلق كيانات شبه مستقلة داخل الوزارات. أخطر ما يثيره هذا القانون ونظام «المشاركة بين القطاع الحكومي والخاص»، هو زيادة مساحة التداخل والتشابك بين الأجهزة الإدارية الحكومية والقائمين عليها من جهة، وبين رجال المال والأعمال من جهة ثانية.
العرض التحليلي للجوانب المُفسدة في القوانين الاقتصادية لحقبة مبارك يسري على مجموعة كبيرة من التشريعات، كـ«قانون الضريبة العقارية» (2008)، الذي «شرعن» تهرُّب الأثرياء من الضريبة وأثار تعبئة شعبية معارضة شرسة ضد النظام قبل ثورة 25 يناير، و«قانون إصدار سندات سيادية بالدولار» (2001) لمدة 30 سنة، و«قانون تخفيض رسوم التوثيق والشهر العقاري» (2003)، و«قانون تنمية التصدير» (2002)، بالإضافة إلى «قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد» (2003) لحماية مرتكبي الجرائم المالية، و«قانون إنشاء لجان التوفيق في المنازعات» الذي يفسَّر بأنه وسيلة لتحسين مداخيل القضاة المحظيين بطريقة «قانونية»... نص يستحق القراءة... كما لو كان دليلاً.
"السفير العربي"