عادت مجدداً الى المشهد السياسي الموريتاني أحاديث الحوار بين النظام والمعارضة، بعد فترة طويلة من الشد والجذب وتصعيد الخطاب من الجهتين. حدث ذلك بعد أن رمى الرئيس الموريتاني حجاراً في المياه الراكدة، وأعلن في بداية السنة الجديدة عن استعداده الدخول في حوار مع أحزاب المعارضة الموريتانية ورغبته به من أجل "مصالح البلد العليا". وكانت تلك الأحزاب قد دأبت في السنوات الماضية على الخروج للمطالبة برحيله واتهمته بالفساد والأحادية في الحكم وترسيخ القبضة العسكرية على الدولة. وقاطعت أهم أحزاب المعارضة آخر انتخابات رئاسية وتشريعية نُظمت في موريتانيا، وكان رأس النظام يرد على نشاطاتها وانتقاداتها له بأنها أحزاب "غير مهمة ومخربة".
بعد إعلان الرئيس، ظهرت في وسائل الإعلام وثيقة سياسية قدمها لمنتدى المعارضة الديموقراطية رئيس الوزراء باسم الأغلبية الرئاسية، لتكون إطاراً للحوار المرتقب. وضمت نقاطاً اعتبرت نوعا من مغازلة المعارضة لجعلها تدخل في الحوار.. منها الوعد بتغطية وسائل الإعلام العمومية لأنشطتها، وبناء الثقة بينها وبين السلطة، والعدول عن إقصاء الأطر ورجال الاعمال المنتمين للمعارضة (إن وجدوا)، وتنظيم انتخابات بلدية وبرلمانية توافقية جديدة، وتأجيل انتخابات مجلس الشيوخ، وتشكيلة جديدة للجنة المستقلة للانتخابات، وإجراء تعديلات دستورية لإلغاء تحديد السن القصوى للترشح لرئاسة الجمهورية، ومنع تدخل الجيش في الأنشطة السياسية، وتنظيم انتخابات رئاسية قبل موعدها، واستقلالية القضاء...
رد المعارضة
ردت المعارضة بدورها على الوثيقة فأصدر "منتدى المعارضة الديموقراطية"، المحتضن لأكبر أحزابها بيانا ضم مجموعة من الإجراءات للدخول في حوار مع النظام: قيام حكومة توافقية ذات صلاحيات واسعة تحترم قوانين الجمهورية (يعتبر هذا أكثر مطالب المعارضة إزعاجا للنظام)، ومؤسسات انتخابية ذات مصداقية، وإيجاد حالة من حياد الإدارة، وتحضير مادي وتقني جيد لإعادة تشكيل بعض الهيئات حتى تصبح محل ثقة الجميع (وهي المجلس الدستوري، والإدارة العامة للسجل السكاني والوثائق المؤمنة، واللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، والإدارات ذات الصلة بالعملية الانتخابية بوزارة الداخلية)، وإعداد قانون جديد يتناول حياد الدولة في اللعبة السياسية والمنافسة الانتخابية، وتفعيل القوانين ذات الصلة والنأي بالإدارة عن تعاطي السياسة، وتعيين المسؤولين في الوظائف الإدارية على أساس معايير الكفاءة دونما تمييز في الانتماء السياسي، ووضع حد نهائي لما هو معهود من احتكار الجهاز الإداري وتسخيره لخدمة طرف سياسي واحد.. هذا بالإضافة إلى فصل الصفقات العمومية والتراخيص المختلفة والخدمات العامة عن السياسة قبل أي انتخابات مرتقبة، وفتح وسائل الإعلام العمومية أمام جميع الفرقاء السياسيين بصورة عادلة ومستمرة، على أن تدار هذه المؤسسات من طرف كفاءات مستقلة، ومراجعة وتطبيق قانون ميزانيات حملات المترشحين، وتحديد سقف مالي لمشاركة الشخص الواحد في ميزانية المترشح. وكانت أهم النقاط اللافتة في رد المعارضة تتعلق بمطالبتها بالإعلان الرسمي من قبل القائد الأعلى للقوات المسلحة (رئيس الجمهورية)، عن تحريم أي ممارسة للعبة السياسية على أفراد القوات المسلحة وقوات الأمن الوطني، وإدلاء قادة المؤسسة العسكرية والأمنية بتصريح علني يؤكد الطبيعة الجمهورية للمؤسسة، والتزامهم بأن يكونوا على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين، وتصويت العسكريين في اليوم نفسه الذي يصوت فيه المدنيون وبالطريقة نفسها.
نظرة متباينة
نظرة الأطياف السياسة في منتدى المعارضة لدعوة النظام للحوار، كانت متباينة ومختلفة. فحتى الآن لم يصدر من "حزب التكتل"، أهم أحزاب المعارضة الموريتانية موقف إيجابي من الحوار، وهو يعتبر أن النظام غير جدي وأن ممارساته لا توحي بتغير في تعامله مع المعارضة ولا مع قضايا البلد الملحة، وأن هذه الدعوة للحوار هي مجرد محاولة لكسب الوقت. وقد صرح رئيسه، ورئيس المنتدى، أحمد ولد داداه بأنه يرفض أي مساس بالدستور. لكن هناك تسريبات صحافية تحدثت عن قيام التكتل بتقديم مقترحات تمهيدية للحوار، لكن "منتدى المعارضة" لم يقبلها، وقد ضمت حل كتيبة الحرس الرئاسي وخفض الأسعار وتصريح الرئيس عن ممتلكاته. في المقابل، تناولت وسائل إعلامية محلية قيام بعض الأحزاب المنضوية تحت لواء منتدى المعارضة الديموقراطية بعقد جلسات سرية مع رئيس الوزراء.
تنعكس النظرة المتباينة داخل المعارضة للحوار على طرح الشخصيات والكتاب المحسوبين على المعارضة أيضا. فهناك من يدعم دخول المعارضة في حوار مع النظام ويعتبر أنه قد يخرج موريتانيا من أزمتها المستمرة منذ انقلاب الجنرال ولد عبد العزيز على الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله. في المقابل، من يعارض تلك الفكرة يؤكد أن الحوار لا يخدم سوى بقاء النظام وفساده، ويعتبر أن النظام يريد أن تقبل المعارضة بتعديل الدستور حتى يسمح للجنرال محمد ولد عبد العزيز بخوض مأمورية ثالثة من دون أن يواجه مشاكل ولا عراقيل، وهو ما يمنعه الدستور الموريتاني. وكذلك يريد أن تتوقف المعارضة عن حالة العصيان ورفض تشريع ما يقوم به من أعمال تعتبر مخلة بالمسار الديموقراطي وأن تتحول إلى معارضة مذعنة لقراراته. ويرى أصحاب هذا الطرح أن أي حوار يُبقي على النظام الحالي لن يُحْدِث انفراجا في موريتانيا.
وعلى الرغم من مرور أكثر من شهر على دعوة محمد ولد عبد العزيز ووثيقة الوزير الاول (رئيس الوزراء)، لم يصدر لحد الآن موقف رسمي من منتدى المعارضة الموريتاني بخصوص رفض أو قبول الدخول في الحوار، إلا أنه يبدو من رد منتدى المعارضة على وثيقة الوزير الأول، أن هناك نوعا من الجنوح للحوار، بل تحدثت تسريبات صحافية عن إجماع أحزاب المنتدى على الدخول في ذلك الحوار عدا حزب التكتل، أكبر أقطابه، الذي قرر عدم المشاركة.
هل الجو العام مناسب للحوار؟
الدعوة تأتي في فترة تشهد فيها موريتانيا حالة من الاحتقان الحقوقي والمطلبي، حيث يقبع الآن في السجن مجموعة من النشطاء المناهضين للعبودية، وقد صدر مؤخراً حكم بسجن بيرام ولد الداه ولد أعبيدي على خلفية تظاهرة، وبيرام هو أبرز النشطاء الحقوقيين في موريتانيا، وحاصل على العديد من التكريمات الدولية، منها جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وقد احتل المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً في موريتانيا، والتي قوطعت من طرف المعارضة، حيث حصل على نسبة 8 في المئة من أصوات المقترعين. كما صدر الحكم نفسه على نائب رئيس حركة "إيرا" المناهضة للعبودية، إبراهيم ولد أعبيد، وعلى جيبي صو وهو ناشط اَخر من فئة الزنوج. وما زال نشطاء اَخرون يقبعون في السجن وتأخذ محاكماتهم زخما كبيرا، خالقة حالة من الغضب في الجسم الحقوقي والسياسي في البلاد. وفي الأثناء تعيش مدينة الزويرات المنجمية حركة احتجاجية كبيرة، كذلك تتصاعد الأصوات المنددة باستمرار ارتفاع الأسعار، خاصة أسعار المحروقات رغم انهيارها عالميا... هذه الحالة تسأل عن مبلغ جدية النظام في إجراء حوار مع المعارضة، لا سيما انه علاوة على امعانه في تجاهل هذه المسائل السياسية والاجتماعية والحقوقية، فهو تعود على النكث بالعهود، والمعارضة جربته ولم تحصد سوى الخيبة ولم تجر على البلد سوى استمرار الحكم العسكري. فأي حوار لا يشمل كل القضايا الجوهرية ويشرك الحركات والتيارات الراديكالية، ويضمن تمثيل جميع الأصوات والمطالب المجتمعية، لن يتمكن من تأسيس حل قابل للاستمرار. وأما الحوارات المقتصرة على الطيف السياسي التقليدي النخبوي الطابع فلم تحقق لموريتانيا أي تقدم.. المطلوب هو حوار مجتمعي يضم الجميع!
في ضرورة استعادة الثقة
يحتاج المشهد السياسي الموريتاني إلى مزيد من المحاولات للتغلب على حالة عدم الثقة الموجودة بين مشكلاته، بين المعارضة والنظام من جهة وبين أقطاب المعارضة الموريتانية من جهة أخرى، حتى تضمن النخب الموريتانية الانتقال إلى مرحلة البناء المؤسسي لدولة الديموقراطية وتخرج من أزمتها المستحكمة، فأكبر العوائق أمام ذلك هو تفشي التخوفات بين مشكلات الطيف السياسي، فالمعارضة تخاف أن يلدغها النظام مرة أخرى وينكث بعهده لها كما في أكثر من مناسبة كان اَخرها تنكره لاتفاق داكار، والحساسيات المعارضة تخاف من بعضها البعض، فتحالف القوى المعارضة يحوي الكثير من التناقضات وقد عاش في السابق مجموعة من الخلافات البينية ما لبثت أن ظهرت على السطح عند أول محك، وسبق أن عاش "خيانات" عدة نخرت في جسمه كثيرًا. والشباب المناهض للنظام، فاقد بدوره لأي قدر من الثقة في النظام ويخاف من نزوع المعارضة إلى المصالحة مع النظام على حساب الشعب وتكرارها لأخطاء الماضي التي جعلته قليل الثقة في مشكلات المعارضة التقليدية.