تتجه أنظار الموريتانيين هذه الأيام إلى مدينة الزويرات المنجمية الواقعة في شمال البلاد، ويرجع ذلك إلى تصاعد وتيرة احتجاجات عمال الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم) وهي شركة عامة تستخرج الحديد الموريتاني، حيث دخل عمال الشركة منذ يوم 20 كانون الثاني/ يناير في إضراب مفتوح من أجل اجبار الشركة على الإيفاء بتعهدات وقعتها إدارتها مع العمال تقضي بزيادة رواتبهم، لكنها عادت وتنكرت لها حين حل موعد تنفيذها.
قصة المدينة والشركة
ترتبط مدينة الزويرات بعلاقة حميمة مع الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم)، حتى أن الفضل في تأسيس المدينة وتطورها يعود لهذه الشركة التي هي امتداد لشركة "ميفرما" الفرنسية التي تأسست حولها المدينة. وظل ذلك الوضع ساريا حتى بعد استقلال موريتانيا، ولم تصبح الشركة تحت السيطرة الموريتانية إلا سنة 1974، حين قام الرئيس الأول لموريتانيا المختار ولد داداه بتأميمها، وتم ذلك بعد نضالات قام بها عمال الشركة بلغت أوجها في 29 أيار/مايو 1968، حين خرج العمال للاحتجاج على ظروفهم القاسية والشكاية من التمييز الممارس ضدهم من قبل الإداريين الفرنسيين، وتمت مجابهتهم بالقمع الشديد رغم سلميتهم، وقد سقط منهم ثمانية قتلى وأربعة وعشرون جريحا، وهو ما خلق حالة من الغضب العامة. وقد رفعت الحركة الوطنية الموريتانية بدورها اَنذاك مطلب تأميم شركة ميرفما واعتبرت أن استقلال موريتانيا ناقص بسبب هيمنة الفرنسيين على خيرات البلد، وكان الحديد الذي تستخرجه الشركة هو أبرز ثروات موريتانيا المكتشفة آنذاك. وما زال سكان المدينة يتذكرون تلك المرحلة بكل فخر ويرون أن نضال العمال هو الذي أفضى إلى تأميم الشركة.
نمو المدينة حول الشركة الوطنية للصناعة والمناجم أعطاها طابعا خاصا بين المدن الموريتانية، فالعمال هم عماد سكانها وأهم أسرار تطورها، وأدى ذلك إلى جعل مدينة الزويرات، مدينة عمل، أي أن الرابط الأول بين سكانها هو العمل في الشركة أو الاستفادة من خدماتها التي تقدم لعمالها ولسكان المدينة، عكس أغلب المدن الموريتانية الداخلية التي لديها طابع قبلي لجهة الترابط بين السكان. فالمدينة تتميز بكونها خليط من السكان القادمين من كل جهات موريتانيا للعمل في الشركة، وقد ساهم تطور أعمال شركة في إزدهار المدينة وتحولها لإحدى أهم المدن الموريتانية وأكثرها عصرية، وساهم أيضا في جعل سكان المدينة يعيشون حالة اقتصادية مرتاحة نوعا مقارنة ببقية سكان المدن الداخلية.
ماذا يعني إضراب عمال سنيم؟
بلغ عدد المضربين من عمال شركة سنيم العاملين في مدينة الزويرات 3886 عاملا من أصل 4500 عامل، ما جعل أعمال الشركة تتراجع بل تتوقف في بعض الأحيان، وهو ما يهدد بأضرار بالغة عليها وعلى المدينة بل وعلى الدولة الموريتانية التي تعتمد كثيراً على عائدات هذه الشركة، حيث تصل نسبة مساهمة "سنيم" في الناتج المحلي الموريتاني إلى 12 في المئة، وتصل نسبة مساهمتها في الموازنة إلى 14 في المئة، وتمثل صادراتها من الحديد 41 في المئة من الصادرات الموريتانية. وكانت الشركة قد قالت في العام المنصرم أن إنتاجها إرتفع في الفصل الأول من عام 2014 بنسبة 8,5 في المئة، ليصل الى 6,7 مليون طن من خامات الحديد، وهو ما اعتبرته إنجازا مهماً. ولذلك، فما تقوم به إدارة الشركة الاَن من تجاهل لحراك العمال يعد مخاطرة كبيرة على مستقبلها وهي التي تحتل المركز السابع على المستوى العالمي في مجال تصدير الحديد.
العمال سبق وحذروا من الاضراب في حال عدم إيفاء الشركة بتعهداتها نحوهم، وسبق وأعطوها أكثر من فرصة، لكن إدارة الشركة لم تكترث وهي تحاول الاَن ممارسة بعض الضغوط على العمال المضربين، مثل تهديد العقدويين منهم بالفصل في حال استمرارهم في الإضراب، وتحاول أيضا التعتيم على حراكهم من خلال رشوة وسائل الإعلام المحلية، ووصمه بالحراك السياسي وغير القانوني. لكن العمال يجدون الاَن مؤازرة كبيرة من المجتمع المحلي للمدينة، فمنذ دخولهم في اعتصامهم لم تهدأ المدينة، وكل يوم تتزايد الأعداد المشاركة في اعتصامات ومسيرات العمال، وأعلنت أغلب القطاعات المحلية في المدينة تضامنها مع العمال وإضرابهم، مثل المخابز والمجازر والعاملين في قطاع التعليم وبقية القطاعات الخدمية. وهناك حديث عن نية السكان الدخول في عصيان مدني للتضامن مع العمال المضربين. وقد تميزت أنشطة العمال الاحتجاجية بحضور قوي لنساء المدينة وشبابها، ويرجع ذلك لارتباط حياة السكان بالشركة وعمالها، فأغلب عائلات المدينة تعتمد في حياتها اليومية على رواتب العمال، والعمال هم أهم المساهمين في دورة الحياة الاقتصادية في المدينة، وما يزعجهم يزعج بقية السكان.
من بين المأخذ التي تساق ضد الشركة هو قيامها بتقديم قرض لإحدى الشركات الموريتانية الخاصة التي تشرف على بناء مطار نواكشوط الدولي، بلغ 15 مليار أوقية، وذلك بعد فشل هذه الشركة بالإيفاء بالتزاماتها أمام الدولة الموريتانية، حيث ينظر الى ذلك وكأن شركة "سنيم" تسهر على حماية أصحاب رؤوس الأموال من الإفلاس ولا تكترث لحاجة عمالها في زيادة الرواتب ولا مطالبهم التي يرفعون. وهذا يعد تخلياً صريحا عن نهج الشركة الذي عرفت به سابقا والذي كان يكترث للعمال. وتوجه اتهامات بالفساد لإدارة الشركة.
قضية عمال الزويرات بدأت تأخذ تخرج عن نطاق المدينة، فقد أعلن عمال الشركة في مدينة نواذيبو في الثالث من آذار /مارس الجاري الدخول في إضراب مفتوح في حال عدم الاستجابة لمطالبهم، وهو ما حدث بالفعل حين لم تستجب الإدارة لمطالبهم وفضلت تجاهلهم، ومن بين مطالبهم:
ـ زيادة الأجور وفقا لاتفاقية الزويرات في 3 أيار/مايو 2014.
ـ إدخال علاوات الإنتاج منذ بداية السنة.
ـ دفع راتب شهرين للمتقاعدين تعويضا عن تأخر الزيادة المقررة في أيار/مايو 2014.
وبعد دخول عمال الشركة بالاضراب، قام وزير الطاقة والمعادن بزيارتهم في المدينة وخيرهم بين وقف الإضراب والدخول في حوار مع الشركة أو المضي في الإضراب وزيادة خسارة الشركة وتدميرها. وقد أحدثت هذه التصريحات غضبا وسط العمال والمتضامنين معهم، حيث اعتبروا أن الحكومة الموريتانية وإدارة الشركة يصران على التعامل معهم بعجرفة ويرفضان الاستماع لمطالبهم، وكأن هناك نيبة مبيتة للقضاء على الشركة والتخلص من العمال. وحسب العمال، فإن نسبة نجاح الإضراب وصلت ل90 في المئة، وقد أكدت مصادر إعلامية موريتانية أن الإنتاج في الشركة تراجعت بنسبة 70 في المئة.
هذا التطور يرفع مستوى الضغط على الشركة وإدارتها ويحتم عليها الاستجابة لمطالب العمال. فتصاعد وتيرة الاحتجاجات وإطالة زمن الإضراب وبال على مستقبل الشركة، إلا إذا كانت الأخبار التي يتم تناقلها عن نية السلطات الموريتانية خصخصة الشركة صحيحة وهي تبحث عن حجة لذلك، مثل الإفلاس أو العجز. في المقابل فقد يدفع حراك عمال مدينة الزويرات بقية الغاضبين في المدن الموريتانية إلى التصعيد وتقليدهم، خاصة أن المدينة عرفت طوال السنوات الماضية كمنارة لتصدير ثقافة الاحتجاج المطلبي.