يفترشون الأرض ويهيمون في الشّوارع متحررين من كل القيود، مطلقين لأنفسهم العنان، صامتون تارة وصاخبون أحيانا، ثيابهم رثة، يخلقون حالة من الرعب والتعاطف والدهشة في آن. إنهم المضطربون عقلياً في العاصمة الموريتانية نواكشوط، وهم كثر، بل ظاهرة فرضت نفسها في السنوات الأخيرة. وحسب دراسة رسمية، يحتاج ما يناهز 33 في المئة من المواطنين الموريتانيين للعلاج النفسي (وهذا يشتمل على كل أنواع الاضطرابات النفسية). وقد عزت تلك الدراسة أسباب الإضطرابات النفسية إلى الإحباط والقلق والفشل المدرسي والمهني والاجتماعي والمخدرات. وتتعالى اليوم في موريتانيا دعوات تطالب بوضع خطط للحد من هذه الظاهرة والالتفات لصحة المواطنين النفسية. فالواقع مزرٍ ومقلق.
الشيطان هو السبب
تسيطر على الميثولوجيا المحلية في موريتانيا فكرة أن كل اضطراب نفسي وعقلي سببه الشياطين ومسها، فالشيطان ينخر العقل ويبعثره، وأن العلاج يكون من خلال طردها من الأجساد وتنظيف الإنسان منها. ولذلك، فحين يشعر المواطن الموريتاني بأن به خلل نفسي، لا تكون أول فكرة لديه هي الذهاب إلى طبيب نفسي بل يترك نفسه للسحرة والمشعوذين و "الحجابة" (هم الأشخاص "المعالجين" بسر الحرف). وتختلف طرق عمل الجهات التي يلجأ لها الموريتانيون، فالحاجب مثلا يستخدم قراءة القراَن على المريض المصاب بالجنون ويلجأ بعضهم أحيانا لضربه ضرباً مبرحاً أثناء تلك العملية التي يكون فيها المريض مقيداً بالسلاسل. ويستخدم أيضا المنشغلون في عالم سر الحرف بعض الطلاسم والجداول التي يدَّعون أنها "تعالج" المرضى بالجنون، ومن المتعارف عليه أن "الحَجّاب" يتقاضى ما يعادل دية القتل في الشريعة الإسلامية حين ينجح في"شفاء" المريض.
لكن هناك من يلجأ للسحرة الذين يقومون بدورهم بعمليات غريبة مستوحاة من الثقافة الأفريقية الوثنية، وهناك من يعالج بالأعشاب وأنواع البخور، وهناك شارع في العاصمة نواكشوط معروف بتجمهر هؤلاء السحرة لتقديم خدماتهم. هذه الثقافة تجعل اللجوء إلى الأطباء النفسيين والطب الحديث خياراً غير منتشر في موريتانيا، فهناك قناعة تامة لدى الكثيرين بأن الإضطراب النفسي لا يُعالج إلا بالطرق التقليدية.
قطاع الصحة النفسية باهت
بالإضافة للعزوف المحلي عن الطب النفسي، يعاني قطاع الصحة النفسية من هزال شديد. ففي موريتانيا لا يوجد سوى مستشفى واحد لعلاج الأمراض النفسية وهو "مستشفى نواكشوط للأمراض العصبية والنفسية" المعروف محلياً باسم "طب جاه"، وقد أخذ المستشفى تلك التسمية المحلية من المواطنين الذين أطلقوا عليه اسم أشهر مدير للمستشفى. هذا بالإضافة لبعض العيادات الخاصة التي تقدم التشخيص وبعض العلاجات النفسية البسيطة. ويتعرض مستشفى نواكشوط للأمراض العصبية والنفسية لحالة شديدة من الضغط لعدم توفره على القدرات اللازمة لاستيعاب من يحتاجه، فالمركز يعالج نحو 1500 مريض سنوياً .ويتجلى في المستشفى تردي واقع القطاع الصحي في موريتانيا، حيث توجد مظاهر بؤس مفزع. فالطاقم البشري غير كاف والمعدات والأسرِّة لا تفي بالغرض، والمستشفى لديه 80 سريراً فقط، وحجراته ضيقة، ويُرمى بثلاثة مرضى في غرفة واحدة، ويشكو المواطنون المحتاجون للعلاج فيه من غلاء خدماته ومعاناة المرضى من المعاملة السيئة التي يتعرضون لها، وكذلك غلاء الأدوية التي يحتاجونها.
ويرجع بعض المهمتين بالقضية تفاقم تواجد المضطربين عقليا في الشوارع إلى ضعف قطاع الصحة النفسية في موريتانيا، حيث لا يجد هؤلاء من مأوى سوى الشارع، وذلك بعد تفاقم حالاتهم وتخلي أهلهم عنهم وعدم قدرتهم على الحصول على أماكن في المستشفى الوطني، بل وحتى هروبهم منه لسوء وضعهم فيه.
ما العمل؟
المطلوب هو ميلاد مبادرات لنشر الوعي بالصحة النفسية، والحث على التطبيع مع الطب النفسي لتخطي حالة النفور الشعبي منه، والتصالح مع المرض النفسي باعتباره مرضاً كباقي الأمراض التي تصيب الإنسان، وكذلك محاولة مساعدة من لا يملكون المال للعلاج، والضغط على الحكومة من أجل تحمل مسؤولياتها وتبني إستراتيجية واضحة للنهوض بقطاع الصحة النفسية، تراعي حالة الفقر المدقع التي تسيطر على غالبية الشعب الموريتاني.. بل هناك مطالبات بتوفير العلاج المجاني. وتلك الخطوات مطلوبة بشكل ملح، فحالة انتشار الاضطرابات النفسية يتضرر منها المجتمع الموريتاني الآن بشكل كبير، حيث تعزى اليها معدلات العنف المتصاعد وحالات اغتصاب القصر والنساء وخطابات الكراهية والتكفير والفرح بالقتل.