جرت بالبحر الميت في الأردن أواخر شهر نيسان/إبريل الفائت محاولة لخطو جديد في مشوار تناول المساءلة الاجتماعية في العالم العربي. كان ذلك من خلال عقد المؤتمر الإقليمي لشبكة "المساءلة الاجتماعية في العالم العربي"، شارك فيه أكثر من مئة مهتم بهذا المجال يمثلون خمس عشرة دولة عربية، بالإضافة إلى ممثلين عن البنك الدولي وبعض أصحاب الخبرات الأجانب خاصة من الهند. وقد قدمت أثناء هذا المؤتمر العديد من دراسات الحالة والتجارب، تناولت مواضيع متعلقة بشفافية الموازنات، وتحسين الخدمات العامة، وحق الحصول على المعلومات.
اهم ما جرى في الاجتماع، هو طرح أسئلة جوهرية فرضت نفسها: ما هي فائدة المساءلة الاجتماعية في ظل أنظمة صماء لا تستمع سوى لصوتها أو لصداه، ولا تكترث لهموم المواطنين ولا مساءلاتهم ولا تطلعاتهم بل تعيش في عالم مواز لا علاقة لها بواقع بلدانها؟ بل ما هي فائدتها في بلدان تعتبر المساءلة فيها إساءة لذات الحاكم التي يعاقب عليها القانون؟ وأيضاً من يساءل من؟ فمنظمات المجتمع المدني العربي ووسائل الإعلام لم تسلم من سرطان الفساد، وبعضها متهم بكونه مجرد وسيط تستخدمه الأنظمة لتجميل فسادها أو تمييع عملية المساءلة والحقوق، وإشغال الناس عن همومها الحقيقية وأزمات بلدنها الملحة وصرف الأعين عن جرائم الحكومات، وأن اللهث وراء التمويلات هو الشغل الشاغل لأغلبها ولا برامج واضحة لها، مما يقلص فرص تقديم عمل حقيقي تُرجى منه أي فائدة.
حول الشبكة ومؤتمرها
الشبكة هي مبادرة عربية تضم مجموعة من الأطرف المفترض تفاعلها في مجال المساءلة الاجتماعية في العالم العربي، مثل هيئات المجتمع المدني والقطاع الخاص والإعلام والحكومات. وكانت الإرهاصات الأولى لتشكلها في سنة 2010، وذلك من خلال المؤتمر الأول الذي عقد في القاهرة، وصولا إلى ورشة العمل الاقليمية بعمان في 2011، التي انتهت بإطلاق أعمال المشروع الأول للشبكة في آذار/مارس 2012 من خلال الأعضاء المؤسسين من الدول العربية السبع: الأردن وفلسطين ولبنان واليمن ومصر وتونس والمغرب. والشبكة مسجلة في لبنان كهيئة دولية، وممولة من البنك الدولي وتحت إشراف هيئة "كير" الدولية، وتهدف الشبكة إلى "نشر الوعى ودعم نظريات وتطبيقات المساءلة الاجتماعية في العالم العربي" متخذة عدة وسائط، مثل:
- رفع الوعي الخاص بنظرية وممارسة المساءلة الاجتماعية والحكم القائم على المشاركة.
- تطوير وبناء قدرات أعضاء الشبكة فيما يخص مفاهيم وأدوات المساءلة الاجتماعية.
- توفير التقنية والدعم المالي للأعضاء المهتمين بتطبيق أدوات المساءلة الاجتماعية.
- تعزيز التواصل والمعرفة وتبادل الخبرات بين الأعضاء وأصحاب المصلحة الإقليمية والدولية.
وقد حمل المؤتمر الثاني للشبكة، عنوان: "المساءلة الاجتماعية في العالم العربي... من النظرية إلى التطبيق"، وحاول منظمو المؤتمر تسليط الضوء على أفضل الممارسات الاجتماعية لـ "أدوات" المساءلة الاجتماعية في العالم العربي، واستخلاص الدروس المستفادة من مختلف المشاريع المنفذة.
تجارب ومداخلات
تخللت أنشطة المؤتمر عدة عروض ومداخلات، شملت محاور المؤتمر المحددة لكن سيطر على أغلبها الطابع التنظيري وغابت في بعضها عوامل الإبداع والميدانية والتأثير البيِّن في حياة المواطنين، لكن فرضت بعض التجارب المقدمة نفسها على الحاضرين، نذكر منها تجربة قدمها "التحالف اللبناني نحو صفر نفايات/ جمعية بيبلوس ايكولوجيا"، والتي تحدثت عن عمل هذا التحالف ضد التلوث وخاصة قضية المطامر الصحية في بعض المناطق اللبنانية المقترحة من مجلس الإنماء والاعمار والممولة من البنك الدولي، بسبب عدم ملائمة تلك التقنية لبلد كلبنان. وحسب مقدمة العرض، لم يلق اعتراض الجمعيات أي تجاوب رسمي محلي، مما اضطر جمعية بيبلوس ايكولوجيا إلى مخاطبة البنك الدولي في نيويورك، الذي ألغى القرض استجابة للجمعية، ولكن خيار الطمر ظل هو المعتمد. واقترحت الحكومة اللبنانية فتح أربع محارق وأربعة مطامر جديدة للرماد السام، ولكن التحالف اللبناني نحو صفر نفايات أطلق حملة وطنية ضد المحارق وطالب الدولة بوضع إستراتيجية واضحة لإدارة النفايات المنزلية الصلبة واعتماد تقنية إعادة التدوير.
ونجح في ضم جامعتين وعدداً كبيراً من جمعيات المجتمع المدني الأهلي والأكاديميين وخبراء وممثلين عن السلطات المحلية... ونتيجة لهذا الجهد، تم استبعاد زمني لمدة سبع سنوات لشراء المحارق. وعرضت أيضاً تجربة من تونس حول الموازنات المفتوحة، وهي تجربة الموازنة المفتوحة لبلدية "صيادة" التونسية، قدمتها "الشبكة التونسية للمساءلة الاجتماعية"، وتقول إنه أثناء ثورة الشعب التونسي، قام رئيس بلدية صيادة وبطريقة فردية بنشر موازنة البلدية للعموم لكي يطلع عليها المواطن، وكانت هذه هي بداية القصة. ففي 2012 شاركت الشبكة التونسية للمساءلة المجتمعية في أول ملتقى للموازنة المفتوحة لبلدية صيادة بحضور أعضاء المجلس البلدي والموظفين وممثلين عن المجلس البلدي، وبدأ طرح إمكانية استدامة هذه التجربة، وحدثت استجابة من قبل المشاركين وحث على ضرورة استمرارها من أجل دعم الشفافية وإشراك المواطنين في النقاش. وبالفعل استمرت التجربة وأصبحت أداة قوية في التأثير في مخصصات ميزانية البلدية وتحسين توجيه الموارد لمصلحة الفئات المعرضة للمعاناة، وأتاحت عملية فتح الموازنة فرصة أكبر لمساءلة الحكومة.
وفي مجال محاربة الفساد، قدم عرض حول مشروع you know المعني بمكافحة الفساد في فلسطين، وفكرة المشروع هي منصة تفاعلية تضم ثلاثة أطراف: صانع القرار واختصاصيي الجمعية والمواطنين. وهو يعتمد أسلوب شبكات التواصل الاجتماعي، ويحاول تعزيز الشفافية في فلسطين (والوطن العربي) بخلق مجموعة من المواطنين ـ المراقبين، يستخدمون الفيديو والصورة والمادة المكتوبة في "ملاحقة" المسؤولين في تقصيرهم تجاه المواطنين. وقد قام المشرفون على المشروع بالتشبيك مع شبكة واسعة من الشباب المدربين على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، بهدف أن يكونوا عناصر صحافة المواطن المغذين للموقع. وسبق أن فاز المشروع بجائزة "الرياديين العالميين" المعروفة التي تمنحها منظمة الشفافية الدولية. وقُدمت كذلك عروض من عدة دول عربية، مثل حملة مراقبة موازنات الصرف الصحي بمحافظات جنوب الصعيد، ومشروع إعلاميون ضد الفساد - الموازنات العامة ومدى شفافيتها وتدفق المعلومات والبيانات المالية الخاصة بها للمواطن الفلسطيني، وعرض من السودان حول حق الحصول على المعلومات في ظل أنظمة احتكار المعرفة.
نقد ونقاش
شهدت جلسات المؤتمر تعقيبات من طرف المشاركين، وقد حوت نقداً صريحاً للبنك الدولي ممول المؤتمر، واتهمه بعض المشاركين بكونه مجرد معين للأنظمة الفاسدة، وأنه لا يولي أي اهتمام لوضع خطط لمصلحة المواطنين في الدول العربية أو للتعامل مع منظمات المجتمع المدني، وأن ممثليه في تلك الدول مجرد جزء من ميكانيزمات الفساد. وقد كان من بين الحضور السيد جانميجاي سينغ - كبير اختصاصيي التنمية الاجتماعية في البنك الدولي، الذي قال إن البنك الدولي تحول بعد الربيع العربي إلى التفكير في عقد اجتماعي جديد، وحضرت المساءلة الاجتماعية بقوة قي برامجه.
وقد حضر المؤتمر أيضاً بعض المسؤولين من الدول العربية، حاولوا عرض تجاربهم، مثل مصر، التي حضرت منها المساعدة الأولى لوزير التخطيط، وقد تحدثت عن برنامج سيخلص مصر من جميع مشاكلها وفسادها مع حلول 2030، ويضعها في مصاف الدول المتقدمة.. في تناس تام للوضع بمصر وحالة الاستقطاب السياسي والاحتقان الحقوقي والقمع، وحتى اتهام النظام بالفساد والتخبط والعشوائية في القرارات، وهو ما جعل البعض يتساءل حول جدية هذه الخطة وواقعها.. ومن سينفذها: فهل هم الفاسدون في زمن مبارك الذين رجعوا للمشهد بعد الثورة المضادة؟