غرق الصندل المحمل بخمسمئة طن من الفوسفات في مياه النيل كان سبباً لضجة كلامية في صفحات التواصل الاجتماعي والمراصد الإعلامية المتباينة. وقد أُلبس الحدث من جديد أثواب التحيزات الخاصة، حيث جنح البعض لاعتباره استجابة لدعوات "المظلومين" في غياهب السجون المصرية، بينما على النقيض أبدى المسؤلون ارتياحاً للحادث وكأنه الصدفة الأفضل من ألف ميعاد، إذ "بعض الدول تلقي الفوسفات في المياه لتُحَصِّل فوائده" بحسب الوارد بأحد التصريحات. لذا كان طبيعياً أن تضيع القراءة العلمية الصادقة والتي نحتْ لدى كثير من المختصين نحو التهوين، حيث الأمر لا يتعدى - على أسوأ الحالات - كون خطر جديد تسرب في النيل ليجد مكاناً إلى جوار مخاطر أخرى تمثلها مخلّفات المصارف التي تستقبلها مياه النهر من كل صوب بلا هوادة كما بلا حسيب أو رقيب.
مرتع للمخلفات
تفيد "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في تقريرها "جهد قليل في مواجهة تحديات كبرى" (2013)، أن نهر النيل يتلقى سنوياً ما يقارب 6.5 مليار متر مكعب من مخلفات الصرف الصناعي، منها حوالي 1.3 مليار متر مكعب غير معالَج، وهو المحمل بالعناصر الكيميائية المستخدمة في الصناعات المختلفة. من جهة أخرى، ومع تدهور البنية التحتية وغياب شبكات الصرف الصحي، تتلقى مياه النيل حوالي 4 مليار متر مكعب من الصرف المنزلي 66 في المئة منها غير معالَج. ويذكر المركز في تقريره "تلوث المياه في مصر: الأسباب والمخاوف" (2014) "أنه على طول وادي النيل، من السد العالي بأسوان وحتى القاهرة، يوجد ما يقرب من 43 بلدة و 2500 قرية يتجاوز سكانها 20 مليون نسمة، وهم جميعاً يقومون بإلقاء مخلفاتهم من الصرف الصحي في النيل مباشرة"، حيث تغطي شبكات الصرف الصحي ما نسبته 24.7 في المئة في القرى فقط مقابل 88 في المئة في المدن.. وذلك علاوة على 2.9 مليون متر مكعب من مياه الصرف الزراعية المحملة بالأسمدة والمبيدات والتي تعود لتصب في النيل فتلوثه ببعض المبيدات الحشرية المحرمة قانونياً مثل (دي دي تي) الذي ما زال مستخدماً على نطاق واسع في الزراعة المصرية، كما ورد بالتقرير على الرغم من تصنيفه عالميا كمادة مسرطنة.
كله تمام!
تبدو الإحصاءات الرسمية للدولة مختلفة بصورة جذرية عن تلك الخاصة. من ذلك على سبيل المثال ما ورد عن تقرير حالة البيئة في مصر 2012 الصادر عن "جهاز شؤون البيئة المصري"، والذي يقول أن نسبة الأمونيا في مياه محافظات مصر المطلة على النيل جميعاً بدت أقل من الحد المسموح به وهو 0.5 ملغم في الليتر، وإن كانت القاهرة الكبرى صاحبة النصيب الأكبر، إلا إن نصيبها لم يتعدَ 0.3 ملغم في الليتر. على النقيض، ورد في ورقة المركز المصري للحقوق "الحق في المياه وخدمات الصرف الصحي"، أنه "في تموز/يوليو 2012، أظهرت نتائج معملية أن نسبة الأمونيا في المياه أكبر من المعدل المقبول بمقدار 180 ضعفاً"! ليست الأمونيا وحدها التي تقل عن الحدود المسموحة في التقرير الرسمي، بل نَحتْ معظم الملوثات التي رصدها التقرير الى عدم تجاوز الحدود المسموحة، ما ذُيِّل غالباً بعبارة "مما يوضح صلاحية المياه لجميع الاستخدامات"،. بيد أن الأمر يسير على الطريقة المصرية "تمام يا فندم .. كله تمام"!
الصحة
الارتباط السلبي الواثق بين تلوث المياه والسلامة العامة للإنسان وللبيئة على حدٍ سواء يبدو بديهياً. ولا يقتصر تهديد التلوث على مياه الشرب فحسب، إنما كذلك يطال الثروة السمكية، حيث يلقي النيل بحمولته من الملوثات قرب مصبه في البحر المتوسط، فتستقبل البحيرات الشمالية التي تمثل مصدراً رئيسياً للأسماك في مصر، نصيباً وافراً من الملوثات، يتخطى كثيراً الحدود المسموحة، وهو ما تقره حتى الإحصاءات الرسمية للدولة. وحسب الإحصاءات - غير الرسمية - الواردة بالتقرير أعلاه، فإن 95.5 في المئة من المصريين يشربون مياها غير معالجة، لذلك يُعزى 5.1 في المئة من مجمل الوفيات و6.5 في المئة من مجمل الإعاقات في السنة لمياه الشرب غير الصالحة، إضافة إلى أن 13 في المئة من نسبة الوفيات بين الأطفال دون الخامسة يسببها الإسهال الناتج عن تلوث المياه. كذلك يساهم تلوث الماء في ارتفاع معدلات الإصابة بالبلهارسيا والالتهاب الكبدي الذي تسجل مصر في معدلات الإصابة به مركزاً متقدماً على مستوى العالم.
ولا تتوقف عمليات تلويث الماء في مصر إلا عند فاه شاربها. فما زال لخزانات المياه الموجودة أعلى أسطح البنايات دور تستمده من ضعف الوعي الشعبي وغياب الرقابة عليها، حيث قد تخالف كثيراً من المعايير والمواصفات الفنية التي تضمن أمن وسلامة مياهها، خاصة ما يتعلق باختيار السعة المناسبة للخزان والتي تضمن عدم ركون الماء به لفترات طويلة ومتابعة تنظيفه بطرق صحية وبصفة دورية، فيما يستعين بعض المستنيرين من ذوي القدرة المالية بشراء الفلاتر التي هي الأخرى إن لم يتم اختيارها بوعي وتخضع للمتابعة الدورية فإنها قد تكون سبباً إضافياً لتلوث الماء. غالباً ما يقاطع المواطن المصري تلك الحقائق المزعجة بـ "سمِ الله ..واشرب عـالبركة"، وهو بذلك يستجدي قوة سماوية عليا تعينه على قهره وضعفه وقلة حيلته، بينما بالتندر والفكاهة يُسكن مخاوفه وينتزع ضحكات صاخبة تتغلب بالحياة على أذرع المرض والموت التي تلوح أمامه وتحاصره.
شح الماء
يلوح شح الماء في الأفق ليفاقم الأزمة، حيث تصب التقديرات نحو وصول مصر لمرحلة الشح المائي بحلول العام 2025، وهو ما يعني أن يصل نصيب الفرد من الماء الى حوالي 500 متر مكعب في السنة. وتعتمد مصر على النيل كمصدر رئيس للمياه يمدها بحوالي 55.5 مليار متر مكعب في العام. ونظراً لندرة الأمطار واختلاط نسبة كبيرة منها بمياه الصرف الصحي للمنازل - نتيجة انسداد مصارف الأمطار أو غيابها التام، فإن ما يستفاد منه لا يتجاوز 1.3 مليار متر مكعب في العام. من ناحية أخرى، توجد المياه الجوفيه في مصر على أعماق كبيرة تصعِّب الاستفادة المرجوة منها. ورغم تقديرها بحوالي 40 الف مليار متر مكعب، فإن المستفاد منها لا يتجاوز 2 مليار متر مكعب بحسب احصاءات وزاة الموارد المائية والري في مصر 2014، فيما يُعَول كثيراً على "ترشيد الاستهلاك" كحل هام يتداوله الخبراء والمسؤولون عبر المنابر الإعلامية. وهو يطلق هكذا، عاماً، بصحبة صور لبعض السلوكيات الإسرافية في الماء، تخاطب الضمير فقط من دون رسم آلية جادة توزع المهام بما يبشر بنتائج واقعية على الأرض، مع مداراة العجز المادي والعلمي والتقني عن اقتفاء السبل التقنية الحديثة للتغلب على فقر الماء. وإزاء مشكلات المياه في مصر، يبدو كل جديد هيّنا وإن كان ليس هيناً بذاته، ولكنه يهون أمام بؤسنا التقليدي، والبرَكة وقاية البسطاء من المهالك من أشباح المرض وعلاجه.