كورونا لبنان: بين الانهيار والإرهاق والتسليم بالقضاء

عندما نتكلّم عن كورونا في لبنان علينا التذكير دائماً أنه لم يكن حتماً أكبر مصائب البلد الصغير في العامين الماضيَين، وحاله هذه تجمعه بدول عربية عدة تَعرِف مِثله معنى أن يكون لديك مشاكل أكبر حتّى من وباء عالمي خطير. هذه هي الصورة القاتمة للحياة اليومية لمواطنين ومقيمين ولاجئين يُطرح عليهم سؤال الكورونا ليجيبوا باستهزاء بأنه "أهون المصائب".
2021-07-18

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
| en

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

"كذا وكيت (شتائم)، من يُنكر وجود الكورونا!" هكذا ينفعل سالم (اسم مستعار) الخمسيني، شاتماً نفسه أوّلاً قبل الآخرين، حين يتذكّر كيف أنه أصرّ لشهور طويلة على حكاية "ما في كورونا، كلّو كذبة" أمام نفسه وأصدقائه وعائلته. كان هذا قبل أن يُصاب بالمرضِ اللئيم الذي نقله من كنبة البيت عند العصر ورافعةِ البلدية التي يعمل عليها صباحاً إلى سرير المستشفى حيث قاسى الأمرّين وعانى من آلام شديدة مصحوبة بخوف مفاجئ لم يكن يتوقّعه - على الحياة نفسها - تسلل إليه من أعماقِ إنكاره الأوّل ليستفزّ فيه اليقين. يكيل سالم الشتائم الغزيرة لنفسه، ويبدو مقتنعاً تمام الاقتناع بكل حرف يصدر منه الآن: "عليكم بالاحتياط!"، "مش هينة. لا، لا، أبداً مش شي هيّن، صعب!" [1]، يردّد وهو يتنفس الصّعداء – بالمعنَيَين الحرفي والمجازي - بعد شفائه أخيراً من الداء. يشعر المرءُ بأن سالم وفيٌّ الآن لفكرة الوقاية من الفيروس وأخذه على محمل الجدّ، بنفس القدر الذي كان فيه وفيّاً لفكرة رفض التصديق بوجوده والترويج للاستخفاف به، وتطمين مَن حوله مِن معارف.

قد تبدو ازدواجية الرجل غريبة لأول وهلة، لكن لعلها أكثر من طبيعية في عالم يميل فيه الناس دوماً للتشكيك بكل ما لا يفهمونه تماماً أو بتفسيره بناء على ما يعرفونه من معلومات مسبقة يبنون عليها. 

مقالات ذات صلة

في الواقع، فإنّ هذا ما نفعله جميعاً بغضّ النظر عن المستوى الدراسي والإلمام العلمي والخلفية الاجتماعية والمادية وغيرها. فإننا بدرجة ما رهائن مخاوفنا من الجديدِ المجهول كما أننا لا بدّ ندورُ في فلك معارفنا السابقة والمتراكمة عبر السنون. لذا فعندما يتناول هذا النص المعتقدات الملتبسة الشائعة حول وباء كورونا أو حول اللقاحات المرتبطة به، أو حتى المعتقدات المؤامراتية حوله، وصولاً إلى مسألة التعاطي بنوع من الخفّة مع الموضوع، فهو لا يتعرض لهذه المواقف أو الأفكار متّهِماً أو هازِئاً أو مطلِقاً أيّ نوعٍ من الأحكام عليها، بل يحاول فقط استعادة بعض هذه النماذج من المعتقدات في لبنان على الأخصّ، وطرح التساؤلات حول أسبابها ومناشئها. فعلى الرغم من أن هذه المعتقدات والنظريات قد يؤدّي انتشارها الموسع إلى الضرر على صحة البشر وحياتهم، إلا أن تفهّمها كخطوة أولى لتفنيدها لاحقاً هو أمر ذو جدوى، خصوصاً في عالمِ اليوم الذي تتكاثر فيه الحوادث الكبرى التي تنذر بتغييرات جذرية في حياة أهل هذا الكوكب، ما زلنا غير قادرين على الإحاطة بأبعادها، مثل التغير المناخي والأوبئة...

كورونا "اللبناني"

في الشارع يدور الحديث عن الانفجار [2] . في مدخل البناية تتبادل الجارات أحدث تجاربهنّ مع أسعار اللحمة والخضار والمواد الأساسية. يسأل واحد عن دواءٍ ضروريّ مقطوع هنا، يغضب آخر من طابور البنزين الذي وقف فيه لساعات منذ الفجر، وتشكو أخرى انقطاع الكهرباء الدائم في الليل وانقطاع النوم معها... كلما تقدّمت الأيام في لبنان، منذ أواخر 2019 وحتى اليوم، وكلما ازدادت المواضيع التي ترهِق وتُثقِل على اللبناني، كلما صار السؤال عن مدى اهتمام الناسِ بمستجدات وباء كورونا والوقاية والتلقيح أكثر إحراجاً، حتى لكأنّه يبدو "ترفاً" لا يملكه هنا المواطن، مع أنه معنيّ به تماماً. كأنه صارَ سؤالاً يختصّ به مواطنُ ما يُسمّى بالعالم الأول: "هل أخذتَ اللقاح؟"، "أي الكمامات الطبية تستعمل؟ هل FFP2, FFP3 أمKN95/N95؟"، مقابل أسئلة مثل: "ألم يديروا مولّد الكهرباء بعد؟" أو "أين أجد هذا المضاد الحيوي؟ مقطوع تماماً!"، إلى آخره...

الحقيقة التي علينا التذكير بها على الدوام عندما نتكلّم عن كورونا في لبنان هي أن الوباء لم يكن حتماً أكبر مصائب البلد الصغير في العامين الماضيَين، وحاله هذه تميّزه عن كثير من دول العالم التي كان الوباء الشاغل الأول لها خلال السنة والنصف الفائتة، كما وتجمعه بدول عربية عدة تَعرِف مِثله معنى أن يكون لديك مشاكل أكبر حتّى من وباء عالمي خطير (على غرابة هذه الفكرة ورعبها). 

من هنا قد يصير مفهوماً سبب لجوء البعضِ إلى تتفيه مسألة الوباء، عمداً أو من غير قصدٍ وكردّ فعلٍ تلقائي، يُزادُ إليها سؤال الصحة النفسية. ففي البلاد التي تعاني اختلالات وظيفية وقصوراً فادحاً يطال الأدوار الإنتاجية والاجتماعية، يُلحَظُ تفاقم الأعباء النفسية. ولبنان ليس استثناءاً أبداً، فحسب أرقام وزارة الصحة في العام 2019 [3]، يتناول 30 بالمئة من اللبنانيين أدوية أعصاب بشكل دائم و30 بالمئة منهم يتناولونها بشكل متقطع بينما يعاني أكثر من 40 بالمئة من إجهاد نفسي في واحد أو أكثر من مراحل حياتهم يتطلّب علاجاً بالمهدئات أو مضادات الاكتئاب. هذا مع العلم أن هذه الأرقام لا تلحظ فئات هشة مثل اللاجئين الفلسطينيين أو السوريين أو العمال المهاجرين، المعرضين أيضاً لضغظ نفسي وعاطفي هائل، ومع العلم أيضاً أن هذه الأرقام تعود لما قبل بدء "الانهيار" الاقتصادي الكبير بقليل، وهي بالتالي لا بد تفاقمت، بالأخص مع معاناة انقطاع معظم الأدوية من الصيدليات!

هذه هي إذاً الصورة القاتمة التي باتت تشكّل الحياة اليومية لمواطنين ومقيمين ولاجئين يُطرح عليهم سؤال الكورونا ليجيبوا باستهزاء بأنه بات "أهون المصائب".

المؤامرة كشكلٍ من أشكال الرأي العام

ولكن، إذا ما وضعنا جانباً مسألة التقليل من أهمية الوباء لحساب مشاكل حياتية مباشرة تبدو طارئة بشكل أكثر إلحاحاً، فإنّ بعض الظواهر تتعامل مع الفيروس باستهزاء من منطلقات أخرى، وهي تطفو على السطح بشكلٍ فجّ أحياناً، على وسائل التواصل الاجتماعي. نجد على فيسبوك بالتحديد عدة صفحات لمواطنين لبنانيين، قد لا يكون عددهم هائلاً لكنهم موجودون، وأحياناً مؤثرون في صنع أو تعديل آراء مَن حولَهم ومَن يتابعهم. بمراقبة حثيثة لبعض هذه الصفحات، يلحظ المرء أنماطاً متكررة من الخطاب الذي يسخر أو يحاجج وغالباً ما يجمع الاثنين معاً. إحدى هذه الصفحات [4]  تسأل لماذا قد يحتاج فيروس "حارق خارق متفجّر مثل كوفيد-19" إلى "منظومة إعلامية ضخمة" تخبرنا على مدى 24 ساعة في اليوم أنه قاتلً فتاك. تسخر من "مسرحيات الأشخاص الذين يقلبون فجأة في الشارع أمام الكاميرات"، يتهم من وراء الصفحة وزارات الصحة حول العالم بالمبالغة في أرقام الموتى، وأخيراً والأهم، أنّ الصفحة تتسلّح بما تسمّيه "حقائق علمية بديهية" لمقارعة العلم نفسه. فمثلاً تتبنى الصفحة وسم #أصدّق_العلم نفسه الذي يُستخدم عادةً للتشجيع على أساليب الوقاية أو على تلقّي اللقاحات لتقول فكرة مفادها: "لأننا نصدق العلم، نرفض تصديق ما يقال حول خطورة كوفيد-19 وانتشاره". وغالباً ما يستعين أصحاب هذه الفكرة بفيديوهات لأشخاص أجانب يدّعون أنهم أطباء مهمّون ويشاركون آراءهم التي تهوّل ضدّ اللقاحات أو تعطي معلومات مغلوطة أو غير مؤكدة حول الفيروس، ويرفقون الفيديو بترجمة عربية. وهذا النوع من الفيديوهات ينتشر كالنار في الهشيم على مجموعات واتساب، وقد يكون أكثر انتشاراً بين الفئات العمرية الأكبر سناً التي تستخدم التطبيق. فيكاد الواحد يجزم أنه ما مِن مجموعة عائلية على تطبيق واتساب تخلو من أحد هذه الفيديوهات على الأقل التي تحذّر وتحاول أن تدحض المعلومات الطبية المنتشرة حول الموضوع.

هذه الصفحات المنتشرة على فيسبوك غالباً تعود لأفراد عوضاً عن الجماعات، وفي بعض الحالات يمكن رصد نمط متكرر متعلّق بربط الوباء بفكرة المؤامرة، بالماسونية العالمية مثلاً أو الصهيونية أو الشيطان نفسه. كما يعبّرأحدها بأن ما يحصل هو "عملية نفسية"، على حدّ قوله، "للسيطرة على عقول الناس وإخضاعِهم لقرارات ما كانوا ليقبلوا بها في الحالة العادية." وهذا رمز العصا والأفعى في شعار منظمة الصحة العالمية WHO، يعيدنا إلى قصة موسى وفرعون وسحرته (سحرة منظمة الصحة العالمية؟) التي يسميها البعض هازئاً منظمة "الكحّة" (السعال) العالمية، في إشارة إلى أنها هي التي تقوم بنشر الفيروس في المقام الأول... ونظرياتٌ كهذه ليست حكراً على صاحب الصفحة سالفة الذَّكر (وهو شاب لبناني تلقّى تعليماً جامعياً على سبيل المثال، إذ لا ينحصر تكذيب الوباء بكبار السن أو بغير أصحاب الاختصاص)، بل يشاركه فيها أفراد وجماعات في العالم أجمع، حتى أن الأمر وصل في عدد من الدول المتقدمة إلى تظاهراتٍ تحتجّ على إجراءات الوقاية وترفض لبس الكمامات.

يتناول 30 بالمئة من اللبنانيين أدوية أعصاب بشكل دائم و30 بالمئة منهم يتناولونها بشكل متقطع بينما يعاني أكثر من 40 بالمئة من إجهاد نفسي في واحد أو أكثر من مراحل حياتهم يتطلّب علاجاً بالمهدئات أو مضادات الاكتئاب، وذلك حسب أرقام وزارة الصحة في العام 2019.

انطلاقاً من دراساتِ بعضِ الباحثين في العلوم السياسية والاجتماع [5] ، يمكن لنا طرح سؤال أكثر شمولاً حول منبع النظريات المؤامراتية التي تحيط بالأحداث الكبرى وغالباً – بل دائماً ما تُرافق الأزمات، الأوبئة والتغيرات المفاجِئة في مجرى الحياة العامة الاجتماعية والسياسية، وهذا ما ينطبق تماماً على وباء كوفيد-19 ومدى انتشاره وتأثيراته. فبالنظر إلى القناعات التي تتصف باللامعقولية والبعد عن المنطق للعديد من نظريات المؤامرة ، فمن المفهوم أنها غالباً ما يتمّ تفنيدها باعتبارها إمّا مظاهر باثولوجية (كحال البارانويا/ الارتياب المَرَضي، على سبيل المثال) أو نتاج معلومات مضلِّلة لحدّ بعيد، أو أنها في إطار ما يمكن تسميته بالمعرفة المعطلة. وبما أنه ليس من طريقة علمية أو دقيقة يمكن توخّيها للبحث في كل هذه المعتقدات كلّ على حدة، وبما أنه لا شكّ بأنها قادرةٌ على الشيوع والانتشار بشكل واسع – ليس فقط في دول ما يسمى بالعالم الثالث، بل في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ودول متقدمة عدة كذلك، فإنّ ثقل السؤال ينصبّ على الزاوية التي تسائل السبب، أي سبب تبنّي بعض الناس لهذه النظريات والدفاع عنها.

يؤكد الباحث في العلوم السياسية ج. إريك أوليفر أن نظريات المؤامرة هي ببساطة نوع آخر من الخطاب السياسي الذي يوفر إطاراً لتفسير الأحداث العامة، معتبراً أنّ المؤامرة مجرد شكل من أشكال الرأي العام، وهي بالتالي تخضع للتأثيرات نفسها المحدِّدة للمعتقدات الجماهيرية التقليدية. هذه السرديات تنشأ على التماس مع خطاب النخبة أو مع الخطابات المهيمنة، وبمواجهتها.

وباء وسياسة ودين

ويزداد الأمر تعقيداً عندما تتداخل مع نظريات المؤامرة مسببات أخرى تسهم في تغذية الخوف والشكوك بين اللبنانيين، مثل الدين أو السياسة. ثمة مقطع مصوّر لكاهن كنيسة يعظ المؤمنين [6]  بالقول إنّ "قوى الشر هي التي صنعت كورونا بإلهام وتعليم من الشياطين في جهنّم (...) هؤلاء كلّهم أتباع المسيح الدجال، مثل بيل غيتس"، ويضيف "نحن عنّا لقاح أقوى منهم كلهم. شو هوّي؟ نتناول القربان المقدس بعد الاعتراف بخطايانا. ندهن الزيت المقدس على جبيننا وصدرنا ويدينا. نشرب مي مصلّاية (أي التي تليت عليها الصلاة)". ويستنتج "عيّشوا الناس برعبِ وهلع حتّى ما يضهروا من بيوتهم، حتّى ما يصلّوا". أمّا على الصفحة الفيسبوكية سالفة الذّكر التي تروج لنظرية المؤامرة، فتُستعمَل الآية القرانية "مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ" [7] إشارةً إلى "الخانعين" ممن يلبسون الكمامة (مقنعي الرؤوس) للوقاية من الفيروس، فيما الآية منزوعة من سياقها الأساسي الذي يصف أهوال يوم القيامة والبعث. هذا من جهة تأثير عميق على الرعية والمتدينين الذين يتعاملون مع رجل الدين كرجل سلطة. ومقابل هؤلاء هناك رجال دين استعملوا منابرهم لتشجيع الناس على الوقاية والتلقيح...

ومن جهة أخرى، هناك رجال السياسة وتأثيرهم. ففي شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، جاء في صحيفة "الجمهورية" خبرٌ مفاده أن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون سيمتنع عن تلقّي اللقاح وسيكتفي باستمرار الإجراءات الاحترازية في قصر بعبدا للوقاية من الفيروس، هذا مع أن عون عاد وتلقى اللقاح في شباط/ فبراير 2021، بعد شهرين فقط من ورود الخبر. وكونه زعيم سياسي ورئيس جمهورية، فإن خبراً كهذا لا يُستهان بتأثيره في الرأي العام (بين اللبنانيين عامة والمناصرين لتيار عون السياسي خاصة). مثل ذلك حصل أيضاً مع بثّ مقابلة للسيد حسن نصر الله في كانون الأول/ ديسمبر 2020، أجاب فيها عن سؤال "هل ستتلقى لقاح كورونا؟" بالقول أنه سينتظر ولن يتلقى اللقاح الأميركي فايزر عند وصوله إلى لبنان. هذه الجملة أثارت بعدها حملة جدال على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأوساط الداعمة لحزب الله بالأخص، حول اللقاحات بشكل عام ولقاح فايزر بشكل خاص، وأعادت تأجيج النظريات المؤامراتية التي تقول بأن الأمريكان إنما يريدون "تجريب لقاحهم على شعوب المنطقة قبل شعوبهم"، على الرغم من أنّ حملات التطعيم كانت بالفعل قد بدأت في دول عدة ومنها الولايات المتحدة.

تجاهل الناس للوقاية من الوباء لا يعود بالضرورة إلى تكذيب تأثيره أو إلى إيمانهم بإحدى نظريات المؤامرة حوله، بل يكون في أحيان كثيرة مجرّد قرار نابع من الإيمان بقدَريّة ما أو تسليم إلى الله أو الطبيعة أو الحظوظ، كلّ حسب معتقده.

إحدى الصفحات المكذِّبة لكورونا يديرها لبناني أخذ على عاتقه تقريع "جمهور المقاومة" في لبنان على تجاهل تحذيرات السيد علي خامنئي، مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران، والذي أعلن "عدم الثقة باللقاحات الأميركية والبريطانية"، فأخذت الصفحة على هذا الجمهور تلقّي لقاح فايزر وأسترازينيكا وغيره، بل وهاجمت الصفحة في عدة منشورات وزير الصحة حمد حسن، وهو بدوره وزير من حصّة حزب الله في توزيع المناصب الحكومية، فاعتبرت أنه كان من الأجدى له تجنب استيراد هذه اللقاحات الغربية بدل أن يكون "عبداً لمنظّمة الصحة العالمية ودول الغرب"، حسب تعبير أحد المنشورات.

وزير الصحة "رافعاً السيف" ضد كورونا

ووزير الصحة اللبناني بحد ذاته شكّل ظاهرة غريبة في التعاطي مع وباء كورونا في لبنان أثّرت كذلك على المواطنين. فيذكر اللبنانيون تغريدات الوزير على تويتر في الموجة الأولى من انتشار الوباء في البلاد وكلمته الشهيرة "لا داعي للهلع" التي اعتبرها كثيرون تطميناً لا يترافق مع أية معطيات وقائية جدية في ذلك الحين، إذ تلته مباشرةً موجات انفلت فيها عقال الإصابات وأُجهد بها القطاع الصحي تماماً. وعند ضمور الموجة الأولى، أجاب الوزير إحدى السائلات على تويتر "جايي موجة كورونا ثانية؟"، فقال بكل ثقة وقطع: "ما بتسترجي" (أي: لا تتجرأ الكورونا على الاقتراب مجدداً). هذا الجواب الغريب والذي شكّل من جديد تطميناً لا يستند إلى أي حقيقة علمية أو دراسة أو معطيات جدية، جاء كأنه مديح للذات ولقدرة الوزير على درْءِ أي موجات كورونية جديدة... كأنّ الأمر بهذه البساطة. هذه الخفة تمظهرت مراراً وتكراراً في عدة مواقف للوزير، منها حين التقطته الكاميرات مهللاً بالسيف معلناً الانتصار على كورونا في بعلبك ومحمولاً على الأكتاف (وكان ذلك في حزيران/ يونيو 2020، أي باكراً جداً قبل الموجة الثانية والأصعب)، وحين رصدته التلفزيونات قاطعاً قالب حلوى كبيراً في الشارع احتفالاً مع مواطنين قرروا إقامة عيد ميلاد السيد نصر الله رمزياً على الرغم من قرارات الحظر، حتى أن إدارة الوزير للأزمة أثارت اعتراضات على أدائه ودعوات لإقالته من داخل جمهور حزبه نفسه، إذ أثارت تصريحاته المختلطة وغير المفهومة حفيظة المعارضين والمؤيدين.

وحتى عندما تخلّى الوزير عن إيجابيته، محاولاً مواساة أطباء لبنان في محنتهم وخسارة كوادر منهم نتيجة الوفاة بكورونا، فإن لغة الوزير لم تسعفه، إذ كتب جملته العجيبة: "شحّت بشائر الرغد وضاقت السبل في دوامة القهر، ضاربة بالمثل عند أنين الفقر وشماتة الدهر، فلامست شفير سواد ما نخشى، حتى ابتلينا بغشاوة البصيرة غضباً ضارباً بكل ألوان الحياة والحياء، ونال منه الأبيض الناصع عزاً نصيب الافتراء رغم المدح والثناء. أطبّاء لبنان عذراً". فتحولت التغريدة إلى محطّ هزءٍ وسخرية عند كل مواطنٍ قابلها، بلغتها غير المفهومة واستشعارها المبالغ به، والذي يتكرر في تغريدات أخرى للوزير نفسه. يمكن القول إن دور وزير الصحة في العامين الماضيين افتقد الجدية والرصانة اللازمين لإدارة أزمة بهذا الحجم، كما أسهم في إعطاء انطباعات مغلوطة لدى الناس حول سهولة الخروج من الأزمة أو الإيحاء بالخروج منها قبل الأوان.

تبدّلات الفنانين المؤثرين في الرأي العام

غير أنّ تجاهل الناس للوقاية من الوباء لا يعود بالضرورة إلى تكذيب تأثيره أو إلى إيمانهم بإحدى نظريات المؤامرة حوله، بل يكون في أحيان كثيرة مجرّد قرار نابع من الإيمان بقدَريّة ما أو تسليم إلى الله أو الطبيعة أو الحظوظ، كلّ حسب معتقده. والغالب على مجتمع لبناني متدين، وإن بتفاوت، هو الايمان الغيبي بالمكتوب. فكثيراً ما تُسمع بعد حالات الوفاة أو الإصابة بكورونا عبارات مثل "أكل نصيبه"، على مبدأ "قل لن يصيبنا إلا ما كتبَ الله لنا" [8] . ومجدداً، هذه سمة تشترك فيها شعوب المنطقة في تعاطيها مع الوباء. فعلى سبيل المثال، في مصر، أثناء مقابلة من "مهرجان الجونة السينمائي" الذي لم يُلغِ دورته في عزّ موجة كورونا الثانية العام الفائت 2020، أثار تعليق الممثلة ياسمين صبري ضجّة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أجابت على سؤال صحافي حول مدى خوفها من فيروس كورونا قائلةُ "اللي ياخدو ياخدو (أيْ يصابُ به) واللي يكمّل يكمّل، والبقاء للأقوى". هذه الخفة، وإن لم تكن دينية، إلا أنها تعكس مقاربة شائعة عابرة للمجتمعات أمام أمرٍ جَلل خارجٍ عن سيطرتنا المباشرة. هنا تجدر الإشارة إلى مواقف فنانين عدة، مغنين وممثلين مؤثرين بالرأي العام اللبناني والعربي، أسهمت كذلك في نشر معلومات مغلوطة أو التخويف، أو تشجيع الناس على الوقاية في أحيان أخرى.

المغني اللبناني راغب علامة كان من أبرز من غيروا أقوالهم أمام الرأي العام مثلاً. "أخاف منه هذا اللقاح. كورونا نفسها مؤامرة، واللقاح مؤامرة أوسخ (...) مؤامرة سياسية دولية "[9]، هكذا صرّح علامة في مقابلة تلفزيونية مع "قناة الجديد"، مصراً أنه في كل جلسة مع مجموعة من الأشخاص يطرح على الحضور سؤال "هل ستتلقون اللقاح؟" ليؤكد أنه دائماً ما تأتي الإجابات بالسلب "بنسبة مئة بالمئة"، حسب إحصائه الخاص! لكنّ علامة نفسه صرّح بعد أسابيع قليلة من تصريحه الأول: "أنا أنتظر وصول اللقاح إلى لبنان لأكون أول من يتلقاه". الفنانة اللبنانية صاحبة 7.5 مليون متابع على انستغرام، هيفا وهبي، كتبت لمتابعيها عبر انستغرام ستوري "40 عاماً ولم يتم اكتشاف أو الوصول لعلاج للوقاية من مرض السرطان أو الإيدز، ومحتاجين على الأقل 100 سنة كمان، حتى البرد العادي الشائع مالوش علاج، بخصوص فيروس كورونا، في أقل من سنة تم اكتشاف تطعيم له، وعايزني آخده، لاء شكراً مش عايزة، مش هاخده". تخلط وهبي بين الأمراض الجرثومية وغير الجرثومية وتحكم على اللقاح بالشك دون المعلومة، مثلما يفعل كثر منا من غير أصحاب الاختصاص. غير أن الفرق بين أي من معارفنا ممن يرددون هذا الخطاب وبين وهبي هو أنها تملك جمهوراً قوامه الملايين ممن قد يتأثرون برأي شخصية عامة صاحبة شعبية هائلة.

الشك والهلع والمعلومة المغلوطة والإشاعة من شيم الأزمات، وهذه باتت تصادف اللبناني حين يسأل عن ماله في البنك أو أجره الذي لم يعد يساوي مئة دولار، كما حين يحاول أن يأخذ موقفاً بخصوص كورونا.

غير أن الملحوظ بوضوح أنه بعد انقضاء العام الأول من العيش مع الوباء والدخول في العام 2021، ومع بداية حملات التلقيح حول العالم، بات الفنانون اللبنانيون والعرب والعالميون أكثر حذراً من التصريح بأي رأي سلبي باللقاحات أو مشكك بالكورونا. بل على العكس، صار هناك حملة تسابق بين المؤثرين والفنانين والسياسيين على تلقي اللقاحات ونشر صورهم أثناء التطعيم وتشجيع الناس على ذلك. والملفت أن هؤلاء لا ينتظرون بالدور ويسجلون الأسماء عبر المنصات الرسمية ككل الناس، بل أن نسبة كبيرة منهم ذهبت إلى دولة الإمارات لتلقي اللقاح مع عائلاتهم بالجملة مبكراً، قبل وصول دورهم في لبنان، وهم بعد ذلك ينشرون على صفحاتهم صوراً وفيديوهات يشكرون فيها الإمارات العربية على حسن ضيافتها [10].

خاتمة

إنّ لبنان في الواقع يرزح تحت عدّة أثقالٍ متزامنة، تحث عبءِ اللاطمأنينة والقلق الاقتصادي والمعيشي والسياسي والصحّي كذلك، وإن انعدام ما هو "أكيد" وثابث ونهائي في البلاد خلال هذين العامين المنصرمين هو صفة ملازِمة لكلّ نواحي الحياة، وليس لأزمة وباء كورونا فحسب. فالشك والهلع والمعلومة المغلوطة والإشاعة من شيم الأزمات وهذه باتت تصادف اللبناني حين يسأل عن ماله في البنك أو أجره الذي لم يعد يساوي مئة دولار كما حين يحاول أن يأخذ موقفاً بخصوص كورونا. وإذا كبّرنا العدسة ونظرنا إلى حال العالم أجمع، فلا يسعنا إلّا ربط كل هذه التجربة الإنسانية العالمية بفكرة هشاشتنا كبشر، كأفراد وجماعات ومجموعة كونية كبيرة واحدة أيضاً، تقطن على الكوكب نفسه، وجدت نفسها مضطرة على حين غرة الى مواجهة هشاشتها والتفكّر بعلاقاتها، سياساتها، فلسفتها، بعلاقة الإنسان بالإنسان كما وبعلاقته مع الطبيعة، وبشكل طارئ وملحّ لا يحتمل التأجيل.

 أمام الخوف والجهل الأوّلي بماهية ما يحصل وكيف ولماذا، من الطبيعي أن تنفجر الأفكار وأن يسود الشكّ والقلق. يبقى أنّ ثمة إيجابية هامة – رغم ضآلتها - في حالة لبنان متمثّلة بانحسار موجات محاربي اللقاح وازدياد الإقبال بشكل لافت [11]  على المنصة والتسجيل لتلقي اللقاح.  

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

[1] من شهادة مواطن حول تجربته مع كورونا، "سالم" اسم مستعار
[2] انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020 الذي راح ضحيته أكثر من 200 شخص وأوقع 6000 جريح.
[3] إحصاءات وزارة الصحة ضمن تقرير بعنوان "الصحة النفسية واستخدام المواد المسببة للإدمان" 2019.
[4] صفحة شخصية يديرها فرد واحد
[5] J. Eric Oliver and Thomas J. Wood. Conspiracy Theories and Paranoid Style(s).
كتاب نظريات المؤامرة وأساليب الارتياب. إريك أوليفر وج. وود
[6] رابط الفيديو على تويتر 
[7] سورة ابراهيم، الآية 43.
[8] "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" الآية 51 من سورة التوبة.
[9] تقرير BBC العربية حول تغيير راغب علامة لرأيه حول كورونا واللقاحات
[10] درجت دولة الإمارات في الشهور الأخيرة على منح فنانين لبنانيين وسوريين (مثل نجوى كرم وعاصي الحلاني من لبنان وصولاً إلى الفنان القدير ياسر العظمة من سوريا مثلاً) إقامات ذهبية بالجملة تسمح لهم بالإقامة المطولة وتلقي اللقاحات وعدة امتيازات أخرى داخل الإمارات.
[11] فبحسب استطلاع موسّع من "الباروميتر العربي" ، فإنّ 65 بالمئة من اللبنانيين الذين شملهم الإحصاء قالوا أنه من المحتمل أو المحتمل جداً تلقيهم لقاح كورونا طوعاً حال توفره، مما يجعل لبنان من الدول العربية الأكثر قبولاً وإقبالاً على اللقاحات بعد المغرب وليبيا 

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...