لا يستقيم الحديث عن العنف في المدرسة، من دون العروج على حالة الظاهرة في المجتمع، وهي مستشرية على نحو بالغ، حيث يمثل الذراع الوسيلة الأسرع والأضمن في صون الحقوق عوضاً عن الهزال في النظام القانوني والقضائي القائم والمنوط به حسم الصراعات بين الأفراد. وقد بلغت معدلات العنف الأُسَري والطائفي والجنسي والسياسي في المجتمع - مؤخراً- مدى بعيداً، اتكأ على قديمه الشائع في خناقات الشوارع الشعبية والتي يهرع لها رجال الشارع وشبابه لتسجيل دور إمّا بالسعي نحو الفض أو بالمشاركة لإحماء وطيس المعركة، بينما تتابعها النساء بشغف من الشرفات، ليبقى النجاح في الإتيان بالحق شيمة الشجعان، والقدرة على رد الاعتداء مبلغ الرجولة وغايتها. ولما تنوّعت أشكال العنف في المجتمع، فقد انتقلت للمدرسة بصورها المختلفة، وإن كان البدني واللفظي هما الأكثر بزوغاً في المجتمع المدرسي. وتلبية للثقافة المجتمعية، فهو أكثر بين البنين عن البنات، وفي المدارس الحكومية عن الخاصة.
عصا المعلم
عصا المعلم هي أول ما يتبادر للأذهان حين الحديث عن العنف في المدارس، وإن كان بعض المعلمين يعول عليها في ترويع التلاميذ للتربح منهم في الدروس الخصوصية، فإن الأكثرية يلجأون إليها لتحجيم انفلات التلاميذ، حيث يبقى التحرش بالمعلم سعياً لاجتلاب الضحكات واختلاق النكات، مزاجاً طالبياً عاماً، وهو وسيلة بعض التلاميذ لتخفيف جدية الدرس في الحصص المدرسية المتتالية ومجرى لتنفيس بعضٍ من هول الطاقة المقموعة بنفوسهم إزاء الروتين المدرسي. لذلك قد يتحمل المعلم شطراً من المسؤولية عن الانفلات السلوكي للتلاميذ، خاصة إن كان جماعياً وموجّهاً لأحد المعلمين على وجه الخصوص، إذ يزيد الأمر أو يقل بحسب شخصية المعلم ومدى تمكنه من أدواته وقدرته على تصريف طاقة تلاميذه في مصارف شرعية لا تعيق سير العمل، بينما "بالضرب" يحسم كثير من المعلمين الوضع في حده الأدنى.
يدعم ذلك أن الضرب ما زال معتمداً كإجراء عقابي بغية تأديب الأبناء لدى قطاع واسع من المصريين، وإن امتنع المعلم عن ضرب تلاميذه في المدرسة فإن الضرب على أشدّه في الدروس الخصوصية وبرعاية الأبوين ودعمهما، بل وبقبول التلميذ نفسه، الذي يتقبّل الضرب في الدرس الخصوصي حثاً على المذاكرة وتذكيراً بالواجبات، فيما تستخدم عصا المعلم كذلك لفض النزاعات بين التلاميذ، حيث كثيراً ما يُصدِّر التفكك والعنف الأُسَري واستغلال الأطفال في أعمال غير مناسبة، أطفال عُنُف للمجتمع المدرسي.
وقد تبين أن هؤلاء التلاميذ العُنُف، سرعان ما يحفزهم تكدس وعسر المناخ التعليمي في المدرسة على التورط في اعتداءات لفظية أو جسدية على أقرانهم، الذين قد يحتكمون مبدئياً إلى معلميهم لفصل النزاع بينهم، إلا أن تهدئة الأمر على نحو لا يرضي التلميذ المعتدي، ينتهي بإلهام المُشتكي لضرورة تجاوز المعلم والاعتماد على ساعده. والمشاجرات التي لا يسعفها اليوم الدراسي للانتهاء يستكملها التلاميذ بعده وأمام بوابة المدرسة.
لائحة الانضباط المدرسي
صدر قرار وزاري (رقمه 234، في عشر مواد وبتاريخ 20 أيار/ مايو 2014) ليضع قواعد لحفظ النظام والانضباط داخل المدارس. وقد اختصت المادتان الرابعة والخامسة بتفنيد واجبات المعلم تجاه التلاميذ وكذا المحظور عليه تجاههم. وهكذا نصت المادة الخامسة على "الحظر المطلق لتوقيع أي عقوبة بدنية على الطلاب أو توجيه عبارات نابية أو تخدش الحياء أو الآداب العامة إليهم أو تُعرِضهم لأي شكل من أشكال الإساءة"، فيما اختصت المادة السابعة من القرار بتفصيل كيفيات توجيه وتأديب التلاميذ المخالفين بصورة تدريجية، تبدأ بالتنبيه والنصح وتنتهي بحرمان التلميذ سيئ السلوك من مواظبة الحضور في المدرسة، بينما تسمح له فقط بحضور الامتحانات ("نظام المنازل")، ذلك بعد نفاذ كل الإجراءات العقابية السابقة على ذلك. وإذ تعكس فكرة تدرُّج الإجراءات العقابية رحابة نظرية فإنها تخور عملياً أمام تعقد الواقع، مثلاً تشتمل إحدى تلك المراحل على الحرمان المؤقت من الرحلات المدرسية! كيف، وهي إجراء موسمي انتقائي بطبيعة الحال، ما يعني أن المحرومين منه كُثر ولا يقتصر الأمر على التلاميذ العُنُف، ما يسفه العقاب ويُعدمه قيمته.
من ناحية أخرى يقترح "دليل المعلم لوقف العنف في المدارس" الصادر عن منظمة يونسكو، حرمان التلميذ العنيف من بعض الامتيازات مثل عدم المشاركة في الأنشطة المدرسية، وهي في مدارسنا أيضاً على حالة من السوء تجعل الحرمان منها مكافأة قد يتبارى التلاميذ للفوز بها، بل ويصير تعمّد المخالفة سبيلاً للانفكاك من عبء الالتزام برتابة الحصة وإحضار الأدوات. كذلك فإن الاحتكام لولي أمر التلميذ العنيف الذي يُعدّ أحد الإجراءات العقابية الموصوفة كثيراً ما يكون غير فعال مثل سابقه، إذ عادةً ما يكون ولي الأمر (وخصوصاً الأم في حالات الانفصال) عاجزاً عن التحكم في زمام أمر ابنه، وما يفعله التلميذ في المدرسة يُذِق أهله أضعافاً مثله في المنزل.
يقول أحد المعلمين "إن الحالات العنيفة دائماً لا تمثل القاعدة، ولكن الخطورة في عدم وجود إجراءات تقويمية جادة، ما يمكن الاستثناء من إفساد العمل على المجموع، فوجود تلميذ عنيف واحد في الفصل قد يستهلك ذهن المعلم ووقت الحصة في اختلاق المشكلات واستدعاء الفيصل المناسب للبت فيها، وبعدم تقويمه فإنه يمثل بؤرة تجذب بعض أقرانه الذين يرتأون في العنف علامة على الفتوة التي يطمح لها بعض الشباب والمراهقون في هذه السن". لذلك تحترق سريعاً المراحل العقابية التي قد تسطر في صفحات، ليُنتَهى عادة إلى "الضرب"، حيث تتخوّف الإدارات المدرسية من اللجوء لفصل التلاميذ العُنُف أو تحويلهم لنظام المنازل خشية الطعن في حكمة الإدارة وقدرتها على تسيير العمل بسلاسة، خصوصاً لتلاميذ التعليم الأساسي الذين يعتبر فصلهم من المدرسة أمراً حرجاً.
عنف التلاميذ
يدخل العنف الموجّه ضد المعلم في الحديث المسكوت عنه من الناحية البحثية، إذ تندر الدراسات التي تتناول الظاهرة بالبحث والإحصاء. وقد ذكرت دراسة "أسباب العنف الموجّه ضد المعلمين.. وسبل العلاج" المنشورة بـ "أميركان سيكولوجيست" (آذار/مارس 2013)، أن أربع عشرة دراسة على مستوى العالم، وعلى وجه الحصر، هي الصادرة في هذا الشأن، منها خمس صادرة عن الولايات المتحدة الأميركية. ووفقاً لإحصاءاتها، فإن 80 في المئة من المعلمين الذين تناولتهم الدراسة قد سجلوا تعرضهم للعنف لمرة واحدة على الأقل خلال العام الدراسي، بعضه من قبل التلاميذ والبعض الآخر من قبل آباء التلاميذ.
وقد كشفت الدراسة أن العنف ضد المعلم غالباً ما يصاحب الإدارات المدرسية الهشة والمناخ التعليمي السالب والتكدس الطلابي، كما نقص الدعم الاجتماعي للمدرسة. وعن أشكال العنف فإنها تتضمّن: التخابث بالشتم والاعتداء والبلطجة وتكوين العصابات والسرقة والتخويف. صحيح، ليست لدينا دراسات لإحصاء حالتنا، كما ينصرف الإعلام غالباً لحصر العنف المدرسي في غلظة بعض المعلمين تجاه التلاميذ وحسب، إلا أن تجميع شتات الأخبار المبعثرة عن ضرب بعض المعلمين هنا أو هناك قد يفيد في إكمال الصورة.
إن ما يُرى من ابتسامات واسعة بصحبة اشتباكات عنيفة في أوقات المزاح وتداول للشتائم كما النكات، يشي بتمكن العنف من المجتمع، الذي في النهاية لا يمكن فصله عن المدرسة. سيبقى العنف في المدرسة ما بقي في المجتمع، فلن توجد مدرسة السلم في مجتمع العنف!