إدارة النفايات في مصر: ضد التيار!

سجلت مدينة فاس المغربية تجربة رائدة في استثمار النفايات المنزلية لإنتاج غاز طبيعي وظف في توليد الكهرباء، ليسد ما يقارب 30 في المئة من احتياجات المدينة. وقد أعرب المسؤولون أن الحدث الذي زُف إلينا منذ بضعة شهور كان وليد شراكة بين القطاعين العام والخاص. في الوقت الذي صار فيه التعامل مع النفايات ـ عالمياً ـ يعتمد مبدأ "الاستثمار" فيها وليس فقط عبء التخلص منها، ما زالت أقدام المصريين
2015-12-17

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
خليل حمرا (AP) - مصر

سجلت مدينة فاس المغربية تجربة رائدة في استثمار النفايات المنزلية لإنتاج غاز طبيعي وظف في توليد الكهرباء، ليسد ما يقارب 30 في المئة من احتياجات المدينة. وقد أعرب المسؤولون أن الحدث الذي زُف إلينا منذ بضعة شهور كان وليد شراكة بين القطاعين العام والخاص. في الوقت الذي صار فيه التعامل مع النفايات ـ عالمياً ـ يعتمد مبدأ "الاستثمار" فيها وليس فقط عبء التخلص منها، ما زالت أقدام المصريين تتعثر بخفيف النفايات التي يحملها الهواء مبعثِراً المقالب المنتشرة في شوارع البلاد، بينما أيديهم تحار بين كتم الأنوف وهش الذباب. تعاني السياسات المصرية تعذراً جلياً في إدارة ملف النفايات، لذلك ينتهي أغلبها بالحرق أو بالتراكم في الشوارع العامة والمناطق العشوائية. ربما أعادت الاحتجاجات اللبنانية المشهودة مؤخراً ملف القمامة لصدارة المشهد، وألهمت المتابعين بإعادة النظر وتقييم الحال.
ويساهم رفع الوعي بالطبع بدور هام في إعادة رسم ملامح الأزمة. والحق.. إن حملة توعية مطولة بخصوص المحافظة على البيئة والتعامل القويم مع المخلفات تعوز المصريين على وجه العموم، ولا يقتصر الأمر على الأميين والبسطاء بل ربما يمتد لأعلى وأغنى فئات المجتمع. فالثقافة المصرية السائدة ترسخ أنماطاً مقبولة في التعامل مع المخلفات طالما كانت داخل المنزل، يستمر ذلك حد بابه، لكنه ربما لا يتجاوزه وإن بخطوة واحدة. فمساقط الشرفات في أفخم وأغنى البيوت في مصر تعد منافذ معتادة لتطويح المخلفات، التي في النهاية تقبع في مساقط البناية التي يسكنها الرامي نفسه، فكيف تكون الحال حينما يتعامل مع الشارع والأماكن العامة والمسطحات المائية؟ بعيداً عن المبالغة، فإن مد الخط على استقامته يفي بتقديم إجابة شافية.

حجم النفايات

وفق أحدث الإحصاءات المعلنة عن وزارة البيئة المصرية، تنتج مصر كميات هائلة من المخلفات المنزلية قدرت تقريباً بحوالي 57 ألف طن يومياً في 2012، ويزداد حجمها باضطراد عاماً بعد عام. في العام نفسه بلغ إجمالي الإنتاج من المخلفات الصلبة حوالي 89 مليون طن وهو ما فاق الـ 86 مليون طن في 2006، بينما كان 67 مليون طن في 2001. لذلك تقف مصر في مقدمة الدول الأفريقية من حيث حجم المخلفات التي تنتجها سنوياً. ولا يُستفاد سوى بنسبة ضئيلة من هذا الحجم الهائل. فمثلاً، وفي ما يخص النفايات المنزلية التي مثلت في 2012 حوالي 21 مليون طن فقط من الإجمالي المذكور أعلاه، تفيد الإحصاءات أن 7 في المئة منها يستغل في إنتاج السماد العضوي بينما 10- 15 في المئة يعاد تدويرها، في حين تتراكم النسبة الأكبر 80 – 88 في المئة حول بؤر تجميع القمامة مكشوفة في الهواء على طول الشوارع وعرضها.

فرص ضائعة

بوجه عام، يتحكم نوع المخلفات في تحديد النمط الإداري الأجدى في التعامل معها، ورغم التنوع الهائل في مكونات النفايات المصرية إلا أن الطبيعة العضوية تغلب عليها. وهو ما يجب أن يستعان به كمؤشرٍ هامٍ لتوجيه بوصلة إدارتها. من ناحية، تمثل المخلفات العضوية حوالي 56 في المئة من النفايات المنزلية، فيما المخلفات الزراعية تحظى بالنسبة الأكبر بين باقي صنوف المخلفات (حوالي 30 مليون طن في 2012). ويعتبر التخلص السريع منها ضرورة بالنسبة للمزارعين، خاصة في مواسم الحصاد لتجهيز الأرض لزرع جديد، وهو ما يتم عادة بالحرق.
وفق التقرير السنوي لإدارة المخلفات الصلبة في مصر 2013 الصادر عن وزارة البيئة المصرية بالتعاون مع البرنامج الوطني لإدارة المخلفات الصلبة، فإن من خصوصيات المخلفات العضوية أنها إما أن تُستغل كمصدر هائل للوقود والسماد العضوي، أو أن تُهمل فتصير نواة لاجتذاب الحشرات والقوارض التي قد تتسبب في انتشار بعض الأمراض، خاصة للعاملين على جمع وفصل القمامة ("الزبالين").. إضافة لأن العصارة الناتجة من تحلل المواد العضوية تتسرب للمياه الأرضية فتلعب دوراً خطيراً في تلويثها، ذلك فضلاً عن أن استخدام الأراضي الزراعية في الحرق يقتل المحتوى الميكروبي للأرض فيقلل من خصوبتها. من جهة أخرى، ينتج من تحلل النفايات العضوية كميات هائلة من غاز الميثان ("الغاز الطبيعي")، جاوزت 99 في المئة من جملة الغازات المنبعثة من النفايات في 2000. وما لم يستخدم الميثان كوقود، فإنه يعمل على تلويث الهواء، ويساهم في رفع درجات حرارة الجو، كما يزيد من احتمالات الاشتعال المفاجئ والحرائق العامة. المفارقة الأخطر أنه في الوقت ذاته، قد تنتشر أزمات نقص أنابيب "البوتوغاز"، ما يعني أن التخلص من النفايات العضوية على هذا النحو العشوائي لا يعني فقط التلوث الصحي والبيئي، وإنما يُعد أيضاً هدراً لمورد طبيعي وتغافلاً عن حل واعد لأزمات الوقود.

العجز الاقتصادي

يبدو أن الفجوة بين مصروفات قطاع النفايات في مصر وإيراداته هي الوقود الحقيقي لاستمرار الأزمة وتفاقمها. على سبيل المثال، بلغ إجمالي المصروفات التي تكلفتها محافظة الفيّوم في تجميع ومعالجة نفاياتها في 2012، حوالي 23 مليون جنيه مصري، فيما انخفضت الإيرادات إلى نحو 2 مليون جنيه مصري. يعود اتساع الفجوة بين المصروفات والإيرادات ــ وفق الوارد بالتقرير المذكور أعلاه ــ لعدم توافر البيانات الخاصة بقيم المخصصات الحكومية والمالية للمحافظة للصرف على قطاع النفايات، ما يعني أننا بحاجة لاحصاءات دقيقة وشفافة لاستبيان التكلفة الحقيقية اللازمة لإنشاء وتطبيق نظام صحي آمن ومستدام في إدارة المخلفات، وبحث سبل تدبير تلك النفقات التي قدرت بحوالي 3270.4 مليون جنيه مصري، وفق مقترح تنفيذي للإدارة المركزية لإدارة النفايات التابعة لجهاز شؤون البيئة.
العشوائية السائدة في التعامل مع النفايات في مصر أفسح لها غياب قانون خاص يُعنى بتفصيل ضوابط وأطر تحكم وتنظِّم عمليات تدوير القمامة وإعدامها. لذلك ــ وفق ما أعلنته وزارة البيئة المصرية ــ فإنه من المقرر عرض مسودة تفصيلية لقانون يختص بإدارة المخلفات لتمريره من خلال البرلمان الجديد. ونتيجة للسياسات المهترئة، تتفلت العديد من المناطق والأحياء السكنية في المحافظات المختلفة من تغطية خدمات جمع القمامة، إذ يخرج منها حوالي 30 - 50 في المئة في كل محافظة من محافظات مصر على حدة، فيما تظل مسؤولية فصل القمامة تائهة في معادلة إدارتها المنقوصة. من ناحية أخرى، يُوصي الخبراء بإعادة النظر في السياسة المتبعة في مصر لتحصيل مصروفات جمع القمامة، حيث ــ وفق النظام المعمول به ــ تضاف على فواتير الكهرباء وتقدَّر قياساً على معدل الاستهلاك الكهربي. بدلاً من ذلك يُنصح باعتماد نظام "الدفع على قدر المخلفات" (Pay As You Throw)، علماً بأنه في المجتمعات التي اتبعت هذا النظام، فقد انخفض حجم نفاياتها بين 25 – 45 في المئة، كما جاء في التقرير. وكذلك، فإن تفعيل القوانين التي تقرر غرامات مالية على إلقاء القمامة في غير مواضعها يُعد محموداً، شريطة توافر أماكن عامة وميسورة لتجميعها.
"الزبالين"
يخضع عمال النظافة في مصر لظروف استثنائية في قسوتها، ربما تبدأ من النظرة المجتمعية المتعالية عليهم، ولا تنتهي بالفقر ومخالطة المرض، بل تمتد الى أحلام الأطفال بتوظيفهم في عمليات جمع وفرز القمامة إرثاً عن الآباء، إضافة لحرمان العاملين في هذا القطاع من الحقوق التأمينية والمعاشية والنقابية، إذ ينتمي أغلبهم للقطاع الاقتصادي غير الرسمي، لذلك فإن معظم الاستثمارات الناجحة في هذا الملف لا تصل إليها الدولة ولا يضبطها القانون. وتمثل وحدات الإدارة المحلية الجهة الرسمية لجمع وتصريف النفايات، وهذه الادارات عموما تشتهر بـ "الفساد المالي والإداري".
الحاجة ماسة لتتبع ودراسة تجارب وخبرات الآخرين لتبين السبل التي يمكننا اقتفاؤها. فالأمر يستحق، فنتائج الاستثمار في النفايات صارت مذهلة.

للكاتب نفسه