عندما ظهرت أولى حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19 في الجزائر، كان النظام الصحي في البلاد يعاني أصلاً من أزمة بنيوية عميقة، تلاقي السلطات العمومية صعوبات كبيرةً في الخروج منها. في الواقع، يواجه هذا النظام، منذ ثمانينيات القرن الفائت، إشكاليةً معقدة ترتبط بعدة عوامل ذاتية:
1- البلاد في قلب تحول ديموغرافي، ترافقه تحولات كبيرة على مستوى الأمراض الأكثر انتشاراً: ارتفع عدد السكان من تسعة ملايين قبل الاستقلال، إلى 44 مليوناً أواخر 2020. وما انفكَّ الهرم السكاني (توزع السكان حسب فئاتهم العمرية) يشهد تغيرات منذ سبعينيات القرن الفائت، فقد ارتفع متوسط العمر المتوقع عند الولادة من 54 سنةً زمن الاستقلال، إلى أكثر من 75 سنةً حالياً. ويتوقع أن ترتفع نسبة الفئة العمرية "60 سنةً، فما فوق" من 6 في المئة من مجمل السكان حالياً، إلى أكثر من 14 في المئة في حدود 2030. في حين ستبلغ نسبة الفئة العمرية "تحت 14 سنة" 25 في المئة من مجمل السكان، مما سيفرض على النظام الصحي الجزائري تحدياً مزدوجاً: مواصلة العمل بالبرامج التقليدية في رعاية الأمومة والطفولة، وكذلك مواجهة المشاكل الصحية الخاصة بكبار السن. وفي الوقت نفسه، يتغير المشهد الصحي بشكل سريع، فالأمراض السارية التي كانت سائدةً بقوة في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، تراجعت وانحسرت حالياً إلى طفرات وبائية نادرة، في حين أن انتشار الأمراض غير السارية (السرطان، أمراض الصدر والقلب، السكري) يتزايد بشكل متواصل، حتى أضحى الشاغل الرئيسي للسلطات العمومية.
الجزائر: الصحة في زمن كوفيد-19
11-05-2021
2- إزاء هذا التطور المزدوج، يلاقي النظام الصحي الجزائري صعوبات كبيرة في التأقلم. فهياكل الرعاية الصحية الموجودة غير كافية: تمتلك الجزائر حالياً 70 ألف سرير استشفائي، في حين أن معايير منظمة الصحة العالمية تحدد العدد بثلاثة أسرّة لكل ألف مواطن. كما أن البلاد تعاني من نقص في الأطر شبه الطبية المؤهلة، وإن كان التكوين الطبي قد وفر أطباءً بعدد وكفاءة محترمين، فإن الجزائر عرفت، على غرار بقية بلدان الجنوب، تسرباً كبيراً للأطباء المختصين نحو بلدان الشمال. بينما يتركز أغلب الذين آثروا البقاء في المراكز الحضرية الكبرى شمال البلاد، مما يخلق تفاوتاً كبيراً في توزعهم الجغرافي على مختلف المناطق.
3- أخيراً، أثرت الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد منذ 2014 بسبب انهيار أسعار البترول - المصدر الرئيسي للدخل المتأتي من الخارج - على النظام الصحي الجزائري بشكل مضاعف، إذ تسببت من جهة في إبطاء الاستثمارات العمومية في مجال الصحة، ومن جهة أخرى أدى الركود الاقتصادي في كل القطاعات إلى تزايد نسب البطالة والهشاشة، مما قلّص من القدرة الشرائية للأسر، وبالتالي قدرتها على التمتع بالرعاية الصحية التي يهيمن عليها القطاع الخاص الربحي.
لا ينبغي أيضاً أن ننسى أن هذه الأزمة الصحية ترافقت مع الأزمة السياسية الخطيرة التي هزت البلاد منذ ظهور الحركة الشعبية "الحراك" التي انبثقت في شباط/فبراير 2019، وسقوط الرئيس بوتفليقة في شهر نيسان/أبريل من السنة نفسها. ويجب أن نحيي الشعب الجزائري لتحليه بحس المسؤولية الجماعية الضروري لتعليق التظاهرات الجماهيرية، بشكل عفوي، مع ظهور بوادر الجائحة، مما أسهم في تفادي انتشار أوسع للفيروس.
سمفونية جزائرية غير مكتملة
07-01-2021
الحراك الجزائري في زمن الحجر الصحي
06-11-2020
في هذا السياق غير الملائم، حلّت إذاً جائحة كوفيد-19. ومنذ ظهور الحالات الأولى من الإصابة بالعدوى شكلت الحكومة لجنةً علمية، تضم مختصين في الأوبئة وطب الأمراض المعْدية، مهمتها تقديم النصح، والاستشارة للسلطات العمومية حول التدابير الصحية التي يجب إقرارها لمواجهة هذا التحدي الصحي. وكما هو منطقي، أصدرت هذه المجموعة من المختصين جملةً من التوصيات العلمية المتناغمة مع تلك التي سنّتها الهيئات الدولية، بالأخص منظمة الصحة العالمية. لكن تبيّن أن تطبيقها على الأرض صعبٌ، وحتى مستحيل في بعض الحالات:
1- تبيّن أن التدبير الوقائي الرئيسي، أي التقصي والعزل والعلاج، غير قابل للتطبيق بسبب النقص في الإمكانيات التقنية والمادية والبشرية التي يجب توظيفها. فعلى سبيل المثال، سرعان ما تبيّن أن تركيز نظام التقصي عبر اختبار "البي. سي . آر" غير ممكن نظراً لعدم توفر الإمكانيات اللازمة.
2- سرعان ما تبينت أيضاً محدودية قدرة المؤسسات الاستشفائية على التكفل بالمرضى من ذوي الإصابات الحادة، وذلك على الرغم من التفاني المثالي للعاملين في مجال الرعاية الصحية. لحسن الحظ، ولأسباب غير واضحة إلى حد الآن، تباطأ انتشار الوباء بشكل تدريجي، وحتى عندما حلت موجة ثانية بعد أسابيع، كانت أقل وطأة من حيث الضراوة وسرعة الانتشار.
3- أيضاً، لاقت السلطات العمومية صعوبات كبيرةً في فرض إجراءات التوقي (التباعد الجسدي وارتداء الأقنعة الطبية)، ونتجت عن التدابير الأخرى، مثل حظر التجوال وإيقاف النقل العمومي، أضرارٌ جسيمة على اقتصاد مثخن بتأثيرات الأزمة المالية. كما أن وقع الوباء على مداخيل الأسر كان شديداً، إذ أن الدولة لم تكن قادرةً في كل الحالات على تقديم الدعم للفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة.
4- أخيراً، شرعت السلطات العمومية منذ شهر آب /أغسطس 2020 في استدراج العروض للحصول على جرعات اللقاح المضاد لكوفيد، والتي بدأت حينها تظهر في السوق. سجلت الجزائر في منظومة "كوفاكس" التي وضعتها منظمة الصحة العالمية بهدف دعم البلدان الأقل ثراءً في الحصول على اللقاح. لكن، وإلى حد مطلع تموز/ يوليو 2021، فإن مليوني شخص فقط، حسب الأرقام الرسمية، قد تلقوا جرعات اللقاح، أي أقل من 5 في المئة من مجمل السكان. اصطدم تعهد الحكومة بالحصول على هذا المصل الثمين "مهما كان الثمن" بما يمكن أن نصفه بالأبارتهيد "التلقيحي" العالمي: البلدان الأكثر ثراءً منحت نفسها الأولوية في شراء وتكديس كميات كبيرة من اللقاحات على حساب بقية العالم. سرعان ما انكشفت محدودية منظومة "كوفاكس" ووجدت الجزائر نفسها، كما هو حال كل الدول النامية، ضحيةً لأنانية البلدان الغنية.
يمكن أن نصف الوضع الراهن بأنه غير مستقر: يواصل الفيروس الانتشار مع ظهور سلالات متحوّرة، وتحاول الدولة زيادة وتيرة نسق تطعيم السكان عبر فتح مراكز تلقيح على مستوى البلديات. لكن هذه السياسة ما زالت تصطدم بعدم توفر كميات كافية من اللقاح.. وإحجام السكان عن التلقيح.
خلاصة
شكلت جائحة كوفيد-19 كاشفاً قوياً لأوجه القصور والخلل في النظام الصحي الجزائري والسياسات العمومية في هذا المجال. وللأسف فإن هذا الوضع هو ذاته في كل البلدان النامية، وبشكل خاص في أفريقيا. كما أظهرت حقيقة خواء الخطابات المعسولة للقوى الاقتصادية العالمية الكبرى حول التعاون الدولي، ودعم التنمية، والتي ما إن بدأت الجائحة حتى تلاشت بشكل مخجل: فبالإضافة إلى غلق الحدود، والصراع الضاري حول الأدوية والمستلزمات الطبية في السوق العالمية، تمّ إرساء آلية تزود باللقاحات تُقصي البلدان الأقل ثراءً، في انتهاك للقواعد الأخلاقية والقيمية الأكثر بديهية.
*ترجمه من الفرنسية محمد رامي عبد المولى