مصر: متى يصبح المعلم رسولا..

يُسمع في أوساط المعلمين حديثاً تملأه الحسرة، على وضع المعلم في الدولة ومكانته في المجتمع، وتنقل الجرائد في كل صباح فيضاً من مطالب الحركات الاحتجاجية الممثلة للمعلمين في مصر، بخلاف المطالب المتكررة برفع دخل المعلم ليتناسب مع الغلاء المعيشي. ملامح أخرى للمشهد، يرى فيها المعلم قدحاً مقصوداً للتقليل من شأن المهنة والمنتمين إليها، مثل أن يرأس مثلاً وزارة التربية والتعليم واحدٌ من
2014-10-06

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
(من الانترنت)

يُسمع في أوساط المعلمين حديثاً تملأه الحسرة، على وضع المعلم في الدولة ومكانته في المجتمع، وتنقل الجرائد في كل صباح فيضاً من مطالب الحركات الاحتجاجية الممثلة للمعلمين في مصر، بخلاف المطالب المتكررة برفع دخل المعلم ليتناسب مع الغلاء المعيشي. ملامح أخرى للمشهد، يرى فيها المعلم قدحاً مقصوداً للتقليل من شأن المهنة والمنتمين إليها، مثل أن يرأس مثلاً وزارة التربية والتعليم واحدٌ من غير أبنائها، كما ساد الأمر عبر تاريخ الوزارة في مصر حتى الآن.
المحفزات التي تعمق الغصة لا تنتهي، فقد أمد لها طرفاً جديداً ما سُجِّل من غياب تام للمعلم، عبر طفرة وضع الدستور في مصر للمرة الثانية (في مطلع 2014) خلال عامين متتاليين، برغم وجود ممثل عن كل فئة من فئات المجتمع ومن ضمنهم "الأطباء والمحامون والعمال والفنانون"، ما استخدمه المعلمون كتفسير وتوكيد جديد لما يراودهم ويرددونه.
وإن كان التعليم في مصر يجابه مشكلات عديدة تعوق فاعليته وتطويره على نحو جاد، ربما في الأغلب لعلل مادية، فإن ممانعة المعلم ولامبالاته المقصودة كرد فعل، انتقامي تارة واضطراري تارة أخرى، يعدان المشكلة الأكبر. مشكلة لا يُجدي معها الاحتفال بيوم المعلم (احتفلت به مصر في 8 أيلول/سبتمبر بينما تحييه الاونسكو في 5 تشرين الأول/أكتوبر) تغافلا وتجميلا.

الكادر.. خطوة متأخرة

مع توقف التكليف (التعيين) الحكومي لمتخرجي كليات التربية منذ العام 1998 وحتى الآن، يمكن القول أن الخبرة الفعلية لأحدث المعلمين بمدارس مصر اليوم ربما لا تقل عن أربعة عشر عاماً، بينما تتجاوز الثلاثين عاماً عند أقدم المعلمين الذين لا يزالون على رأس العمل، من دون إغفال أحدث الوافدين الممثَلين بالمعلمين المتعاقدين ـ وهم المعلمون الهامشيون سواء من حيث العدد أو لجهة عدالة توزيع هؤلاء على المدارس والتخصصات المختلفة - بالنسبة للكتلة الصلبة التي يمثلها المعلمون المكلفون.
لذلك بدا أن قانون 155 لسنة 2007 الذي أقر كادرا خاصا للمعلمين قد تأخر كثيراً، حيث ارتسمت وانتظمت حياة المعلمين (خاصة الرجال منهم) بالفعل لسد احتياجاتهم التي لا يوفرها لهم العمل. من برع في الدروس الخصوصية اتجه إليها واعتمد عليها ومن لم يبرع اتجه لعمل إضافي، (فقد يكون معلماً في الصباح وسائقاً أو بائعاً مساءً).
لذلك اعتبر أغلب المعلمين حينها، أن تعرضهم للاختبارات التي اشترطتها الدولة لاستحقاق الكادر، إهانة وإمعان في إذلالهم، وقد امتنع عنها البعض في حين استعان بالغش البعض الآخر. ترتب على ذلك – بعدها - عدول الدولة عن شرط الاختبار واستبداله بتدريب.
من ناحية أخرى، فإن الكادر الذي جاء على مهل يبدو ضئيلاً ولم يوفر بديلاً كافياً ولا مُرضياً لأغلب المعلمين. وفي التعديل الأخير لقانون الكادر الذي ترافق مع إقرار الحد الأدنى للأجور لموظفي الدولة عموماً، حدثت زيادة طافرة استشعرها المعلمون ولكنها ما زالت غير كافية لقيامهم بأود أسرهم.

تدني الكفاءة

مع تراجع انتماء المعلم للمدرسة وضعف اهتمامه وقدرته على تطوير نفسه، وحيث الكتب المدرسية معيبة من حيث الإعداد وغير متجانسة، وبالإضافة إلى التطور الهائل والمستمر في مجالات العلوم المختلفة، امتدت الإصابة لتطال المستوى الأكاديمي والمعرفي لبعض المعلمين. يعزز ذلك، من ناحية أخرى، عدم وجود دورات تدريبية ولا حتى نوايا لمشاريع تتبناها الدولة لرفع كفاءة المعلم وتنمية مهاراته في التعلم الذاتي (خاصة على المستوى التخصصي)، مما يسحب من الرصيد العلمي للمعلم دون تعويض. لذلك يمكن رصد تأخر كارثي في المستوى العلمي والمعرفي لبعض المعلمين في مصر، يصل إلى رصد أخطاء إملائية ليست هينة في كتابات البعض، فضلاً عن فقر المعلومات العامة للمعلم، بل حتى في مجال تخصصه.
لذلك انتهج المعلم سبلا شتى للتغلب على ضعفه العلمي وفقر معلوماته، فقد تغنى ببعض أجزاء المنهج لتسهيل حفظها وإن كان الفهم هو مقصدها ومبتغاها، وكذّب معلومات صحيحة مقللاً من مصداقية الكتاب المدرسي موحياً للتلاميذ بصدق مرجعيته هو بدلاً عن مرجعية الكتاب المدرسي، كما أكمل الناقص بوحي من خياله كيفما بدت له منطقية الأشياء. بذلك ما عادت مشكلات المنهج الدراسي الملموسة تمثل للمعلم ذي الخبرة عبئا ثقيلاً، بل ربما كان تغيير المنهج للأفضل هو الأكثر عبئاً وإرهاقاً!
وإن كان الحشو والتلقين هما الوسيلة، فموت العقل البطيء لغالبية التلاميذ الصغار هو النتيجة، وهو ما ترصده أوراق إجابات التلاميذ التي تشكل مادة خصبة لمشهد كوميدي هائل، حيث قد يجيب التلميذ عن وحدة قياس المسافة "بالثانية" بينما يشير لقياس الوقت "بالمتر"!

التكلفة الاجتماعية

تتباين ردود فعل القطاعات المجتمعية المختلفة تجاه احتجاجات المعلمين وتظلماتهم. وبينما تسجل بعض القطاعات تعاطفاً معها، فإن البعض الآخر ـ وربما الشريحة الأوسع ـ يضيق بها، نظراً لما يُرصد من انصراف مقصود من بعض المعلمين عن الأداء الأمثل لواجباتهم، بهدف ابتزاز التلاميذ والاستفادة منهم في الدروس الخصوصية.
وعلى الرغم من الحرص الشديد الذي تُوليه الأسر لإلحاق ابنائها بحلقات الدروس الخصوصية، إلا إنها في كثير من الحالات لا تسامح المعلم على ما يتقاضاه منها، بل تنتظر العدل الإلهي في الانتقام. والمشكلة تكمن بالأساس في هلامية العقود المنظمة للدروس الخصوصية وتفاوتها من معلم لآخر، كما تتباين تسعيرتها دون وجاهة لذلك، بالإضافة لغياب الرقيب العادل عليها. فالمعلم فيها هو الخصم والحكم، وكثيراً ما يُخالف ما تعاهد عليه، فلا يلتزم بالوقت المحدد للدرس حضوراً وانصرافاً وبالتالي يتأخر في إنجاز المنهج الدراسي. ثم يُبدي اضطراره لمُضاعفة الحصص للتعويض، ما يفسره أولياء الأمر بأنه محاولة من المعلم لمضاعفة الربح، بالإضافة لما يربحه المعلم من المذكرات الخاصة التي قد يبيعها بأسعار مجحفة. الأهم من ذلك كله هو، أن الدفع لا يضمن تلقي الخدمة المرجوة، فقد يرسب التلميذ رغم كل شيء، وبخلاف الرسوب فإنه في كثير من الحالات لا يتعلم شيئاً! وبالتبعية، استمد التلميذ نظرته لمعلمه من نظرة أسرته له، فقد تضاءلت القيمة الواقعية لكلمات أحمد شوقي "كاد المعلم أن يكون رسولا" المنحوتة على جدران المدارس، وما عادت سوى أبيات شعر جميلة ربما تحكي عن حالة مضت وصارت تاريخاً.
الطريف، أن بعض المعلمين أنفسهم يؤكدون أن أموال الدروس الخصوصية "منظورة" و"غير مباركة"، كما يعبر بعضهم.

مسكنات الدولة

"مش هتعيشني .. هعيش نفسي"، هكذا علق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إبان احتفاله بيوم المعلم هذا العام، مبدياً تفهمه لواقع الحال المتأزمة التي تدفع المعلم نحو الدروس الخصوصية. وفي الاتجاه نفسه تصب معظم تصريحات المسؤولين نحو الاعتراف بالمشكلات التي تواجه المعلم ومحاولة السعي لحلها، في حين لا يقابل هذا التعاطف بإجراءات ذات مردود على الأرض، فالنشرات الوزارية التي ترسم الإطار القانوني للعمل في المدارس تُلزم المعلم باتباع أحدث الأساليب التربوية في التعليم من دون أن توفر له ما يلزمه لذلك. يلقي ذلك بأعباء المنظومة كافة على عاتق المعلم ويضعه وحده في وجه المساءلة. يقلل هذا من مصداقية التصريحات المتعاطفة ويجعلها مجرد "طنطنة" من قبيل المسكنات، التي تعزز الشعور العميق لبعض المعلمين ببيع القضية. فاللاجدوى مرادف لواقع العملية التعليمية برمتها في إدراكهم، خاصة ذوي الخبرة الطويلة منهم، بما عايشوه من تناقضات وتضاربات تصل لحد المهازل، سواء في ما يخصهم بشكل مباشر من قرارات أو ما يخص التلاميذ أو المناهج والسياسات التعليمية بشكل عام.
وإزاء الحاجة الماسة لدماء جديدة تغير مجرى الحياة التعليمية "المتكلسة"، جاء قرار تعيين 30 ألف معلم مؤخراً ليعطي بارقة أمل. ولكنه أمل يظل مشوباً بالتخوف المشروع: هل ينجح المعلمون الجدد في إضافة خطى على طريق استعادة مكانة المعلم؟ أم ستبتلعهم المنظومة العتيقة في دهاليزها السحيقة؟

 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه