إن كان الغش ينضوي بالضرورة على تزييف الحقيقة، فهو لا يقتصر في الامتحانات المدرسية على ما يتحصل عليه التلميذ من نتيجة لا تعبِّر عن مدى إنجازه الحقيقي في المواد الدراسية المختلفة، بل يتقنع الغش بوجوه عدة تبدأ بالترويج للامتحان كهدف بحد ذاته، وتمتد لتطال طريقة وضع الأسئلة، وتزيد بإعلاء النتيجة مقياساً لمستوى التلاميذ، بغض النظر عما تعكسه من مدى نجاح أو إخفاق النظام التعليمي برمته في تحقيق الأهداف المرجوة.
غش الممتحِن... قبل الممتحَن
تُشدد علوم الاختبارات على ضرورة التفرقة بين مفهومي «التقييم» و«التقويم»، فإن أفاد الأول عن مدى تحقق الهدف من خلال الأسئلة، لزم الثاني معالجة الإجابات السلبية التي تنم عن عدم تحقق الهدف.
ولما كانت المادة المعرفية في المناهج المصرية تركز بالأساس على الحفظ، وإن زادت تصل للفهم على استحياء، مع غياب شبه تام لمستويات الإدراك العليا، فقد صارت طرق التدريس تعتمد بالأساس على التلقين دون إثارة للفضول المعرفي، بما يصبح معه ان الغش هو في أن يقيس الامتحان مهارات لم ينمِها النظام التعليمي إن لم يكن يجهضها. لذلك نجد السؤال الغامض المشوش مقصود، يعبر عن وجهة نظر واضعه وطريقته الخاصة في فهم المادة العلمية، هو ما يُزعم أنه وُضع ليقيس مستويات التفكير العليا، كيف والنظام برمته لم يقدم سوى الحفظ، فبأي حق يقيس مهارة غيره، حتى وإن كانت تلك المهارة تتعلق بقدرته على فك طلاسم خواطر الممتحِن؟!
... ظل ظاهرة أم صار عادة؟
الجديد أن أفكاراً أنشأتها أجواء التعليم المشوهة في مصر صارت تسوِّغ للمعلمين قبول غش التلاميذ بالدعم والمباركة، استكمالاً وإتماماً لفساد المنظومة التعليمية المعطوبة.
وإن كان التوثيق البحثي والإحصائي في هذا الملف صعباً ونادراً، إلا إنه ما بين القائمين على العملية التعليمية من (المعلمين والموظفين) والمنتفعين أو المتضررين منها (الطلاب وأسرهم)، يمكن الاتفاق بأريحية على كون «الغش» بات «العادة». وقد يعزز ما رصدته الملاحظة العابرة والمعايشة القريبة، ما سجلته الأبحاث وعملت عليه بعض المشروعات الصغيرة «لمحو أمية» الكثير من الطلاب المقيدين بالمدارس المصرية في مراحل تعليمية متقدمة! ما يعني ان اجتيازهم الامتحانات وانتقالهم من صف لآخر لم يكونا مبنيين على نتائج أمينة.
الغش رذيلة... ولكن
من السهل الإجماع على كون الغش رذيلة تأباها الفطر السليمة ويستنكرها ذوو العقول، وإن تصدرت الأديان عناوين لصراعات مجتمعية عدة، فهي كافة تنهى عن الغش وتحذر منه. وبينما يردد المسلمون الحديث الشريف «من غشنا فليس منا»، يردد المسيحيون آية «صن لسانك عن الشر، وشفتيك عن التكلم بالغش» (سفر المزامير/ 34:13).
ورغم ما تضمه المدارس المصرية من طيف واسع من المعلمين تحمل ملامحهم التباينات الأيديولوجية التي يتبنونها، ورغم ما يمكن أن يُرى بينهم من اشتباكات حوارية عنيفة بين المحافظ والمنفتح والمعظّم لشعائر الدين وغير المكترث بها... يُلاحَظ تشابهُ الابتسامة الواسعة لكثير منهم والنظرة الرائفة بمساعي التلاميذ الدؤوبة على إتمام غش إجابة الورقة الامتحانية، إبان المشاركة في أعمال المراقبة على التلاميذ أثناء الامتحان.
الأسباب والدوافع
دخلت مباركة المعلم للغش لترسم ملمحاً جديداً في وجه التعليم الكئيب، ولكن للأمر «تاريخا»، بدايته تدني دخل المعلم وتجاهل الدولة لمطالبه، ما سَوَّغ له اضطهاد التلاميذ ليحصدهم في الدروس الخصوصية. تبع ذلك سياسات تقلص سلطات المعلم وتشدد على حق الطالب، فتطور دور المعلم من المتسلط إلى المتودد، وما عاد بعد ذلك يستسيغ «التقتير» على التلميذ الذي دفع مرات ومرات وأنفق جهده جرياً بين الدرس والآخر، بما بدا معه أن التلميذ دفع ثمن نجاحه، فكيف بعد ذلك لا ينجح؟ فضلا عن أن نجاح تلاميذ معلم ما يثقل اسمه ويرفع سعره في سوق الدروس الخصوصية! وإن لم يراقب المعلم على تلاميذه الخصوصيين فإن دعم الغش وإرسائه نظاماً يجعله مكفولاً للجميع.
المعلم المهني... «الطيب أحسن»
في ظل كل هذا الخلط يعجز المعلم «المهني» (الذي يحترم نفسه ومهنته) عن العمل على منع الغش، فسياسات التعليم وأجواؤه المهترئة لا تفسح له مكاناً إلا ليقع وفق التصنيف المتاح: موقع ذاك الذي يُرهب التلاميذ ليحصدهم في الدروس الخصوصية. فكل معلم يرفع صوته يعرض نفسه لتلك الشبهة! والتحقيقات القانونية هي الإجراء المتبع مع كل معلم يثير البلبلة في اللجنة الامتحانية، والتي عادة ما تنتهي بتخطئته هو بشكل أو بآخر. يضاعف هذا العجز من ترهل دور المعلم وانحسار مكانته، ليخشى بعضهم انتقام التلاميذ البنين خصوصاً - في حال منعهم من الغش، استناداً الى الخبرات المتناقلة في الوسط بين قصة حرق سيارة فلان وإلقاء الكاز على مقاعد مدرِّسة ما في اليوم الأخير للامتحان، ما نتج منه اتباع فئة كبيرة من المعلمين لسياسة «الطيب أحسن»، وهو ما يؤكده تسجيل نسب غياب أعلى بين المدرسين في اليوم الأخير للامتحان!
... أقل الغشاشين
معروفة الأسباب التي تقف وراء لجوء التلاميذ إلى الغش. فالتلميذ، سواء كان في مرحلة الطفولة أم المراهقة، يشتبك بمغريات الحياة غير المتناهية التي تعطله عن مذاكرة الدروس واستظهار المناهج الدراسية المعقدة. ورغم محاولات المواءمة اليومية بين ما تستحقه هذه المغريات وتلك المناهج من وقت، تجور الأولى غالباً، وبحق، على الثانية إلى أن يأتي الامتحان ولم ينته ما وجب الانتهاء منه. يقع التلميذ حينها بين ضغط ما تكبدته أسرته لينجح وإغراء ما يستبيحه معلمه للنتيجة ذاتها أيضاً. يخفت بداخله الصوت الرافض للغش رويداً رويداً حتى يصمت تماماً! فتسول له نفسه فعل ما استباحه مُعلمه ومُمتحِنه وغيرهما كثيراً، ما يبدو معه التلميذ أقل الغشاشين وطأة، ومع ذلك فوحده هو من يدفع ثمن غش المنظومة بأكملها، يدفعه من عقله ووقته وجهده وضميره!