ثنائيةُ الحبِّ والحرب، في كتاب ريم مجاهد "حكايا من اليمن"

أحداثٌ متنوعةٌ، ومضامينُ حياتية متشابكة، بين الحب والحرب، اضطهاد النساء وكبت حرياتهن، الفقر والجوع، معاناة المهمشين. سلسلةٌ متواليةٌ من التفاصيل...
2021-07-08

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
غلاف رواية "حكايا من اليمن" للكاتبة اليمنية ريم مجاهد، من اصدار السفير العربي، 2021.

يطل "السفير العربي" بكتاب "حكايا من اليمن"، للكاتبة والصحافية اليمنية ريم مجاهد، سبق وأن نشره الموقع على حلقاتٍ، وصلت إلى أربع وعشرين حلقة.

 بأسلوبٍ سردي متدفقٍ، استوتْ نصوصُ الكتابِ روايةً ازدحمت بأحداثها اليمنية البحتة، المنتمية إلى زمنيةٍ سادت فيها الحربُ المشتعلة، منذ أن قُدِحتْ شرارتها الأولى في 25 آذار/ مارس 2015.

أحداثٌ متنوعةٌ، ومضامينُ حياتية متشابكة، بين الحب والحرب، اضطهاد النساء وكبت حرياتهن، الفقر والجوع، معاناة المهمشين،... سلسلةٌ متواليةٌ من التفاصيل، التي لا يمكن الإحاطة بها في مادةٍ واحدة، وهو الذي سوَّغ اقتصارَ هذه الورقة على ثنائيةِ الحب والحرب، ولما في هذه الثنائية من تماهٍ مع تلك المتوالية من التفاصيل والمضامين بشكل أو بآخر.

تبلورت ثنائية النقيضين (الحب/الحرب) في هذا العمل، من خلال الأحداث الكاثرة المتقاطعة بمنطقيةٍ زمنيةٍ وموضوعيةٍ فاعلة، توزعت على أربع شخصياتٍ رئيسة: علي، ماجدة، سلمى، نادية، وعلى شخصياتٍ ثانويةٍ متماهيةٍ مع الأحداث المترتبةِ على غاياتِ الشخصياتِ الرئيسة وميولها وصراعاتها.

تميّزتْ شخصيةُ علي، على غيرها من الشخصيات الرئيسة، بخصائص أهَّلتْها إلى أن تكون شخصيةً محورية، متصلةٌ بها الأحداث والأفكار ومصائر الشخصياتِ الرئيسة، بتفاوتٍ نسبي من شخصيةٍ إلى أخرى. كان الحب أيقونةَ اتصالِ هذه الشخصية الفاعل في حياة ومصير الشخصيتين: ماجدة وسلمى. وكانت صلة القرابة هي آصرة اتصال الشخصية بحياة نادية بشكلٍ غير فاعلٍ في جوهرية مصيرها.

شخصيةُ علي مهتزة، ساذجة، باحثٌ عن الحب، حيث استهل البحث عن غايته في سنته الجامعية الثانية حينما تحدث لزملائه عن إعجابه بفتاةٍ ثرية، فكان أضحوكةً بينهم. ذهب به بحثه نحو العنوسة، بعدما يئست أمه من استمالته نحو واحدةٍ من الفتيات اللواتي كررتْ سرد أسمائهن عليه في أكثر من مناسبة.

تَدْخل ماجدة حياة علي وجدانياً، بشخصيتها القروية المتطلعة إلى الحب، المُطَّلِعة على كثيرٍ من مظاهر التعاشق، وأخبار العلاقات المحرّمة، من خلال ما تتبادله الفتيات من حديث حول ذلك. لم تحسم أمر عاطفتها مبكراً كغيرها من الفتيات: "كل الفتيات يقررن من سيكون شريكهنَّ في وقت مبكر من حياتهنَّ، لكن ماجدة كانت أقل حظاً، ولم تقرر بعد من سيكون شريكها ولم تقرر لها الفتيات... لذا بدأت ماجدة بالتفكير بجدية في الموضوع منذ شاهدت الفتى المتعلم في المدينة".

كانت هي المبادرة في لفت انتباه حبيبها الجامعي القروي، علي، متفردةً من بين الفتيات في الإقدام على أخذ علبة الشكولاتة من يده وهو يمد بها إليهن، حينما صادفهن في طريقه عائداً إلى قريته في إحدى سفرياته بين مدينة دراسته وقريته. اتجهت إليه، وبقصديةٍ ثبتتْ عينيها في عينيه، لتربكه. أربكته، وتوغل فيها تداعي الموقف، غير ملامسٍ عاطفة الحبيب، الذي تعاطى معها بعاطفةٍ انتهازية، استوعبت مشاهدَها دلائلَ حبٍّ يُكنّه لها، كتبادله معها الابتسامات، والسلام العابر.

تفانت في استثمار كل موقف يقرّبها منه، وصولاً إلى شجاعتها في اعتراض طريقه، ولامبالاتها بما آلت إليه محاولاتها من وشاياتٍ بالَغَ أصحابُها في توصيفِ علاقتهما إلى الحد المثير لحفيظة أهلها، الذين ـــ بدورهم ـــ قرروا تزويجها بابن خالتها. أبلغتْ الحبيب بالأمر عن طريق ابنة أخته. كان الجبن موقفه، إذ نفى علاقته بها، وتولت أمه وأخته تدبيج الرد القاتل نيابةً عنه. فلم تجد العاشقة ـــ بعد أن وصلها الرد القاتل ـــ إلا الانتحار ملاذاً ونهايةً لحياتها. نفذت قرارها، وأنهت حياتها منتحرةً في خزان الماء الكبير. خالجتْها في آخر لحظةٍ فاصلةٍ بين حياتها ومماتها أمنيةُ الشقاء للحبيب ـــ وهو ما لازم حياة علي بعدها. كانت الضوضاء متخمةً بالحيرة في كيفية إخراج جثة الفتاة من خزان الماء، وجد علي في نفسه ما يدفعه إلى المبادرة في الاضطلاع بالأمر. أخرج جثتها، وبادر ثانيةً في تولي حفر قبرها، محاولة غير مجدية منه في مواراة مشاعر الندم التي سحقته تلك اللحظة.

لم تغب الحرب عن هذه الحادثة العاطفية، إذ اتحدت الحرب والحب في تداعياتهما. فالجثة الهامدة هي مصير الفتاة، وهو المصير الذي تتمخض عنه الحرب جثثاً كل يوم. فالموتُ قاسَمٌ مشتركٌ بين الحب والحرب، تكاثف حضوره في اصطلاحاتٍ متعددة، كانت الجثث هي الأكثر إحالةً دلالية عليه في نصوص هذا العمل.

استجدّ في حياة علي مسارٌ وجداني آخر، حينما تخلَّقتْ قصةُ الحب بينه وبين سلمى، في فضاء التواصل الاجتماعي، تحت وطأة الحرب وانعدام المسارات الحياتية الأخرى لشغل الفراغ. كلاهما يبحث عن الحب، وكلاهما كانت وسائل التواصل الاجتماعي فضاء بحثهما عن غايتهما.

نسجت قصصُ الحرب علاقتهما الوجدانية، فكانت مما يتبادلانه في تواصلهما على الفضاء الافتراضي، "مارّين بكل ما يحدث في البلد، متناولين قضاياه ومحللين المصائب اللامنتهية. يتخلل ذلك حكايات شخصية، دعابة، وبالطبع غزل وحب واحتياج،... [فقد] كان للحرب مسمياتها الحماسية الخارجة من قصص التاريخ، وكان للحب أن يعيد كل تلك المسميات في رسائل الليل السرية".

تنامت علاقتهما تنامياً متسقاً مع ماهيتها العاطفية، متفوقة هي عليه في السحر العاطفي وفي مهارة الكتابة. سلمى معذبةٌ بانتمائها إلى طبقة "المهمشين". أخفت عنه ذلك، فحافظت على هالتها عنده. صعقتهما المفاجأة حينما التقيا، فوجئ بحقيقةِ طبقتها الاجتماعية، انكسرت هي حينما لاحظت عليه ملامح انسحابه وتخليه عنها. في تلك اللحظة الحرجة ذاتها افترقا، إذ اقتحم مسلحون المكان وقبضوا على من فيه بحجة الاختلاط. الحبيب واحدٌ من المقبوض عليهم، أما الحبيبة فقد نجت، بفضل لون بشرتها الذي لم ير فيه المداهمون أهليةً لأن تكون ضمن المقبوض عليهم، ظناً منهم أنها عاملةٌ هناك، لا عاشقة التقت بحبيبها.

قطع علي تواصله مع سلمى بعد ذلك، تمزق بازدواجية رؤيته فيما حدث، ازدواجية بين غضبه منها وغضبه عليها. لم يستطع التحرر من جوهر حبه لها، تذبذب بين طريقين: الانتصار للحب، أو للتعالي الطبقي/العرقي، انتصرت فيه نزعة التعالي الطبقي، استمرأ إحساسه بأنه ضحية لخداع الحبيبة.

لم تبرأ هي من حبه، مسكونةً بانصعاقها من سلبية موقفه. فوجئت بخبر اختفائه، بحثت عنه، غير شاكةٍ باستحالة عودته إليها فهو من تخلى عنها، ولن يقْبل بها، لكنها مع ذلك تعزي نفسها بأنها فقط ستخرجه من سجنه ثم تبصق في وجهه منتصرة لكرامتها. انصعقت بالمفاجأة القاسية لحظة خروجه من المعتقل على هيئة مومياء هي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. استقرت عينه عليها غير قادر على الكلام. كان مثخنًا بالشقاء، تلك الأمنية التي تشبثت بها ماجدة في آخر رمقٍ لها من حياتها.

وهنا تظهر تداعيات قصة ماجدة بحيويةٍ في مصير علي. ومثل ذلك حيوية تداعيات تلك القصة في حياة قريبتها نادية، وإن بصورةٍ أخف منها في حياة علي، كون تلك التداعيات ليست سوى قدراً احتمالياً في مصير نادية، تلك الفتاة اللامبالية بشيء، غير الملتزمة بشيء، الباحثة عن الحرية، الكاسرة القيود التي تطوقها بها أسرتها، مثلها مثل غيرها من فتيات المجتمع المتخم بالكبت والانفصام، تجمعها صلة القرابة بكليهما علي وماجدة.

لم تشعر نادية بميل عاطفي نحو علي، مع أنها مثله من المحلقين في فضاء الفايسبوك بحثًا عن الحب، في تماهٍ "تتشاركه مع الآلاف من الشبان والشابات في مجتمعها والمجتمعات المشابهة: يبحثون عن الحب. ولم يكن من المخيف أو الغريب أن يكون هذا الحب افتراضياً وله مخاطره، كانت الغاية هي الشعور ذاته والقصة فحسب، وما يليه أو ما سيؤول إليه متروك للأقدار تقرره أو تعبث به".

حينما جاءها خبرُ اعتقال علي تحدثت مع صديقتها وداد، وكانت قد تبلورت لدى صديقتها تلك فكرةُ العمل الطوعي على إعادة جثث الأموات إلى أهاليهم. تحمست لمشروع صديقتها، وأُدْرِجَتْ مهمةُ البحث عن علي في جدول أعمال المشروع الطوعي. التحقت بهذه المهمة سلمى، حيث كان لصداقتها الفايسبوكية مع نادية دورٌ في التحاقها بمهمة البحث عن علي، الشخص المشترك بينهما. "فهو الحبيب النذل، وأيضاً القريب الذي يكتب عن الجثث الملقاة في براميل الزبالة".

 لم تتخل الحرب عن فاعليتها المركزية في مسارات العلاقات العاطفية، اتساقاً مع هيمنتها على الحياة اليمنية بجوانبها المختلفة. فقد "كانت الحرب في كل مكان، في البيوت المهدمة، في جوع الناس، في الشعارات، في صور الفتية الشهداء على الجدران، وعلى طرفي الحدود الوهمية. كان الجميع شهداء، القاتل والمقتول، الغازي والمُدافع"، وهذا هو ما جعل من قصص الحرب محتوى ثرياً، يحفظ لمحادثات علي وسلمى نسق استمرارها. وعاقبةً لكتاباته عن الحرب كان اعتقاله وتعذيبه والتنكيل به، وارتباطاً بكل ذلك وتماهياً معه جاء بحثُ سلمى ونادية عنه، والخروج به معلولًا في طريقه إلى موته، لا إلى حياةٍ قادمة.

 تأَطَّرَتْ سرديةُ هذا العمل ـــ تقنياً ـــ في واحدٍ من أشكال البناء الروائي، ذاك الشكل الذي يبدأ سرديةَ الأحداث من النهاية، حيث بدأ عمل الكاتبة ـــ هذا ـــ من حدث النهاية (موت ماجدة وتداعياته)، فكانت بدايته هي أحداث اللحظة التي تم فيها إخراج جثة الفتاة من خزان الماء. بعد ذلك تتابعت سردية الأحداث، في تصاعدٍ منسوجٍ بمنطقيةِ الأحداث المتتابعةِ، وسيرورة الزمن المستمر غير المتضمن استباقاتٍ أو استرجاعاتٍ جوهرية. وصل هذا التصاعد إلى النهاية، التي كان تأطيرها متجانساً مع البداية، حينما استقام على تنوير الحكاية بحيثيات الموت، من خلال سردية قصة الحب، بقطبيها، ماجدة وعلي، ونهايتها المأساوية.

قصة ماجدة تلك، لم تكن تأطيراً للبداية والنهاية فحسب، وإنما كان لها حضورها الحيوي في العمل، متمظهرةً في أكثر من موضعٍ فيه، حيث جسدت فكرةً سرديةً ناسجةً للنصوص، فتكاثف حضورها في البداية، ثم بشكل متقطع في مواضع من العمل، لتظهر كثافتها بشكل أكبر وحقيقتها بجلاء، في النص الأخير، المعنون بـ "فستان مزركش يطفو". وقد أفضت مركزية الفستان في هذه العنونة ـــ بما في هذه العنونة من امتداداتٍ نسيجيةٍ في نصوص العمل ـــ إلى استدعاءٍ لتجربة الكاتبة مع هذه التقنية السردية ـــ الفكرة السردية الناسجة للنصوص. فهذه التجربة تبدو أكثر حضوراً في الوعي السردي والتدويني، وهي التجربة ذاتها التي نسجت بها الكاتبة نصوصها الستة التي نشرها "السفير العربي"، قبل نشر نصوص هذا العمل، تلك النصوص التي جمعها واحدٌ من "دفاتر السفير العربي"، تحت عنوان: "اليمن بعدسة ريم مجاهد"، حيث وردت البلوزة بفاعليةٍ نسيجيةٍ في كل نص من النصوص الستة.

وقد اتخذ الفضاءُ الزمني للأحداث ـــ في هذا العمل ـــ من الحدود الموضوعية والمكانية ما يحيل عليه إحالةً غير مباشرة. يظهر ذلك في سنوات التعليم الجامعي للشاب علي، تليها سنوات الحرب الأخيرة في اليمن. كما يظهر ذلك في المكان الذي اتسم بعمومية الدلالة على جغرافية اليمن فضاءً مكانياً للأحداث.

 إن مضامين كتاب "حكايا من اليمن"، موضوعاتٌ زاخرةٌ بصورٍ متعددةٍ للحياة اليمنية المعاصرة، كان لثنائية الحب والحرب فيها هيمنةٌ نسقيةٌ بازداوجيةٍ وجودية حتمية، محيلة على الجوهرية الإنسانية في مواجهة الخراب بنقيضه، والحب من أبرز نقائض الحرب والدمار. ومع ذلك، فقد مُنِيتْ هذه العاطفة في نصوص العمل، بحربٍ أخرى مختلفة عن الحرب العسكرية والاقتتال الأهلي، إنها تلك الحرب التي تشنها الذهنية الاجتماعية ذات البنية الثقافية المعيقة لقيم المساواة والمتأزمة بالتمييز العنصري، فكان انتماء سلمى إلى فئة المهمشين طعنةً قاتلة، صادرت إمكانية استمرار علاقتها بحبيبها المنتمي إلى فئة أعلى من فئتها الاجتماعية.

لقد جاءت نصوص هذا الكتاب، في سياقٍ مطردٍ متنامٍ، من سرديةِ الحرب في اليمن، تلك السردية المتخلقة من الدمار، ومن الرغبة في مواجهة الموت بأسباب الحياة. وهي سردية جديرةٌ بالقراءة والتأمل في سياقاتها الفنية والموضوعية المتوهجة مع كل إصدارٍ سردي جديد. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...